الشاعر ضمير عصره
دراسة نقدية لديوان الشاعر محجوب شريف "الأطفال والعساكر"
مقدمة كتبها الراحل د. جيلى عبدالرحمن لديوان الشاعر محجوب شريف الذى عمل على أصداره المكتب الثقافى لإتحاد الطلاب السودانيين فى الإتحاد السوفياتى. حينها كان الراحل يعد فى رسالة الدكتوراة فى معهد جوركى للأدب بموسكو. والحق يقال أن الأخ سليمان محمد إبراهيم، المسؤل الثقافى للإتحاد حينها، كان السباق بطرح فكرة إصدار الديوان وتابع الفكرة بإصرار مع الأخ د. إبراهيم النور الذى كان حينها نائباً لرئيس اتحاد الشباب العالمي وتحمس للفكرة ووافق على نشر الديوان بدعم من اتحاد الشباب العالمي، وهو الذى وقف خلف فكرة هذا التقديم الذى سطره الراحل.
============
لا نبالغ إذا قلنا أن هذا الديوان- وهو بعض من شعر صاحبه- يمثل قمة للفن الثورى الأصيل الذى يتكامل فنياً وديمقراطياً فى السودان، وانفجر كالإعصار فى خضم المد الجماهيرى الذى توجه شعبنا بإنتفاضة 19 يوليو 1971 م. إنه من ظواهر الطبيعة الاجتماعية إذن... تلك التى بدأت مخاضها بالثورة المهدية، واستكملت حلقة صاعدة فى ثورة 1924م.، ثم تبوأت قمة جديدة بانبثاق الحركة الوطنية- والماركسية بالذات- بعد الحرب العالميَّة الثانية لتصفية الإستعمار البريطانى... ثم إستكمال الثورة الوطنية الديمقراطية... وأخذت خصائصها الجديدة تستبين فى عاصفة اكتوبر 1964... ولا نقول أن هذا الفن قد انفجر إعصاراً عاتياً فى السبعينات من باب التزويق البيانى... فنحن نعنى بذلك أن راياته المشرعة، وسماته فى الشكل والمحتوى قد اكتسبت نوعية وميلاداً جديدين.
لم يجث هذا الفن على ركبتيه، أو ينكس رأسه، وكما يحلو لمحجوب شريف أن يقول لم ينكسر سيفه... والسيف هذا لا يتقلده نبيل من سلالة الإقطاع أو "محلق" نجيب من قبائل الهدندوة... فمثل هذه السيوف والجياد قد ولى زمانها... ولكن سيف الشعر أحمر صقيل، رمز يستمده من التراث الشعبى ويغنيه بدلالات إنسانية زاخرة... والعشيقة التى ينافح عنها هذا السيف هى سماء الخرطوم، ونقاوة التربة، وشرف الوطن... وإن كانت ثمة ولهى فى إنتظاره فإنها تلتحم بالسماء والتربة والشرف، وإلا فليس بينه وبينها من واصل... وإذا كان هذا الفن لم ينحسر بالردة... وإنما ردها على أعقابها، ووضعها فى قفص الإتهام... بل غدا قاضياً يسترجع الأوضاع المقلوبة الى نظامها الصحيح... ويحشو البنادق بالرصاص ليسددها الى صدور الخونة... ويرفض فى اباء المقولة الخاسرة بتركيع الثورة- مما سنوضحه بشئ من التفصيل فيما بعد- نقول أن هذا السيف لا يستجدى الأمل، أو يدق النحاس لواهنين وجلين، ولكنه شاهد وضمير عصره... فهو يحيل الحلم الى حقيقة... ويخوض معركة كتب فيها للشهيد أن يكون عريساً، والصرخة زغرودة، والمتهم قاضياً... ويخلع عن المجرم رتبته وأوسمته ليقبع فى مكانه من القمامة ملطخاً بالدم، وقد علقت على رقبته المشنقة التى نصبها للشرفاء.
بالأحضان نستقبل هذا الديوان الذى يطرب أفئدتنا بنغم الوطن، وعبق دم الشهداء... ولن نقف لدى الهنات التى قد يتعرض لها الشعر حينما ينظم قصائده فى السجون وقد شح الورق، أو ما يبدو فى الديوان من نبرة عالية تقرب حيناً من الهتاف أو التكرار... فهذه الهنات لا تقلل بحال من المكانة المرموقة، والركائز الفنيَّة التى أرساها الشعر فى مسيرته الثورية.
