هذا جزء من الفصل الخامس من كتاب لي تحت الإعداد بعنوان الماركسية والديمقراطية في السودان والفصل بعنوان: "الديمقراطية وقضايا البرنامج:برنامج الحزب للثورة الوطنية الديمقراطية:المشروع المؤسسي والدستوري للنظام الديمقراطي" وقد حاولت فيه أن أطرح رؤيتي للسمات الأساسية للدستور الديمقراطي. ولم اكن أفكر في طرحه للمناقشة قبل نشر الكتاب لولا الظروف المستجدة في الساحة السودانية فيما يتعلق بمحادثات السلام ومشروع التجمع الوطني الديمقراطي للحل السلمي الشامل ومبادرات الاتحاد الأوربي عن طريق أحد المعاهد الألمانية إجراء مناقشات حول سمات الدستور الديمقراطي في السودان بعقده لندوة في الخرطوم و عزمه على عقد ندوة في ألمانيا. لذا رأيت أن أعد هذه المساهمة لإرسالها لمركز الحزب، لتساعد في بلورة وجهة نظر حزبية متكاملة توضع إمام المفاوضين الحزبيين ومندوبي الحزب في التجمع.
وقد رأيت أن الحق معه مشروعا للدستور الديمقراطي يضم هذه السمات حتى تصبح الفكرة أكثر وضوحا، مما يجعل مناقشتها أكثر ملامسة للبديل الديمقراطي الذي ننشده.
تمهيد
إن نظرية الحزب الشيوعي في الديمقراطية، وفقا لتطورها الذي تتبعناه في الفصل الثالث، تطرح على الشيوعيين، كما ظلت تطرح أبان فترات تطورها المختلفة، أن يعبروا عن تلك النظرية في برنامجهم السياسي، المعبر الأكثر شمولاً عن خطابهم السياسي والأيدولجي في الفترة التاريخية المحددة وعن آفاق التطور المستقبلي للوطن؛ ذلك إن البرنامج السياسي لأي حزب هو وثيقة نضالية هامة لأعضاء ذلك الحزب وحلفائهم ومؤيديهم للعمل وسط الجماهير وكسبها لمواقع الحزب السياسية والفكرية، وبالتالي يصبح البرنامج أداة تنظيمية وسياسية وإعلامية هامة في الصراع السياسي والطبقي في المجتمع؛ ومن هنا يصبح من الضروري إن يحتوي برنامج الشيوعيين على الأسس العامة والتفصيلية، إذا ما أمكن ذلك، للنظام الديمقراطي الذين يدعون إليه.
إن البرنامج هو وثيقة تعبر عما يريد الحزب إنجازه مع الجماهير وبواسطتها وكيفية إنجازه ويعمل الحزب من خلال تعبئة الجماهير حول برنامجه أن يجعل الجماهير تتبنى تلك الأهداف البرنامجية ولكن الحزب في خلال التعبئة يستمع للجماهير ويعرف رأيها في برنامجه ويعيد صياغة ذلك البرنامج وخلال النضال المشترك مع الجماهير يكتشف أكثر الواقع ومتطلباته ويعيد من جديد صياغة برنامجه وهكذا ولكن ليكون الحزب فعالا في علاقته هذه مع الجماهير لا بد أن يشكل برنامجه ذلك وعيا ذاتيا ملهما لمناضليه بالذات.
والبرنامج الحزبي هو جزء من نظرية الثورة السودانية وهو يعبر عن خلاصة وعي الحزب بالضرورة الموضوعية لقضايا العصر ، والمرحلة، والفترة ومتطلباتها، وكما قلنا من قبل فمسألة الوعي هي علاقة بين التنظير، إدراك الوقع الملموس، والنشاط الخلاق وتلخيص التجارب واكتشاف العام والخاص في عملية متشابكة وبنائية تغذي وتثري بعضها البعض.
والبرنامج الحزبي بذلك الفهم هو وثيقة طبقية تعبر عن الهوية الطبقية للحزب وعن خطاب تلك الطبقة للتعبير عن مصالحها ومصالح أغلبية الجماهير، وبالتالي تصبح هي الوثيقة الأهم في الصراع الطبقي وفي التحالفات الطبقية التي يسعى الحزب لإقامتها والتي تؤخذ أشكال للتحالف السياسي متعددة الأشكال التنظيمية وتتسع برامجها أو تضيق لتحقيق أهداف معينة وفقا لضرورات الواقع وإمكانياته.
ونحن إذ نحاول في هذا الفصل أن نسهم في رسم بعض هذه المعالم، لا ننطلق من فراغ وإنما من تراث برنامجي حزبي امتد خلال نصف قرن من الزمان، ولكن كما قلنا في الفصل الثالث فان ظروف كتابة هذه المساهمة وغياب بعض الوثائق الأساسية لا يسمح لنا بدقة المتابعة التاريخية، غير أننا نعتمد على ما توفر لدينا لننطلق في تقديم مقترحاتنا.
