الموت الصامت يدهم السودان... وأيّ كارثة (!)
بقلم: أمين الإمام*
لا يكفي أن يشير المرء، إلى احترازاته من خط سيره، وسط حقل مُخيف من الألغام، فالخطر يدهمه من كلّ الجوانب. لكن، هل يحقّ لي أن أشبِّه أوضاع "الدولة" (كصيغة تنامي وتشكُّل) في السودان تحديداً، بذلك الحقل المُميت. لا يجب أن أكون متشائماً، لكن هذا هو وضعي الذي أحسّه، بشأن الكتابة عن موطني، حينما ترتطم حروفك البريئة حتماً، بعشرات العثرات: من شاكلة سوء الفهم، والتصنيف المجّاني من حملة "أختام الأدلجة والتحزُّب"، فلا يحقّ في تلك اللحظة التي أمقتها تماماً، سوى تذكًّر الشاعر السوداني "المتواري" هاشم صدِّيق، وهو يوضِّح تلك الحقيقة "المُستفِّزّة"... بـ"العاميّة":
أمِشْ بغداد أكون بعثي
أمِشْ موسكو أكون ثوري
أمِشْ هونج كونج أكون "هونكي"
أمِشْ مكّة أكون درويش!...
ومع ذلك، ليس عصيّاً بالنسبة لي على الأقلّ، قبول السير في حقل الألغام، إن كان لا بدّ ممّا ليس منه بدّ (!).
هناك ما يقلقني، بل ويقتلني ليل نهار، مثلما يفعل مع الملايين، من أبناء موطني، ويجد تهميشاً و"تطنيشاً" واضحاً، من أهل الحلّ والربط (إن حلّوا، وإن ربطوا!). ففي أمسية اليوم الأوّل من يوليو الراهن، كانت هُناك سهرة، تجمع ثُلّة من فنّانين وإعلاميين ومسؤولين حكوميين، في العاصمة المصريّة. السهرة كانت افتتاحاً لورشة عمل إقليميّة (تخيّلوا عمل يبدأ بسهرة!)، ينظِّمها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، لتفعيل حملة حقيقيّة، لمكافحة مرض المناعة المُكتَسبة (الأيدز)، في المنطقة العربيّة، تحت شعر "كسر حاجز الصمت". وفي ذلك الافتتاح "الساهر"، لتلك الورشة المهمّة والحسّاسة، خرجت المعلومة الخطيرة، حيث يوجد في العالم العربي، نحو 550 ألف إصابة بـ"الإيدز"، في العام العربي، من بين 42 مليون حالة في العالم كلِّه، في السودان وحده نحو 400 ألف حالة...
يا لها من "حالة" بالفعل، ألم أقلْ لكم ما يُقلِق ويقتل بصمت (!).
[#]........................
قبل أن أتحدّث عن ذلك "الموت الصامت"، الذي يتربّص بالسودان والسودانيين (لا ذنب لهم، إزاء الانفراط الذي يسمح بدخول وحدوث أيّ "شيء"!)، سأقدِّم لكم جزءاًً، من قصّة "غير قصيرة"، وصلتني بالبريد الإلكتروني، بعد كتابتي لمقال بعنوان: [... ويستفزّون "عروبيّتك"... لأنّك سوداني]، من الأديب السوداني محمّد المكِّي إبراهيم، سيختصر كثيراً ممّا أنوي قوله، بشأن المكان/الموات (إن صحّ التعبير والافتراض!):
[[كان منظرها مرعباً، فقد تورّمت عيناها، وتحوّل بياضهما إلى خطين رفيعين، من الحمرة الداكنة. وكان جسمها وشعرها مغطيّان بالتراب، بحيث اختفى لون جسمها الأبنوسي، تحت طبقة الغبار، ولم يبقَ ما يدلّ عليه، سوى سواد باطن الفخذين، وخطان رفيعان على خديها، حيث سال الدمع، وكشف عن بشرتها الصقيلة السوداء.
- اذهب إلى ذلك الكوخ، وهات ثياباً لهذه العاهرة، تستر بها عُرِيها.
أصدر العريف أمره، دون أن يحدِّد أحداً لتنفيذه، ثم استدار نحو أصغر عساكره سنّاًً، وصاح فيه:
- هذا الامر لك أنت، أنت ياعسكري. نفِّذ بسرعة.
كان يخاطب جنديّاً شابّاً يقف قبالته، من الناحية الأخرى لماريا، ويرى من ماريا وجهها المشوَّه وصدرها العامر، تاركا لجاويشه منظر الظهر، الذي تحوّل إلى لون الأرض، بعد أن مرّغته عليها زمرة الشياطين. وكان الجندي الشاب يرسم في مخيلته، ما يمكن أن يكون عليه منظرها، لو أنّّها اغتسلت، ورتّبتت نفسها قليلاً.
كان برتبة وكيل عريف، أي أنّه كان الرجل الثالث رتبةً، في هذه السرية، بعد الضابط والعريف. وكان قد قضى سنوات خدمته الأولى، في سلاح الرياضة العسكرية، يشرف على تدريب الضباط المترهِّلين، استعداداً لامتحان ما قبل الترقية، الذي يتطلَّب منهم، إثبات قدرتهم على العدو والقفز، وشفط بطونهم إلى الداخل بحيث تستوي، على الأقلّ، بمستوى الصدور.