فى قصيدتين من قمم الديوان يؤكد محجوب شريف إنسانيته... بل تنسكب أضلعه فيهما- ألماً وأملاً- يمتزجان فى ديالكتيكية الصراع، وهما "الحب والثورة" و "رسالة الى مريم محمود" وكأنما يقول بهما فى نقاء ثورى مؤثر- بعد إستنفار الهمم، ورفع راية التحدى والعصيان- ها أنا ذا إنسان بسيط، واله محب، كأعمق ما يكون العشق والشوق... فليست تلك العواطف نصيبكم وحدكم أيها الشعراء العاكفون فى محراب العزلة... لا... إننا نعتقها وهى تثرى بنا، ولكن حبى يعانق الثورة، مريم تجسد الأم السودانية الأصيلة التى لا ترضى "الشين" والعار لإبنها... إن الرمز يرتفع ويسمو حتى تصبح حبيبتة وأمه كل ما يملكه من تراث وشمم وذكريات
مشتاقلك كثير والله
وللجيران وللحلة
كمان قطر النضال ولى
وغالى علىَّ ادلى
ليس هذا موقفاً أجوفاً يريد تسجيله ولكنه يشتاق كثيراً إليها- ويقسم والى الجيران والبيوت... ولن يدع قطار النضال فدون ذلك المنية المعنويَّة... ولمن يترك رفاقه؟ ما أخساها من عودة!
هل يقبع محجوب شريف وراء القضبان راضياً فى تفاؤل سلبى؟ أم أنه دنيا تموج بالحياة والذكريات والدفء، واللوعة... الحاضر هنا إمتداد الماضى... والمستقبل حصيلتهما... ونداؤه لرفيقته عشق ثورى، لم تعرفه الرومانتيكية الخيالية الغارقة فى الذات، والذات وحدها!
محطة... محطة بتذكر
عيونك ونحن فى المنفى
وبتذكر مناديلك
خيوطها الحمرا... ما صدفة
وبتذكر سؤالك لي
متين جرح البلد يشفى
ومتين تضحك سما الخرطوم
حبيبتنا ومتين تصفا؟
مثل هذا الحب ينبع من قلب إنسانى، لا يتسع لإنسانه فقط... ولكنه يستوعب هموم الفقراء الذين من أجلهم سيق الى السجن، إنه الحب، القضيَّة، الموقف... وليس ثمة عموميَّة فقد نسج العلاقة بالخيوط الحمراء، بسؤالها عن الجرح الأحمر، وسماء الخرطوم التى يعكر صفوها الإكفهرار... وتفيض إنسانيته فيصفح عنها حتى لو نسيته أو ذرفت على غيمته الدموع... ولكنه يحرضها عليه ان القى سيفه وخان الثورة... ولعمرى ليس من إلتزام أوثق، أو إنسانية ثورية أصفى من ذلك السمو... وطرح السؤال فى حد ذاته تعبير دراماتيكى عما يكابده... إنه يضوى النقيض بالنقيض... ويتغلغل داخل الحدث فيمنحه تأثيراً وبلاغة نفاذتين..."اننى سوف أصفح عن ضعفك... ولكن إياك أن تقبلى ذلتى وهوانى"
أسامحك لو نسيتينى وأهنتينى
وبكيتى علىَّ
لو فى يوم رميت سيفى
ورفعت إيدىَّ
وخنت الثورة... جيت والذلة فى عينىَّ
حرام عينيك بناغمونى ويرحبو بىَّ
حرام إيديك ينومن تانى فى إيدىَّ
ليست سادية تستهويه، أو تعذيباً نفسياً... ولكنها طهارة ثورية، صدق مشروع، فإن تدنس فى وحل الخيانة... فهيهات أن تدغدغه ألفة.
القطار يرمز للإندفاع، والمنفى رمز للقهر المفروض، والسيف يرمز للمقاومة، والحوار تعبير عن الصراع والإصرار اللذين يقنعان فى فنية وصدق، والقوافى رقيقة وتتناثر داخل القصيدة "يقربنا ويعذبنا" "أشيل شيلى"، "نسيتينى، وأهنتينى " فتكسبها عذوبة وهمساً... ومن ديالكتيكية العلاقة... والمقابلة، والنقيض يعاهد قمر ليله
وحياة أمنا الخرطوم
أشيل شيلى وأشد حيلى
وأموت واقف على حيلى
وأقولك يا أعز الناس
على الوعد القديم جايين
وبين الثورة والسكين
شيوعيين
حتى الموت شيوعيين
هل فى هذه الجهارة زعيق يؤذى الآذان المرفهة؟ إنها لم تعتد على ذلك الزهو النابى بعد أن إستمرأت الكلمات الصقيلة، واختفت وراء الإستعارات المبتسرة، والضباب المفتعل... ولكن محجوباً يخدش أوجهها الرقيقة ويصرخ... شيوعيين، حتى الموت شيوعيين!