برنامج الحزب وقضية الدستور الديمقراطي 1954 -1986
لقد قدم الأستاذ حسن الطاهر زروق أول تصور متكامل للدستور الذي يريده الشيوعيون في خطاب ضاف عشية الاستقلال في 31 ديسمبر 1955 عند مناقشة مسودة الدستور المؤقت حيث اقترح خمسة أسس للدستور:
1- أن يكون مستمدا من مصالح الشعب وان يحترم إرادته.
2- أن يجعل جهاز الدولة ديمقراطيا ينص على حق الشعب في مراقبة جميع أجهزة الدولة وحقه في محاسبة ممثليه، وان يشترك الشعب اشتراكا واسعا في الحكم.
3- أن يسمح بإطلاق كل قوى الشعب في النضال ضد الاستعمار ومؤسساته بتوفير الحريات العامة وحرية العقيدة وحرية اعتناق الآراء السياسية والعمل من اجلها.
4- أن يحمي مصالح العمال والمزارعين والتجار وكافة المواطنين من الاستغلال ويحمي حقهم في الراحة وحقهم في العمل.
5- أن ينص على انتهاج سياسة خارجية مستقلة سلمية تقوم على معاملته جميع الدول على أساس المساواة والاحترام المتبادل" (محمد سليمان، اليسار السوداني في عشرة سنوات، 1969، ص ص 173-175)
وطالب الأستاذ حسن الطاهر في خطابه ذلك بضرورة النص على قيام الجمعية التأسيسية في الدستور المؤقت حتى يشارك ممثلي الشعب في وضع الدستور الدائم للبلاد. أوضح إن هناك تناقضا بين مشروع الدستور وبعض القوانين والسياسات السائدة حينئذ مما يتطلب تغيير وتعديل تلك القوانين والسياسات حتى تتماشى مع الفصل الثاني من مشروع الدستور الخاص بالمساواة بين السودانيين والحريات العامة وحدد تحديدا قضايا الأجر المتساوي للعمل المتساوي في الشمال والجنوب والأجر المتساوي للعمل المتساوي للرجل وللمرأة، وقانون الصحافة وبعض مواد قانون العقوبات (المرجع السابق، ص ص 175-176).
وجاء المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي في فبراير 1956 ليؤكد أن الدستور الذي يتبناه الحزب يعتمد الجمهورية البرلمانية و يطالب بالحكم الإقليمي الذاتي للمديريات الجنوبية. ولقد أشار عبد الخالق أن المؤتمر الثالث قد اعتبر قضية الديمقراطية تحتل "المكان المقدم إذ أن سير البلاد في طريق التطور المستقل لا يمكن أن يتم كما أشار البرنامج بدون استمرار الحركة الجماهيرية ونموها واتساعها وصلابة تنظيماتها وتنوعها" (لمحات، ص، 11)
أما المؤتمر الرابع للحزب فقد تحدث عن الثورة السياسية التي ينجزها النظام الوطني الديمقراطي المستندة على نشر وتوسيع حقوق وحريات الجماهير وتوسيع الحكم المحلي "وتقوية سلطاته التنفيذية والتشريعية" وتحقيق "الديمقراطية النيابية ويحيطها بالضمانات من الفساد والانحدار" (ص 44 من وثيقة دستور الحزب الشيوعي السوداني).
ومنذ ذلك الوقت جرت مياه تحت الجسور وخاض الحزب نضالا صبورا ضد ديكتاتورية مايو من أجل استعادة الديمقراطية، وعندما انتصر الشعب في أبريل 1985 عدنا لطرح موقفنا من أجل دستور ديمقراطي لجمهورية برلمانية موحدة.
واليوم ونحن نواجه من جديد قضية استعادة الديمقراطية، نحتاج من جديد لطرح برنامجنا من أجل الدستور الديمقراطي وفق خطاب واضح يتناول السمات الأساسية لذلك الدستور. وهذا ما نطمح في المساهمة فيه.
السمات الأساسية للدستور الديمقراطي
أ- مفهوم السيادة وطريقة ممارستها
ينبغي إن ينص الدستور الديمقراطي على مبدأ السيادة للشعب، فمثلا يكون النص الدستوري في هذه الحالة "السودان جمهورية ديمقراطية السيادة فيها للشعب" وهذا نص لا يعبر فقط عن مبدأ ديمقراطية الدولة وإنما يشكل أساسا لمبدأ علمانيتها أيضا، فمبدأ السيادة للشعب يشكل من ناحية دستورية المقابل الديمقراطي والعلماني لكل أشكال السيادة القائمة على الحق الإلهي Divine Right أو الحق الوراثي المطلق أو المقيد دستوريا في الأنظمة الملكية أو الديكتاتورية، فالنص لا بد إن يعلن بوضوح أن الشعب هو مصدر السلطات والتشريع؛ وفي الحقيقة لا يكفي هذا النص لمنع قيام دولة سلطوية إذ لا بد من النص على كيفية ممارسة الشعب لسيادته بشكل ديمقراطي وعلى أسس دستورية واضحة، حتى لا يدعي مدعي، كما فعل قادة انقلاب مايو ، ممارسة السيادة نيابة عن الشعب بدون تفويض من الشعب ذاته.
