رامبرانت .. حياته وعصره وملجأ الفقراء
ترجمة واعداد: الزهراء صلاح عباس
"وود ستيغ" شارع صغير انغرست على جانبيه أشجار معمرة، تطبع ظلالها على "كاليجوتر" احد الافرع القديمة لنهر الراين، وثمة طاحونة تواجه ذلك الشارع الضيق وكان صاحبها هارمن جيرتمان الذى اتخذ كنيته "فان راين" من اسم النهر .
كانت زوجته نيلتى قد انجبت له خمسة ابناء، وبنتين، وعندما ولد طفلها الخامس فى 15 سبتمبر 1606، اطلقا عليه اسما غير شائع انذاك، الا وهو: رامبراندت، فى حين ان بقية اسماء اخوته كانت اسماء شعبية، متداولة، فى ذلك الزمان مثل: جيرت، دراين، كورنيلز، باكتيلو، واليزابث.
ربما انعكس اسم رامبراندت، هذا الابن الصغير، على امنية الاب الذى كان يعمل طحانا، تلك الامنية التى طالما اراد تحقيقها، بعد كدح طويل، فالاب استطاع ان يجمع ثروة لا بأس بها، بحيث يمكن لافراد هذه الاسرة الكريمة ان يستثمروها ويحسنوا استغلالها، لتحقيق حياة افضل.
وبقى الابن الاكبر جيرت طحانا مثل والده، أما دارين فعمل فى صنع الاحذية، وكورنيلز خبازا مثل جده لامه وباكتيلر حرفيا ماهرا. وفى 1620/5/20، أى بعد ان بلغ عمر الفتى رامبراندت سن الرابعة عشر، ادخل الى جامعة ليدن، التى كانت حديثة التأسيس، وكان ابوه يامل له ان يكون محاميا او قسا، لان الفتى اكتسب حبه للكتاب المقدس من خلال حبه لوالدته، هذه المرأة المتمسكة بامور الدين.
وخلال فترة دراسته الجامعية، وجد فى نفسه ميلا فطريا للرسم، فاخذ يرسم على دفاتره وكتبه المدرسية، كما قرر ان يترك مقاعد الدرس والانشغال بالرسم، وقد كلفه هذا الطموح، جهودا كبيرة لكى يرضى والديه بجدوى الاحتراف الفني، وبعد تفكير عميق وافق والده، وهكذا نقل رامبراندت من جامعة ليدن، وارسل عند الفنان جاكوب ليمتهن الرسم، وجدير بالذكر ان هذا الفنان، امضى فترة طويلة من عمره لتعلم اصول الرسم فى ايطاليا، ثم عاد الى ليدن ليعلم هذا الفن.
بقى رامبراندت، عند جاكوب، مدة ثلاث سنوات، اكتسب خلالها مهارات فنية كبيرة، وخلال هذه الفترة، كان الفتى رامبراندت، يرسخ صلته بزميل له يكبره سنا، الا وهو جان ليفز وقد انغمس الاثنان فى علاقة صداقة خاصة، ولعل لتشابه امزجتهما سبب فى هذه العلاقة، ومما هو مؤكد تاريخيا ان هذا الصديق، هو الذى دفعه للتخلى عن استاذه جاكوب والتوجه الى امستردام للدراسة على يد لاستمان الذى ذاع صيته فى تلك الفترة، وقد وافقه ابوه على ذلك، وهكذا غادر ابن السابعة عشر الى امستردام، فقضى قرابة ستة اشهر فى استوديو لاستمان تعلم خلالها اللغة الايطالية واطلع على حياة المجتمع الايطالى والروماني، اذ ان استاذه تعلم فى ايطاليا، وكان لا بد لأى فنان يرغب فى تعلم الفن ان يعرف اشياء عن ايطاليا، لان ايطاليا فى تلك السنوات كانت محط انظار الطامحين فى الفن وكانت عاصمة العالم المتمدن لان القرن السابع عشر، يعتبر العصر الذهبى للرسم الايطالي، ويمثل بحق عصر النهضة، غير ان هولندا، هذا البلد الذى تخلص توا من قبضة الاسبان، كان ابناؤه يدفعهم هاجس التحدى فى سبيل الارتقاء بحاضرهم نحو مستويات رفيعة، فخلال فترة لا تزيد عن نصف قرن استطاعت هولندا ان تنجب العديد من الاسماء الفنية الفاعلة فى تاريخ الفن امثال: روبنز الذى ولد عام 1575، وجان فيرمر الذى ولد عام 1632 وخلال هذه الفترة المحصورة بين ولادة هذين الرسامين برزت الى حيز الوجود اسماء لامعة منها: فرانس هالس، هافليس سيفرز، جاكوب، وجان فان هالس، انطوان فان دايك، سولمان فان روديك، اليزابيث فان دريتر، اوريان برور، ادريان فان اوستيد، دفيد تيزز، جرارد تبرموك، جان ستسين، جاكوب فان سويدال، بيتر دى هاوك، ورامبراندت فان راين. ويسند هذه المجموعة الرائعة من اساتذة الفن يسندهم كبير من الرسامين الثانويين، الاقل شانا منهم .