ان هذا الفن يعلن عن سمة جديدة هى وضوح الرؤية الشعرية أو ما نسميه بالجهارة الثورية... وهى تختلف تماماً عن التلخيص الكلاسيكى والعظات التى عرفها بعض الشعر العربى فى مطلع هذا القرن فى السودان من مباشرة فى شعر العباسى وعبدالله عبدالرحمن وغيرهما... لقد عانت هذه المباشرة من اوبئة السطحية والتقرير فى التعابير الجاهزة والحكم، والعظات واللجوء الى بطون الكتب، ولذا فإنها افتقدت الحيوية والتعبير الصادق عن الواقع بتناقضاته العديدة.
وتختلف هذه المباشرة الجديدة عن الواقعيَّة السودانية التى اقتحمت الخمسينات... وفرضت شرعيتها وقتئذ... لأنَّ تلك الواقعيَّة لم تتخلص من الشعارات العامة، والإغراق فى التفاصيل، ورسم الواقع فوتغرافياً "الطين والأظافر، قصائد من السودان... مثلاً" رغم دورها الطليعى فى ارواء الشعر العربى بنكهة الواقع ومذاقه... والإندماج فى الصراع الطبقى الذى لم يكن بهذا الحجم والتحديد... والإستقطاب، وإذا أخذنا الفيتورى "أغانى أفريقيا" كمثل أكثر نموذجية لواقعية الخمسينات فإننا نرى أفريقيا رؤية ضبابية ذهنية... والتفاصيل الدالة على القارة من العمومية بحيث لا تشير الى تجربة حية معاشة... ان أفريقيا تفتقد الأبعاد الطبقية والصراع الإجتماعى...إنَّ واقعية الخمسينات قد إنفجرت فى مهد الحركة الثورية وأدت وظيفتها دون ريب... ولكن وضوح محجوب شريف يتلألأ على قمة نضوجها ومعاركها الضارية.
كانت معظم النهايات فى قصائد الخمسينات فجائية ومفتعلة... نهاية سعيدة قطعاً "أشبه بالاكلشيهات" ولكن الأمل هنا يتغلغل منذ البيت الأول... و إذ تصادف ان كانت النهاية أكثر دوياً... فلأنها تتويج لما سبقها من نسيج فنى.
إن هذا الأمل ليس إعتباطياً خالصاً مقحماً ولكنه تكوين عضوى ديناميكى.
ما هى الأدوات الصياغية التى عبر بها الشاعر عن تجربته النابضة فى قصيدة "الحب والثورة"؟
لقد عبر بالتفاصيل التى تشبه الشعيرات الدقيقة، وبالمونولوج الداخلى، والحوار وتداعى المعانى، مما أكسب القصيدة حيوية فائقة، ودينامية. وفى مهارة تتنوع القوافى والتفاعيل، وتتموسق فى بناء أوركسترالى... وهذه إنتصارات للشعر الجديد... ولكن الصفة الجريئة التى أعلنت مولدها الفنى هى هذه "الجهارة الثورية" التى تجسد نفسها فى مقاييس ومواصفات فنية جديدة.
و"رسالة الى مريم محمود" تلك الأم البسيطة من ملايين الأمهات فى السودان، قد ارتقى بها الشاعر من دلالة تجسد العلاقة الخاصة بين إبن وأمه الى دلالة عامة، رمز أكثر شمولاً وفعالية، وعمقاً. وهذا الشمول ينطلق من الخاص الى العام، من الجزئى الى الجوهرى... فتتخطى القصيدة فى النهاية- وقد إستمدت كل تكوينها من العواطف الإنسانية، واللقطات والأدوات البسيطة- هذا المنطق الخاص لتصبح تجربة شاملة ينفعل بها المتلقى... فقد لخصت تجربته ان لم تكن زودته بتجربة جديدة أغنته عن مكابدتها، وأطرها محجوب من خلال مقاطع مركزة قصيرة... تثبت نهايتها "الميم الساكنة" المأساة، وتفصح عن أبعادها وعذاباتها.