والشعب يمارس سيادته عن طريق ممثليه الذين يختارهم في انتخابات دورية لمؤسسات دستورية يحدد الدستور واجباتها وصلاحياتها ودوراتها، كما يحدد بشكل عام كيفية انتخابها بينما يترك للقانون تفاصيل ذلك. فما هي الأسس الدستورية التي تقوم عليها تلك المؤسسات والتي على أساسها يمارس الشعب سيادته؟
ب - السودان جمهورية برلمانية:
إن النص على إن السودان جمهورية برلمانية، ليس فقط انتصار لتوجه نظري يرى الجمهورية البرلمانية هي الأكثر ديمقراطية وإنما صيانة وتجسيد للتراث الديمقراطي البسيط والمتواضع لبلادنا منذ الاستقلال، حيث ترتبط الديمقراطية في ذلك التراث بالجمهورية البرلمانية وترتبط الديكتاتورية بالجمهورية الرئاسية ولنأخذ بعض الأمُثلة:
* الديمقراطية الأولى 1954-1958 حيث كان البرلمان يمارس الرقابة على الحكومة، واستطاع حجب الثقة عن حكومة السيد إسماعيل الأزهري ثلاث مرات أستعاد الثقة في مرتين منها واستقال عندما لم يستطع استعادتها في المرة الثالثة وترك رئاسة الوزارة لينتخب البرلمان السيد عبد الله خليل رئيسا للوزراء. وأعيد انتخاب عبد الله خليل للمرة الثانية بعد الانتخابات الثانية في 1958. ولكن السيد عبد الله خليل عندما لاح في الأفق إمكانية سحب الثقة عنه، تآمر على النظام البرلماني وسلم الحكم للعسكريين.
* حكومة 17 نوفمبر 1958-1964: حيث خول المجلس الأعلى الفريق عبود كافة سلطاته منذ الاجتماع الأول وقنن ذلك بعد انقلاب شنان الأول في 4 مارس 1959 فقد جاء في الأمر الدستوري الخامس ان المجلس الأعلى الذي أعيد تشكيله قد ركز في الفريق عبود جميع السلطات ليمارسها منفردا مثل تعيين أعضاء المجلس الأعلى وإقالتهم وتعيين الوزراء وإقالتهم ونقض أي قرار للمجلس الأعلى أو مجلس الوزراء، وإذا أضفنا إلى ذلك السلطات التي كانت للمجلس الأعلى في الأمر الدستوري الأول قد خولها لرئيسه في اجتماعه الأول، نجد أن عبود قد اصبح السلطة الدستورية العليا في البلاد، والسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية (والتي يمارسها عن طريق تعيين رئيس القضاء وقاضي القضاة) والقائد الأعلى للقوات المسلحة. وحتى بعد قيام المجلس المركزي فان السلطات الرئيسية بقيت في يد الفريق عبود..
* الديمقراطية الثانية 1965 -1969 ولقد مارست الجمعية التأسيسية في الدورتين سلطاتها في انتخاب ومراقبة أعمال الحكومة وحجب الثقة عن حكومة السيد محمد احمد محجوب الأولى وحكومة السيد الصادق المهدي الأولى وإجازة التشريعات والميزانية العامة.
* فترة ديكتاتورية مايو 1969-1985 والتي يمكن تقسيمها لثلاث فترات:
1- 1969-1971، وهي فترة ممارسة مجلس الثورة لسلطات السيادة بموجب الأمر الجمهوري الأول واشتراكه مع مجلس الوزراء في عملية التشريع، والتي ظهرت فيها بوادر الديكتاتورية الفردية بتخويل المجلسين سلطاتهما للرئيس نميري الذي اصبح رئيسا لهما معا بعد إقصاء السيد بابكر عوض الله من رئاسة مجلس الوزراء بعد تصريحاته الشهيرة في المانيا الشرقية في نوفمبر 1969.
2- 1971-1973، وهي الفترة التي ساد فيها الأمر الجمهوري الخامس، والذي جعل من نميري رئيسا للجمهورية واجري استفتاء على ذلك وانتخب مجلس الشعب الأول الذي وضع الدستور الدائم. وقد شارك مجلس الشعب خلال هذه الفترة رئيس الجمهورية سلطات التشريع وسلطات الرقابة على الحكومة بشكل شكلي.