في الرياضة العسكرية، اختفى لعدة سنوات، من الخدمة القتالية في الجنوب، وفيها أيضا اختفى من حياته الجنسيّة، منشغلاًً برياضة الإسكواش، حتى برع فيها بشكل باهر. وحين لم يجد من ينافسه فيها بشكل مقنع، "باخت" في نفسه، وبدأ حياته الجنسية، مع إحدى المتدرِّبات، وصار الجنس وأموره بديلاً عن الرياضة، التي أنفق فيها بداية الشباب.
ردّد بلا حماس:
- حاضر أفندم.
وبدوره أصدر أمراً لأحد الجنود، ليرافقه في المهمة. ولكنّهما لم يتحرّكا للتنفيذ.].
من هذا الجزء من القصّة، التي كانت لها مراميها من صاحب "بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتِ"، لكم استنباط الصورة الجنسيّة، التي يكون عليها الجندي السوداني "الشمالي"، وهو يقضي سنواته في أرض "الجنوب" المفتوحة الحدود، مع كلّ مداخل "الإيدز" و"التمرُّد" وأشياء أخرى. وعندما تعلمون بعد ذلك، أن النسبة الأبرز من حالات "الإيدز" الحرِجة والمُحرِجة (مع أن الطرح لم يعد يتحمّل الحرج!)، موجودة في العاصمة المُثلَّثة، التي تثير إشكاليّات التفاوض، ما بين علمنتها أو أسلمتها بالقوانين، وبقيّة أُطُر بروتوكول "مشاكوس".
ووفقاً لتلك الحقيقة الجاثمة، في الكثير من الشوارع "المهترئة"، في الخرطوم وأم درمان وبحري، لكم أن تفهموا المخاطر الإضافيّة، للنقاشات غير العقلانيّة، في شأن تلك المدن الثلاثة، التي تشكِّل مثلّث العاصمة السودانيّة، ما بين "إعلان القاهرة" و"إعلان الخرطوم" و"عدم إعلان القصر"، ووضعيّة نقل العاصمة أو تثبيتها "قوميّةً"، والمزيد من رؤى التكفير وقصور التفكير، كتلك التي خرجت، من رحم تلك المهاترات الكُبرى.
[#]........................
مع تحفُّظنا على طبيعة المواقف الإنسانيّة "المتشيِّكة" للفنّانين، فقد وافق 11 فناناً عربيّاً، على المشاركة في رحلات توعية، للوقاية من مرض "الإيدز"، وذلك في ورشة العمل الإقليميّة، التي نظّمتها الأمم المتحدة في مصر. وقال سفير النوايا الحسنة، الممثل والمخرج المصري حسين فهمي: "إنّ المشاركين في الحملة، هم سفيرة النوايا الحسنة صفيّة العمري، نور الشريف، آثار الحكيم، منى زكي (مصر)، منى واصف، دريد لحّام، جمال سليمان، أيمن زيدان (سوريا)، ماجدة الرومي، وجورج قرداحي (لبنان)، بالإضافة إلى عدد من الإعلاميين العرب، في الأردن والإمارات والبحرين واليمن والسودان". وقد شارك هؤلاء في الورشة، التي اختتمت أعمالها الجمعة 4/7/2003، وطالب فهمي الفنانين والإعلاميين، بإبداء دورهم الفاعل، من أجل كسر حاجز الصمت، تجاه هذا المرض، والتعامل بشكل إنساني واعٍ مع المصابين.
هذا هو دور الفنّانين والإعلاميين العرب، مع يقيننا بأن الأمر، لا يخرج غالباً عن "قوالب الوجاهة"، خصوصاً مع تعيين "سفراء النوايا الحسنة" (لا يجب أن ندفن رؤوسنا في الرمال)، فأين دور السياسيين السودانيين، بمختلف مشاربهم الآيديولوجيّة و"المصالحيّة" (هنا سندفن الرؤوس!)، وهم "المُجعْجِعون بلا طحن"، نحو نصف قرن من الزمان (؟).
[#]........................
ألم أقل لكم، أن أهل موطني، لا ذنب لهم في ذلك "الانفراط"، الذي يسمح بدخول وحدوث "أيّ شيء"، وإلاّ فما ذنب الـ115، الذين ماتوا مع تحطُّم طائرة الخطوط الجويّة السودانيّة، بين الميناء بورتسودان والعاصمة الخرطوم، بعد اكتشاف خلل فنِّي، بعد 10 دقائق فقط، من الإقلاع و"الانفراط" (؟)...
ألم أقل لكم أيضاً، أن احترازات السير في حقل الألغام، أمر وارد بشدّة، طالما الحقائق تظلّ مُعلّقة كما المشانق، ولا يعشقون أن تُعلَّق بها الأجراس (؟)...
أيّ إهمال، وأيّ كارثة... وكفى (!).
* كاتب صحافي سوداني