إن هذه القصيدة تشهد على أن الشاعر لا تقوده نظرة دوقماتيكية، أو صوفية بلهاء... فلم يختصر عواطفه ولم يلغها... وإنما على العكس تماماً لقد عمقها وعاد كالطفل فى حضن أمه يناغيها ويقبلها... وتمسح دموعها بقلبه حينما يقف "العسكرى السراق" بينه وبين قلبه "الساساق".
أية عذوبة تفيض بها هذه المناجاة؟! وهل كان يمكن للغة أخرى أن تقتحم جدران القلب، وتتسرب فيه بمثل هذه التلقائية، والبساطة، والبراءة، ان لم تكن لغة الشعب التى إختارها محجوب أداة صياغية له؟
يا والدة يا مريم
يا عامرة حنية
أنا عندى زيك كم
يا طيبة النية؟
بشتاق وما بندم
إتصبرى شوية
يا والدة يا مريم
لم يكن تركيز المقاطع فى تفعيلتين أو ثلاث... مصادفة... ولكنها عفوية الحديث الى "مريم" بالتحديد لكى تعى ما يريد أن يشئ به إبنها فى أذنيها... وذكر إسم الأم لم يأت عفو الخاطر أيضاً... وإنما هو ترديد لكلمة عذبة تضرب فى تاريخ الشاعر النفسى من ناحية، وتمنح هذه الإنسية المجهولة مكانتها ووزنها أيضاً فيتغلغل حديثه فى قلبها، ويسر لها "بأعقد" ما فى القضية التى تعجز عن فهمها بأبسط كلمات الدنيا وضوحاً وسطوعاً
مانى الوليد العاق
لا خنت لا سراق
والعسكرى الفراق
بين قلبك الساساق
وبينى، هو البيندم
والدايرو ما بنتم
يا والدة يا مريم
وقبل أن يسوق لها الأمثال بود الزين وفولاذية رفاقه، والتضحيات الأسطورية تسيل أمام القصيدة فى عفوية رائقة، لا تعمل فيها... بل تمس جذور الوجدان الإنسانى وتهزه هزاً عنيفاً
عارف حنانك لى
راجيك تلولينى
دايماً تقلدينى
وفى العين تشيلينى
ألقاهو عز الليل
قلبك يدفينى
ضلك على مشرور
قيلت فى سنينى
ويتحدث عن قلبها الذى تدفأ به، وظلها الذى لاذ فى رحابه من هجير الحياة ثم يبادلها الحب نفسه... وهو الإخلاص المتفانى لإبن بار بشعبه... فكيف لا يمر بأمه، أو يقول لها أف، أو ينهرها... لقد فرض عليه هذا الفراق اللا إنسانى... فرضه العسكرى حين بذل إنسانيته، ولكن محجوباً فى خضم هذه العاطفة يصفعه، فلن يتم للدركى ما يريد
أنا لو تعرفينى
لو تعرفى الفينى
أنا كم بحبك كم
والعسكرى الفراق بين قلبك الساساق..
وبينى، هو البيندم
والدايرو ما بنتم
يا والدة يا مريم
ويغوص الشاعر فى عواطف إنسانية خالصة... تكشف فجأة عن بطولة الصمود... ليس صموداً بلا ثمن أو رحلة فى الخلاء، ليست بطولة زائفة... وإنما الألم حتى النخاع... دون أن يستسلم أو تخور قواه... ما يمنحه لمريم هو ذلك القلب الكبير الذى أفعم بأحزان شعبه وأشواقه
طول النهار والليل
فى عينى شايلك شيل
لكنى شادى الحيل
والخوف على داهم
هاك قلبى ليك منديل
الدمعة لما تسيل
قشيها يا مريم
وإذا كان "ود الزين" وحيد أمه لم يقف ليودعها، فقد اختطفه القتلة، فالشاعر لن يجلب العار لأمه لو سقوه الدم... وبقية القصيدة نصب للشهد، لن تنساه الأجيال... لوحة لا يرسمها لمريم محمود وحدها... وإنما لتاريخ البطولات.
ولاشك أن هاتين القصيدتين سوف تظلان بناءً شامخاً فى أدبنا السودانى.