3- 1973-1985 وهي الفترة التي توضح بجلاء كيف أن النظام الرئاسي الجمهوري يقود وقد أدى فعلا إلى ديكتاتورية الفرد الواحد، رغم انتخاب عدة مجالس شعب قومية وإقليمية، بل أن تجربة هذه الفترة أوضحت كيف أن النظام البرلماني (أو شبه البرلماني) الذي أنشأته اتفاقية أديس أبابا في جنوب البلاد لم يستطع الصمود أمام تسلط الجمهورية الرئاسية التي تقنن حكم الفرد المطلق الذي جاءت تعديلات الدستور في عام 1975 لتكريسه ولإغلاق أي ثغرة يمكن مقاومته عن طريقها بشكل قانوني.
* فترة الديمقراطية الثالثة 1985-1989، وهي تنقسم لفترتين:
1- الفترة الانتقالية أبريل 1985- يونيو 1986 والتي مارس فيها السلطة المجلس العسكري الانتقالي العالي ومجلس الوزراء وفقا للدستور الانتقالي لعام 1985 وهو دستور قد وضع بعد تكوين المجلسين وبواسطة لجنة معينة من قبلهما. وقد كانت السلطة التشريعية مشتركة بين المجلسين من ناحية شكلية بينما كانت من ناحية عملية مركزة في المجلس العسكري الانتقالي.
2- فترة الجمعية التأسيسية: يونيو 1986- يونيو 1989 وهي فترة العودة للنظام البرلماني وفقا لدستور 1985 الانتقالي، ورغم إن الجمعية قد مارست سلطات التشريع والرقابة على الحكومة مثلما حدث في الفترتين الديمقراطيتين الأولى والثانية، إلا أن أداء الجمعية التأسيسية قد تميز بالضعف خلال هذه الفترة لغياب أعضائها عن الجلسات وانفضاض اجتماعاتها لعدم اكتمال النصاب وتأخير تكوين لجانها، وضعف أداء الحكومة التي انتخبتها والتي هي في الحقيقة اكثر من حكومة رغم عدم تغيير رئيس الوزراء. وهناك أكثر من سبب لضعف البرلمانية الثالثة: طول فترة الدكتاتورية الثانية (16 عاما) وإنهاكها للقوى السياسية بحيث خرجت الأحزاب جميعها ضعيفة عدا حزب الجبهة القومية الإسلامية الذي استفاد من فترة تحالفه مع نميري وارتباطه بالمؤسسات المالية الإسلامية والرأسمالية الطفيلية، كما أن فترة مايو قد أحدثت تغييرا كبيرا في التركيب الاجتماعي ونمت خلالها الرأسمالية السودانية كطبقة دون أن تستطيع أن تنتج كوادر سياسية جديدة تعبر عنها أو تدفعها إما لقيادة الأحزاب التي كانت تاريخيا تعبر عنها أو تنشئ حزبا جديدا يعبر عن مصالحها وقد انعكس ذلك في الصراع الحامي حول من يقودها من تياراتها المختلفة، وقد كان لقصر الفترة الانتقالية أثرا واضحا على أداء الأحزاب السياسية خلال الانتخابات العامة، ولعب المجلس العسكري دورا كبيرا في أن تتم الانتخابات على عجل ووفقا لقانون وتقسيم للدوائر انعكست أثارهما على نتائج الانتخابات سلبا مما أدى لانتخاب جمعية ضعيفة، كذلك أدى استمرار الحرب لعدم تمثيل الإقليم الجنوبي تمثيلا حقيقيا.
أما من ناحية النصوص الدستورية فخلافا لفترة حكم عبود، فيمكن في الحقيقة المقارنة بين دستور السودان المؤقت لعام 1956 بتعديلاته المختلفة (خاصة في عامي 1964 و 1985) وبين دستور السودان الدائم لعام 1973 (وتعديله الشهير في عام 1975)، إذ ان الدستورين يمثلان شكلين مختلفين : الجمهورية البرلمانية والجمهورية الرئاسية.