لقد كان المجتمع الهولندى فى تلك الفترة، يميل باتجاه الفنون الجميلة، فلا توجد اسرة واحدة فى هولندا لم تحتفظ بلوحة تمثل صورة شخصية لاحد افرادها او ان تقتنى صورة لمنظر طبيعى من حياتهم الواقعية، اذ ان المذهب الطبيعى فى الرسم كان هو السياق السائد، وكان التأثر جليا من فبل الفنانين الهولنديين بالفنان كارافاجيو لقد اوقع هذا الفنان السحر فى النفوس فى ايطاليا وفى خارجها، ووجد استحسانا منقطع النظير فى زمانه.
كان رامبراندت، مشدودا الى الجمال الغرائبي، وكان يتأمل الوجود الرائع ويشبع تلذذه التاملى من خلال مظاهر الجمال المثالي، الذى يكشف عن الذاتى داخل الصفات الموضوعية. وبالرغم من سلسلة الدروس فى الرسم الواقعى والتى اخذها عن استاذه لاستمان فان رامبراندت كان ينفلت باتجاه نزوعه الحسى باذلا كل جهوده لتحرير خياله، وانماء ذائقته بمشاهدة الجمال فى مدينة امستردام المكتظة بالناس والسواح من جميع انحاء العالم ومن مختلف الجنسيات.
وبدون شك، فإن ذوق رامبراندت قد اغتنى بمشاهدة اضافية فى هذه المدينة لم ير مثيلا لها فى المدن للاخري. ولكن مرض الطاعون الذى تفشى فيها هو السبب الذى دفعه للتعجيل بالرحيل والعودة الى مدينة ليدن كان ذلك فى خريف 1624. وعند عودته اتيح له ان يلتقى مرة اخرى بزميله جان ليفز الذى يعتبر السباق فى الظفر بالافكار الجديدة، والنظرة للحياة والفن، ولذا اشترك معه فى رسم عدد من اللوحات، وليس فى ذلك شيئاً غريباً، اذ جرت العادة ان يرسم اكثر من فنان لوحة واحدة وبصورة مشتركة.
وبين السنتين 1626 و 1627 رسم رامبراندت لوحاته: حمار بالما، القديس بول، والبخيل، وبالرغم من تاثر هذه الرسومات بالفن الايطالي، وبالرغم من عيوبها الفنية واخطائها الواضحة، فإنها انطوت على شيء مهم اسمه الاصالة وشيء اخر اسمه الضوء والظلال وطريقة توزيعهما على نحو مثير للبصيرة، مع الاحتفاظ باشراقة الالوان الهادئة، ففى لوحة "حمار بالما" تتجسد قوة التركيز الخيالى ولا سيما ان الموضوع مأخوذ عن الكتاب المقدس.
لقد حظيت باكورة اعمال رامبراندت، باستحسان الفنانين والخبراء الفنيين ونقاد الفن. وعد رساما من الطراز الاول. ومما يذكر ان عمدة مدينة ليدن السيد جوهانز اورليز كرس صفحة كاملة لحياة رامبراندت فى الطبعة الثانية من كتابه الموسوم "وصف مدينة ليدن" جاء فيها: كانت موهبته عظيمة جدا، لدرجة انه اصبح احد اشهر الرسامين وان اعماله قد لقيت قبولا واعجابا من جميع سكان امسترادم .
كانت لوحات رامبراندت، تعبر عن الشعور العميق بالكتاب المقدس وبالوقت نفسه كانت تعبر عن الانسان والطبيعة البشرية وما تتجسد بها من قوى تدفع الى الخير او الى الشر، وحتى الوجوه البشعة التى كان يرسمها فانها كانت تنطوى على مزايا وفضائل تدل على اشياء مغايرة فى التعبير.
ان الظل عند رامبراندت سمة بارزة، ولكنه لا يغلف المشهد باكمله بل يضفى حيوية على حقيقة رقيقة. فالانتقال بين العتمة والضوء تتدرج شيئا فشيئا، حتى تبلغ وهما بصريا ذهبيا، اننا نرى فى الاشكال الادمية قلوبا تنبض، وبطرح نقاط الجدل فيما اذا كانت العتمة او الضوء اكثر اهمية من الاشكال التى تظهر بصورة كاملة من الظل او انها مغلفة به ان الجوهرى من المحاولة، يكمن فى الطرائق الابتكارية الجديدة فى التوزيع اللونى او الصورى بما هو مناسب لنزوعه الديني.