السمة الثانية التى يؤكدها محجوب شريف هى الرفض... إنه يرفض الواقع، والموت الذى فرض بأسنة الرماح، وحبال المشانق... وتأتى به يحيل الحلم حقيقة، والحقيقة حلماً... وتلك أداة صياغية جديدة من خلال الوحدة العضوية بينهما، فالموت والحياة، والحلم والحقيقة فى تداخل جدلى تصبح فيه اللوحة تجسيداً لشئ لا يتطرق اليه الشك
صدقنى أنا لقيتو امبارح
لا بحلم كنت ولا سارح
كان باسم وشامخ كالعادة
نفس الخطوات البمشيها
نفس الكلمات الوقادة
ويستبعد كل ما حدث من إستشهاد وبسالة عبدالخالق ورفاقه... ومن أكاذيب الراديو والصحف الصفراء المقيتة، الفزع من السونكى والكابوس الذى خيم على الخرطوم، ثم يعود الى الرفض مرة أخرى فى هذا الحوار الذى يعبق حيوية، وواقعية، فى لغة بسيطة ودود
يا خينا إزيك
أهلاً مرحب... أيوة اتفضل
نادانى
سلمت بقلبى وأحضانى
راجل نكتة... عميق ومهذب
رائع جداً... وإنسانى
ولما جمعنى وشجعنى
سألتو بدهشة عن الحاصل
لقد رسم هذا الحوار شخصية عبدالخالق العميقة، المهذبة، الرصينة... العادى أن يسأل الغائب من بقى على قيد الحياة... ماذا سيحدث، أو يبعث الشاعر للشهيد بكلمات العزاء والمواساة... ولكن غير العادى أن يكون الغائب أكثر حضوراً أو ثباتاً، ووعياً حين يسأله عن الحاصل... هذه لغة الفن المعجزة، ولمسة الفنان الحقيقية التى تحضر الحدث تحضيراً درامياً... ويؤكد بذلك الرفض، وينفى الموت... فالعمر لا يحسب بالزمن المحدود... ولكن بما يخلفه الإنسان من وجود حقيقى.
- قاطعنى... بتعنى الإعدام
- الشعب يقرر مين الحى والميت مين
ثم يوصيه بالحذر واليقظة والإقدام، ويمتلئ الشارع مرة أخرى بالناس والعمال والطلائع والمنشورات... وهنا أيضاً يعيد الشارع لشعاراته والى نسقها الصحيح، ويضع الأمور فى نصابها، ويبعث فى الحياة الإيقاع والإنسجام والمنطق.
لم يكن رفض الشاعر ميتافيزيقياً أو ذهنياً... وإنما هو رفض واع بقوانين التاريخ، وحركة التطور، وديمومة الحياة... وفى "أغنية لعبدالخالق" يرسم محجوب لوحة فذة حقاً... لم يسبقه إليها أحد... وإذا تناولناها فنياً فإنها تفوق من الناحية الدرامية كل تحليل جمالى
الفارس معلق... ولا الموت معلق
حيرنا البطل
يا ناس الحصل
طار بى حبلو حلق
فج الموت وفات... خلى الموت معلق
انتصر عبدالخالق على الموت... هذه جملة عادية قد ترد الى ذهن أى مواطن، ولكن كيف جسدها شاعرنا فى صورة حسيَّة نابضة، كبانوراما حية؟ الموت وعبدالخالق لم يكونا صنوين... عبدالخالق شق الموت وخلفه معلق... خلف المشنقة والقتلة ومعهما الخزى والموت... وطار محلقاً كالملاك... ليس الى السماء، وإنما ليهبط فى الحزب الشيوعى.
الشاعر لا يرفض الموت لأمنية أو رغبة... وإنما عن وعى عميق كما أسلفنا... ان عبدالخالق يستمد بقاءه من الحزب الذى شيد صرحه، كما أن الحزب هو إمتداد لعبدالخالق... إذن فالموت هنا شئ عارض، وثانوى، ومفروض... والجوهرى أن عبدالخالق هبط وعاد اليه العزم، والنبض والتصميم ليس بقوة خارجة عن نطاق الطبيعة، وإنما بإصراره الإنسانى وإرادته وإختياره
فى عينينا بات
وسط الناس نزل
فى الحزب الشيوعى
تحت الأرض بذرة
وفوق الشمس هامة
بالحزب الشيوعى
ومن كل الوسايد
وفى نبض القصايد
اعتبره حبيبى عايد
من بين الشدائد
فى هوج الليالى
راحة الكان بلالى
فى الشارع علاقة
طال فى الدنيا قامة
وزاد فى العين وسامة
الرفض وإدراك الإمتداد التاريخى ركيزتان لفن الشاعر- بل والشعر الذى تفجر فى السبعينات- ولكنهما يندرجان تحت سمة أعم... سمة الشاعر الفنية، وليس بالشعارات العامة، والعبارات الزاعقة، ويلح الشعر على سمتى الرفض والإمتداد، ويزيدهما جلاءً، ويعمق من دلالتهما الإنسانية فى قصائد أخرى.