ولعل أهم اختلاف هو بين تركيز السلطات وتوزيعها أو تقسيمها، مما يصل إلى حد ان يكون ماسا بنظرية فصل السلطات الضرورية لأي نظام ديمقراطي. الجمهورية الرئاسية وفقا لدستور 1973 تكاد أن تجمع السلطات جميعها في يد رئيس الجمهورية، فهو ليس رمزا للسيادة فقط كما هو الحال في الجمهورية البرلمانية، بل هو عماد وراس السلطة التنفيذية، وجزء لا يتجزأ من السلطة التشريعية (المادة 80 من الدستور الدائم لسنة 1973 المعدل 1975)، وراس السلطة القضائية الذي لا يجلس في المحاكم! فهو يعين ويفصل رئيس وقضاة المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف و المحاكم الأخرى (المادة 188 من الدستور الدائم) وهو الذي يمنح العفو ويصدق على الأحكام (المادة 104 من الدستور الدائم) وهو الذي يعلن الحرب بموافقة مجلس الشعب ويرسل القوات المسلحة السودانية في مهمات خارج الوطن إذا ما اقتضت المصلحة الوطنية ذلك (المادة 105)، ومجلس الشعب (البرلمان) لا يمارس أي سلطة حقيقية تجاه سلطات رئيس الجمهورية الذي يشاركه التشريع، إذ انه لا يستطيع إلا إن ينصح رئيس الجمهورية بطرح جانب من سياساته لاستفتاء عام على شرط إن يكون ذلك بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس (المادة 109) وفي حالات وجود رئيس للوزراء مع الرئيس (وهذه حالة اختيارية للرئيس وفقا للمادة 89 من الدستور الدائم) فمجلس الشعب يستطيع إن يطلب من رئيس الجمهورية خلعه أو أي من وزرائه بأغلبية الثلثين (المادة 145)، بل إن هذه الأغلبية الكبيرة مطلوبة لإعادة سن قانون اعترض عليه و أعاده رئيس الجمهورية للمجلس (107) ويستطيع رئيس الجمهورية حل المجلس قبل مواعيده ويتطلب ذلك فقط التشاور مع رئيس المجلس.(المادة 108). إذن الجمهورية الرئاسية تعطي سلطات واسعة للرئيس ويمكن فعلا أن تؤدي إلى الديكتاتورية المدنية.
تجربة دستور 1998 المسمى بالدائم
ودون التعرض لكيفية وضع وصياغة و إجازة دستور 1999وأنه دستور ناتج عن انقلاب عسكري غير شرعي أطاح بالحكومة والدستور الديمقراطي، فإننا نجد أن دستور 1998 هو صورة أخرى لتجسيد سلطة الفرد. ولنقرأ معا المادة 43 من ذلك الدستور لنرى سلطات رئيس الجمهورية:
"يمثل رئيس الجمهورية الحكم والسيادة العليا، يقوم قائدا أعلى لقوات الشعب المسلحة والشرطة والقوات النظامية الأخرى، ويختص بصيانة أمن البلاد من الأخطار وحفظ عزتها ورسالتها، والإشراف على علافاتها الخارجية ويرعى سيرة القضاء والعدل والأخلاق العامة ، ويرعى المؤسسات الدستورية ، ويعبئ نهضة الحياة العامة ، وله في ذلك الاختصاصات والسلطات وفق أحكام الدستور والقانون:-
أ تعيين شاغلي المناصب الدستورية ،
ب رئاسة مجلس الوزراء ،
ت إعلان الحرب وفق أحكام الدستور والقانون،
ث إعلان حالة الطوارئ وفق أحكام الدستور والقانون ،
ج حق ابتدار مشروعات التعديلات الدستورية والتشريعات القانونية والتوقيع عليها،
ح التصديق على أحكام الإعدام قتلا ومنح العفو ورفع الإدانة أو العقوبة،
خ تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية بالدول والمنظمات الدولية وتعيين السفراء من الدولة واعتماد السفراء المبعوثين إليها،
د التمثيل العام لسلطان الدولة وإرادة الشعب أمام الرأي العام وفي المناسبات العامة،
ذ أي اختصاصات أخرى يحدده الدستور أو القانون."
وبذلك يكون دستور 1998 يقيم سلطة للفرد، ويقنن للديكتاتورية وهو يختلف عن كل الأنظمة الرئاسية الديمقراطية كالنظام الأمريكي والفرنسي، واللذين نتحفظ على صلاحيتهما للسودان كما نوضح فيما يلي.