لقد تعلمرامبراندت الكثير من اسرار الرسم من اساتذته وبعضا من مبادئ الفنان كارافاجيو والمدرسة الايطالية الكلاسيكية، وبذات الوقت تأثر باعمال الفنانين الهولنديين الذين اقاموا فترة طويلة فى ايطاليا وقد نقل عنهم مجموعة كبيرة من اللوحات التى تمثل مناظر من الطبيعة، كما يمكن ذكر تاثره بالفنانين: تتيان، وروفائيل، ففى الكثير من لوحاته يوجد بعض الصدى الباهت جدا لهذين الفنانين.
لقد اكتسب رامبراندت قوته التعبيرية، بصورة تدريجية، نتيجة لملاحظاته للواقع وما يعتمل فيه من حركة وفهم وجدل لمعنى الحياة ولكن بعضا من المتصدين لفنه وقف بالضد منه ومنهم فان بابورين، وكرايت، هذين الرجلين اعتبرا ان وقوفه ضد الكلاسيكية وعدم ذهابه الى ايطاليا للدراسة او الاطلاع هو لكمة فى تاريخ الفن، ولم يستطع رامبراندت ردها فى الوقت الذى وجهت اليه اللائمة باعتباره رجلا غير مثقف ولم يدرس المناهج الفنية والنظريات الجمالية التى رافقت ذلك.
واذا كان كارافاجيو قد ادار ظهره للعالم الكلاسيكي، فان رامبراندت هو الاخر لم تكن لديه ادنى معرفة بالفن الكلاسيكي، وحين ينوى معالجة موضوع كلاسيكى بالصدفة، فمعنى ذلك انه يؤديه على نحو غير متوقع ، بمعنى ان السمة المميزة لعبقريته تكون فى وضع التفسيرات الجديدة للافكار القديمة. وتألق خياله بصورة غير عفوية مع اضفاء بعض التعبيرات التهكمية التى توحى بالقصة كما فى لوحته "اختطاف كانميد" الموجودة حاليا فى متحف الدولة فى ليدن، وربما ينحرف وراء قوة خياله الحالم، متحسسا كل شيء غريب.
اتخذ رامبراندت من مدينة امستردام، سكنا له بعد وفاة والده سنة 1630، لقد كانت هذه المدينة الآمنة ملاذا للكثيرين ممن تحلم نفوسهم بالحرية، لخلوها من التعصب الديني. وحين استقر بها هذا الفنان، ليس لانه صنع اسمه الفنى فيها، بل ولانه كان يتوقع بان مهمة كبيرة ستناط به وفعلا حدث ذلك، ففى عام 1632، تكلف برسم رائعته ذائعة الصيت "درس التشريح للدكتور تولب" لقد كان رامبراندت قادرا على تكييف اسلوبه فى الرسم بما هو متوائم مع الذائقة التقليدية وارضاء الذوق العام. لقد كان رسم مثل هذه الموضوعات الكبيرة، تقليدا شائعا، لنقابة الجراحين الهولنديين فى امستردام.
وإننا نجد فى هذه اللوحة، ان الفنان تعامل مع الموضوع بطريقة غريبة ومؤثرة، حيث ان اشراقة الضياء على الجثة الشاحبة المسجاة وسط الطاولة وتطوقها مجموعة الاطباء ويقف بينهم الدكتور تولب، فالمجموعة مرتبة بوضعية مثلثة، وقد المح الى اهميتها بشكل ثانوي، فتبدو الالوان وكأنها تاخذ تاثيرها الحيوى على المشهد معطية تفسيرات للوجوه والملامح المفعمة بالحيوية وخاصة اذا قورنت مع الوضع الطبيعى للالوان الخضراء المصفرة المرتسمة على الجثة. وهنا تاخذ الجثة مكان الموضوع البارز. كان رامبراندت متمكنا من جعل الدكتور تولب وتلامذته فى وضع طبيعى للغاية، مما ساعد فى تاكيد الجو الخاص بالمشهد بصورة مؤثرة والتعبير عن تنوع الاحاسيس المختلفة للشخصيات.
فى 1634/5/22، تزوج رامبراندت من ساسكيا الثرية وقد جلبت معها مهرا كبيرا . كانت ساسكيا شابة جميلة ولانه احبها فانه فضلها كموديل للرسم لان مظهرها يدل على الاكتناز بالجمال المثالي. اذ كانت تشبه النساء فى لوحات الرسام الفلمنكى بول روبنز المتسمات بالانوثة والصفاء والنعومة فى البشرة، اما رامبراندت فانه اتخذ من مظهر هذه السيدة تعبيرا لذلك الفيض من الدفء والالفة الممتلئة بالعاطفة.
ومن المعروف ان رامبراندت رسم ثمانى لوحات لوالديه، واثنتى عشر لوحة لشقيقته اليزابث، وخمس لوحات لزوجة شقيقه دراين لكنه رسم الكثير من اللوحات والتخطيطات لزوجته ساسكيا. توفى الفنان رامبراندت فان راين عام 1669، وقد مات فى ملجا للفقراء.