فى قصيدته عن شهيد الطبقة العاملة الخالد "الشفيع" يغبطه ويغبط رفيقة حياته فاطمة على هذا الموت... إن موت الشفيع مهرجان، عرس حقيقى... هذا المأتم يغدو عرساً لأن الحياة تنفجر بالإستشهاد وتتوهج... هذا رفض واع لموت ملفق
واحلالى أنا واحلالى
اريتو حالك يابا حالى
أموت شهيد جرحى بيلالى
الشفيع يا فاطمة فى الحى
فى المصانع وفى البلد حى
سكتيها القالت: أحى
ما حصاد والأخضر النى
راضى عنه الشعب والدى
ومات شهيداً أنا واحلالى
وأحمد يرمز الى الإمتداد، الجيل الذى وهبه الشفيع حياته... فليس العرس هنا إستحلاباً لأمل خلاب، أو دعوة خطابية طنانة... ولكنه حقيقة تصوغها الحياة ذاتها... متجسدة فى إنسان من لحم ودم الشهيد، نبؤة الشاعر فى إستقرائه وإستجلائه للمستقبل
أحمد.. أحمد تكبر تشيل
الجواد والسيف الطويل
خط أبوك بالدم النبيل
كل صفحة وصفحة اكليل
ومات شهيد واحلالى
ويطور محجوب شريف بهذه القصيدة الأهازيج التى إنبثقت فى ثورة 1924 ويجعل من ينبوعها رياً وزاداً له بعد أن إنتقلت الثورة من فئة البورجوازية الصغيرة الى "الورش والسكة الحديد، والعرق، والزيت والمصانع"
كان ثوار 1924 يغنون لأم الضفائر
يا أم الضفائر قودى الرسن
أصله موتاً فوق الرتاب
بالشباب الناهض صباح
قوى زندك وموت بإرتياح
واصفى فليحيا الوطن
كان رصاص أو كان بالحراب
ودع أهلك وأمش الكفاح
فوق ضريحك تبكى الملاح
وفوق ضريح الشفيع الذى يرهب الأعداء مجرد وجوده لا تبكى الملاح ولكن يطلقن الزغاريد لليوم المقبل السعيد...
وثمة سمة لهذا الشعر تكاد تكون السمة الرئيسة للديوان... وهى التحريض الثورى... وتؤدى اللغة فى التحريض دور الطبول والنحاس والهتاف والزغاريد، يطوعها الشاعر ويستخدمها فى إتقان ومهارة... وتتحمل "اللهجة العامية" حينما تشد كل أوتارها، ويستغل ما تختزنه من كنوز ما تمور به التجربة الحديثة من عمق، وتعقيد، وأصالة، ووعى. الشاعر يطرح أكثر قضايا شعبه معاصرة من خلال العامية... ولكن كلمات من قاموس "الفصحى" ولغة الكتب والجرائد تتسلل خلسة لترصع كلمات أخرى من صميم البيئة، وليس ثمة غرابة هنا بين التداخل فى لهجة المدينة والقرية، والكلمات الفصحى لأنَّ هذا التداخل تعبير عن الإلتحام الطبقى الثورى للعمال والفلاحين والمثقفين. ولذا فإنَّ لغة الشاعر تعبر عن هذه "الجبهة" ان صح التعبير، ومن ناحية أخرى فإن لغته ترتقى الى مستوى النظرية التى يبشر بها وهى تعنى التحديث والتغير الاجتماعي.