النمط الأمريكي للجمهورية الرئاسية
إن دعاة الجمهورية الرئاسية يتحدثون دائماً عن النمط الأمريكي وينسون أن النظام الرئاسي الأمريكي يلعب فيه المجلسان (مجلس النواب ومجلس الشيوخ والأخير على وجه التحديد) دوراً كبيراً ولولا استقرار هيمنة الرأسمالية الأمريكية وهجمنتها (1) لتفجرت الأزمات السياسية في النظام الأمريكي بشكل أعمق من أي نظام برلماني في العالم ذلك أن النظام الأمريكي قد يصل إلى طريق مقفول اذا ما احتدم الخلاف بين الرئيس ومجلس الشيوخ، كما حدث في نهاية عام 1995 وبداية عام 1996 النظام الأمريكي الدستوري لا يقدم حلاً للاختلاف بين الرئيس والمجلسين . مجلس الشيوخ مثلاً لابد أن يوافق على كل التعيينات للمناصب الدستورية العليا (عدا منصب الرئيس ونائبه) التي يقوم بها الرئيس فمن ناحية نظرية يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تقضي وقتاً طويلاً بدون وزير دفاع أو رئيس قضاء اذا ما رفض المجلسان تعيين مرشحي الرئيس للمنصبين، بل أن الرئيس محتاج كل مرة يقدم فيها قانوناً جديداً لبذل مجهود ضخم لإقناع المجلسين، إذ أنه بدون ذلك المجهود قد لا يوافق المجلسان على مشروع القانون المقترح من الرئيس وقد أوضحت أزمة الميزانية في نهاية عام 1996 وبداية عام 1997 أن دولة كبيرة كالولايات المتحدة يمكن أن تغلق مكاتب الحكومة الفيدرالية لأن مجلس الشيوخ رفض التصديق على القانون المالي المقدم من الرئيس. أن ما حدث في الولايات المتحدة لا يمكن أن يحدث في نظام برلماني آخر، أولاً لأن النظام البرلماني يضمن أن حزب الأغلبية هو الذي يشّكل الحكومة، بينما النظام الأمريكي قد يأتي برئيس لا يتمتع حزبه بالأغلبية في أحد المجلسين أو في كليهما. وبما أنه في النظام البرلماني اذا قرر النواب أن لا يمرروا قانوناً مقدماً من قبل الحكومة فإن ذلك يعني حجب الثقة وضرورة استقالة الحكومة أو حل البرلمان والرجوع للناخبين لانتخاب برلمان جديد. لقد كانت الحرب الباردة تحفظ تناقضات الرأسمالية الأمريكية في حدود دنيا ولكن بغياب الخطر الخارجي فإن هذه التناقضات قد تتأزم مثلما حدث في أزمة الميزانية المشار إليها سابقاً.
النمط الفرنسي للجمهورية الرئاسية
ويقترح علينا السيد الصادق المهدي أن نتبنى نظاماً أشبه بالجمهورية الفرنسية الخامسة التي نشأت عام 1958، عقب أزمة شبيهة بأزمة عدم الاستقرار التي تواجه السودان، ولكن ذلك مجرد تشابه وليس تطابق، فجوهر الأزمتين مختلق تماما، فبينما أزمة السودان هي نتيجة لعدم اكتمال التحول من نظام اقتصاد كولنيالي قائم على مفصلة جامدة للأنماط قبل الرأسمالية والنمط الرأسمالي المتطور والنامي، فالأزمة في فرنسا كانت تحدي للنمط الرأسمالي من قبل قوى تدعو للتحول الاشتراكي في فرنسا بعد الحرب العالمية، وتحدي آخر من قبل قوى التحرر الوطني التي تسعى لتصفية النظام الكولنيالي الفرنسي خاصة في شكله الاستيطاني، وكانت الجمهورية الفرنسية الخامسة، التي بنيت على أساس عودة الجنرال ديجول للحكم فيما وصفها ميتران حينذاك بأنها انقلاب على نمط انقلاب لويس نابليون بون بارت في عام 1851 الذي أطاح بالجمهورية الثانية، كانت تلك الجمهورية الخامسة هي الإعلان الرسمي بهزيمة برنامج التحول الاشتراكي وتصفية المستعمرات الفرنسية في نفس الوقت.
ورغم أن دستور الجمهورية الخامسة قد فصل على مقياس الجنرال ديجول ليؤدي المهام التي أوكلتها له الطبقة الرأسمالية السائدة إلا أنه حمل في نصوصه سمات كثيرة من الموروث الدستوري الفرنسي، الملكي، البرلماني والرئاسي. ومن الضروري لمن يريد أن يقلد الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة أن يقلد هذه السمة الهامة: الارتكاز على الموروث الدستوري للسودان.
ولعل أحد أهم سمات الجمهورية الخامسة أن نهوضها أو إنشائها لم يكن مثل مثيلاتها السابقات (ومثل إقامة الأنظمة الديمقراطية في السودان) أي نتيجة لإسقاط نظام متسلط، فالجمهورية الأولى كانت نتيجة لإسقاط النظام الملكي التقليدي المطلق (1792)، بينما الجمهورية الثانية كانت نتيجة لثورة 1848 وإسقاط النظام الملكي المعروف بنظام يوليو أو ملكية يوليو (أنظر سرفان 1998 ص 13)، وقد كانت الجمهورية الثالثة نتيجة مباشرة للهزائم العسكرية لنابليون الثالث والهزيمة الدموية لكميونة باريس، وكانت الجمهورية الرابعة لاستبدال نظام فيشي المتعاون والمستسلم للفاشية وهي الجمهورية التي نشأت بعد تحرير فرنسا بقيادة ديجول نفسه. بينما الجمهورية الخامسة نشأت في أحضان الجمهورية الرابعة ومثلت انتقال سلمي وتغيير للدستور عبر استفتاء شعبي في جو ديمقراطي تسود فيه الحريات العامة وحكم القانون وتوجد فيه الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة. وهذا وضع مختلف تماما عما نحن بصدده الآن: استعادة الديمقراطية. فلنستعيد الديمقراطية البرلمانية أولا ثم تتناقش حول أشكالها في جو ديمقراطي.
إن الجمهورية الخامسة الفرنسية بنظامها الرئاسي قد واجهت زمناً قاسياً عند استقالة الجنرال ديجول وأزمة 1968 الشهيرة بل أن النظام الرئاسي الفرنسي لم يخل من الأزمات منذ نشأة الجمهورية الخامسة، فميتران حكم عدة مرات بينما الحكومة المنتخبة من البرلمان معادية له، مما جعل من رئاسته رئاسة عاجزة عن تحقيق برنامجها ويمكن فعلاً أن تواجه الجمهورية الفرنسية مشاكل عدم استقرار كما حدث قبل حل البرلمان وإجراء الانتخابات في عام 1998 عندما بدأت النقابات حركات احتجاج نسبة لاعتراضها على سياسة الحكومة اليمينية، رغم وجود ديستان رئيساً للجمهورية وكانت النتيجة انتخابات جديدة أتت بحكومة من حزب غير حزب رئيس الجمهورية بل حكومة اشتراكية وليتخيل الشخص السيد الصادق المهدي رئيس لجمهورية وحكومتها يرأسها الشريف زين العابدين أو السيد سيد احمد الحسين مثلاً فهل سيكون هناك استقرار سياسي؟
النظام البرلماني في أوربا
وفي المقابل نجد استقرار أكبر في النظامين البرلمانيين في بريطانيا وألمانيا، بل ومعظم الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة عدا إيطاليا ما بعد الحرب والتي لعبت المافيا وتدخل المخابرات الأمريكية في سياساتها الداخلية وعدم قدرة الرأسمالية كطبقة على بسط (هجمنتها) دوراً في عدم الاستقرار السياسي.
والنظام الديمقراطي البريطاني رغم وجود الملكية وعدم وجود دستور مكتوب، فهو نظام قائم على سيادة البرلمان Parliament is sovereign)) والتي تعني ببساطة أن قرارات البرلمان هي ممارسة السيادة وهي قانونا ملزمة حتى ولو تعارضت مع قرارات سابقة للبرلمان أو القانون العام. وبالطبع هذا مختلف عن تراثنا الدستوري، رغم ترديد العامة والساسة في بلادنا لديمقراطيتنا كديمقراطية ويست منستر، فالبرلمان عندنا محكوم بالدستور ولا يستطيع أن يشرع أي قوانين مخالفة للدستور إلا بعد تعديله، بل أن التعديل نفسه يجب ان يتم وفقا لما ينص عليه الدستور. ومثل حالنا معظم الدول التي لها دساتير مكتوبة وبها اما محاكم دستورية (مثل مجلس الدستور في فرنسا الذي يشكل من تسعة أعضاء بموجب المادة 56 من الدستور الفرنسي، ويتجدد ثلث الأعضاء كل ثلاث سنوات) أو المحكمة العليا كما هو الحال في الولايات المتحدة.
أنظمة الحكم قي العالم الثالث
وإذا نظرنا لبلدان العالم الثالث فإننا نجد أن معظمها يواجه مشاكل الجمهورية الرئاسية وتتقلص فيها الديمقراطية والحقوق الأساسية، ولعل خير مثال ما يحدث في كينيا منذ الاستقلال والذي انتهى بها إلى حكم ديكتاتوري مدني. وعلى العكس من ذلك نجد أكبر ديمقراطية في العالم، توجد في العالم الثالث وهي جمهورية الهند، حيث الديمقراطية البرلمانية تعيش لأكثر من نصف قرن وتمثل الإطار المؤسسي الذي تحاول الهند عن طريقه حل مشاكلها السياسية والاقتصادية والدينية والقومية.
الديمقراطية والشكل الدستوري
والمسالة ليست مسألة شكلية دستورية وإنما تتعلق بقضية ممارسة الشعب للسيادة من ناحية ومسألة وضع سلمية الصراع الطبقي والاجتماعي والسياسي في البلاد من ناحية ثانية، ومسألة إرساء القيم والمثل الديمقراطية التي تساعد في تحقيق إنسانية الإنسان من ناحية ثالثة. لذا يصبح نضال السودانيين من أجل جمهورية برلمانية أحد أهم عناصر نضالهم من أجل الديمقراطية.
أن الحديث عن عدم الاستقرار السياسي في فترات الديمقراطية الثلاثة يتجاهل السبب الرئيس وهو عدم قدرة النادي الحاكم في السودان على بسط هجمنته، (والهجمنة تعبير نستعمله للتعبير عن الهيمنة المرتبطة بالمشروعية المقرونة بالقبول من قبل الجماهير والبرنامج الذي يحقق المصالح المشتركة إلى جانب المصلحة الفئوية للقيادة) على مجمل الشعب. وعملية بسط الهجمنة كما اوضحها غرامشي ولاكلاو وهابرماس (والاخير اسماها المشروعية) عملية معقدة تشمل خطاب السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والبرامج العملية التي يعبر عنها ذلك الخطاب وقدرة المجموعات الحاكمة على التعبير عن نفسها كممثل لكل الشعب والمسالة لا تتعلق "بتغبيش" الوعي أو الوعي الزائف بقدر ما تتعلق بالقدرة على التركيب والاستلاف والتنازلات والمساومات الاجتماعية. وعلى وضع قوانين للعبة يقبل بها الجميع بينما هي تعيد إنتاج التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية لصالح الفئة أو مجموعة الفئات أو الطبقة أو الطبقات الحاكمة.