والموسيقى الداخلية... والقوافى الباطنية فى قصيدة "اكتوبر" ليست ترصيعاً وتنويعاً زخرفياً، ولكنها وظيفة جديدة للغة فى تعشقها لفكرة التحريض، إنها مارش حماسى لا يثير الغناء فقط، ولكنه يحث على الإستشهاد؟
اكتوبر ديناميتنا
ديناميتنا ساعة الصفر
ركيزة بيتنا
لون الشارع
طعم الشارع
قبضة سيفنا
وطولنا الفارع
ويواصل الشاعر لمساته وموسيقاه الداخلية، والإنسجام فى القافية الذى يكاد يشبه التطابق ويحيل النبرة الى نغم خالص أشبه برقصة أسطورية حول النار... والغريب أننا لا نحس فيها بأدنى تكلف... وعلى العكس نستشعر ضرورتها الفنية
قامتنا
قيامتنا
عمرنا الباقى لو متنا
لمن نبنى جبهتنا
وشعبنا نحن غيرتنا
حقيقتنا وجبيرتنا بصيرتنا ومسيرتنا..الخ.
ولعل قصيدة "الدفتر الأول" مثال رائع أيضاً لشعر التحريض الثورى وهو كما قلنا سمة رئيسة للديوان... يتحدى فيها الشاعر الراص والسجان... ويخاطب قوافل الشهداء وهى تمضى حاملة الرايات فى مقاطع موجزة ومركزة
ملينا الدفتر الأول
حنملا الدفتر الثانى
بكل عزيز وإنسانى
حنملا الدفتر المليون
ونتحول
رجالاً هدوا كتف الموت
وما هم شمسنا الحية
أناشيد ثورة يوميَّة
ويتداخل تحدى السجان مع رفض الموت فيصيران تحدياً واحداً مزلزلاً
ولسه ولسه عبدالخالق المغوار
يقود الصف
ونحن وراه كف فوق كف
وهاشم قاطع الحدين
لسه ولسه يملا العين
وإذا كنا فى مجال الإيماء للسمات الجديدة التى يحملها هذا الشعر فلا شك أن سمة البشارة والبشرى من أبرز ملامح الديوان... وتتمثل كنموذج فى قصيدتى "أغنية حب الخرطوم" و"يابنوتنا غنن"، وحين يشجب الشاعر الحزن لا يستجدى الغناء أو يفتعله... ولكنه يغنى الإستشهاد حقيقة... يقف فى الطليعة حاملاً قيثارة، ودموعه فرح ومهرجان وعرس
غنى يا خرطوم وغنى
شدى أوتار المغنى
ضوى من جبهة شهيدك
أمسياتك واطمئنى
لماذا تغنى الخرطوم؟ للريح التى هبت وشبت فى أوجه الخونة... للشهداء الذين عادوا... وعادت معهم أفواج المناضلين من المنافى... هل هى عودة أسطورية... أم أن الفنان يحيل الحلم حقيقة؟ هذا هو السحر الذى بقى فى الفن الرفيع
ونحن يا ست الحبايب
من ثمارك
فى دروب الليل نهارك
وقبل ما يطول إنتظارك
نحن جينا
وديل انحنا القالو فتنا
وقالو للناس انتهينا
جينا زى ما كنا حضنك... يحتوينا
كنا نود أن نقف قليلاً لنحلل ذلك التكثيف النغمى فى قصيدة "عريس الحمى" التى استغل فيها الشاعر ببراعة قافية واحدة ليصور لنا لحظة من أشق اللحظات وأعنفها، لحظة الإستشهاد... ليحيلها زفافاً وهتافاً... فكيف يتحول الألم أملاً، والصرخة زغرودة، واليأس ثورة؟ هذه رؤية الفنان الباسل الذى آمن بشعبه ولم ينكس رايته... ولكننا ندع القارئ للديوان ليستكشف التأثير، وسحر اللغة، والتحضير الدرامى للحدث، وواقعية الحوار.
ولن نتعرض للقصائد الفصيحة... وما قد تتضمنه من هنات فى اللغة أو النغم أو القافية فليس هذا مجال مقارنة الفصيح بالعامى... فالشاعر قدد شق درباً جديداً فى شعر العاميَّة، أو قل الأدب الشعبى الجديد.
ولنتذوق معاً حلاوة النغم وروعة الإصرار، والموسيقى الخالصة فى هذه الأبيات من قصيدة "أهلاً أهلاً بالأعياد" حيث يخاطب التاريخ
سجل انحنا
برغم جرحنا
إجتزنا المحنة
ونحن الليلة أشد ثبات
تحية لمحجوب شريف فى رحلته التى لامست فيها أوتاره الشمس.
د. جيلى عبدالرحمن