ولو ترجمنا هذا لما حدث في السودان منذ الاستقلال فإننا نجد المجموعات الحاكمة قد فشلت في وضع وتطبيق برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي يتناول ويقدم الحلول لمشاكل ما بعد الاستقلال في التنمية المتوازنة وفي تقسيم السلطة والثروة بشكل يراعي التعدد الإثني والقومي والتفاوت الإقليمي وبشكل يحفز الجميع للإسهام في الإنتاج المادي والثقافي وبتقديم الخطاب الذي يوحد الجماهير ويلهمها ويعطيها أملاً في المستقبل وفي قدرتها على ممارسة حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأهمها حقها في اختيار وتغيير حكامها بما يعرف بالتداول السلمي للسلطة. ببساطة فشلت المجموعات الحاكمة في طرح وتنفيذ برنامج للنهوض الوطني الديموقراطي للسودان كوطن ديموقراطي موحد بإرادة أهله وقرارهم. وفي تقديري هذا هو جوهر الأزمة ولا يحلها شكل للحكم رئاسياً كان أو برلمانياً بدون برنامج واضح. وهذه لا يكون رمزها شخص واحد وإنما حركة نهوض قومي شامل.
ج- الحقوق الأساسية وحق المواطنة
ولكن هذه الجمهورية البرلمانية لا تصبح ديمقراطية ولا يمكن للشعب فيها أن يصبح ممارسا للسيادة فيها ومصدرا للسلطات وللقانون دون أن يكون ذلك الشعب يتمتع بحقوقه الأساسية خاصة الحقوق المدنية والسياسية. وفي هذا الصدد يصبح إعلان نيروبي الذي وقعته الأحزاب السودانية والحركة الشعبية وتم التأكيد عليه في مقررات أسمرا عام 1995، مرتكزا أساسيا لأي فصل حول الحقوق الأساسية في الدستور. والمهم في إعلان نيروبي ومقررات أسمرا انهما جعلا من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية جزء لا يتجزأ من الدستور السوداني. وبالطبع هذا مهم لأنه بديل واضح للنصوص في الدساتير السودانية السابقة التي تقيد هذه الحقوق بإلحاق جملة "في حدود القانون" أو أي نص آخر يعطي المشرع الحق في تقييد الحقوق الأساسية والمدنية.
وترتكز هذه الحقوق جميعا على حق المواطنة والذي يتطلب النص بوضوح أن السودانيين متساوون أمام القانون ويتمتعون بحقوق دستورية متساوية ولا ينبغي التفرقة بينهم على أساس اللون، أو العرق والأصل الاثني أو الدين أو الجنس (النوع Gender) أو الانتماء الثقافي أو السياسي. والنص على وجه الخصوص على الحق المتساوي في التنافس على وشغل المناصب الدستورية العامة والوظائف في الخدمة المدنية والعسكرية والقضاء والسلك الدبلوماسي. وعلى حق المجموعات العرقية والقومية المتعددة في البلاد في تطوير ثقافاتها القومية ولغاتها، وحق أصحاب الديانات والمعتقدات في ممارسة شعائر دياناتهم ومعتقداتهم على وجه لا يشكل اعتداء أو انتهاكا لحقوق الآخرين.
وترتكز هذه الحقوق جميعها على مبدأ الحرية الشخصية فلا يصح اعتقال شخص أو تحديد إقامته لفترة لا تزيد على 72 ساعة بدون أمر قضائي، كما لا يجوز مصادرة أو حرمان أي شخص من حقوقه أو ممتلكاته إلا وفقا لقرار محكمة ذات اختصاص وبموجب قانون ساري المفعول. ويتمتع الشخص في السودان بحرية الاعتقاد والضمير والتعبير، وبالحق في التنظيم والتجمع والتظاهر والتصويت والترشيح والعمل والمساواة أمام القانون والتنافس على المناصب العامة. والحق في التقاضي واللجوء للمحاكم لحماية حقوقه ولدرء الظلم عنه، والحق في الدفاع والاستعانة بمحامي وفي المحاكمة العادلة في حالة اتهامه بارتكاب جريمة أو نشوب نزاع مدني بينه وجهة أخرى.
وخلافا للأحزاب الأخرى فنحن ندعو لتمتع المواطنين بحقوق اجتماعية واقتصادية كالحق في التعليم والرعاية الصحية والحق في العمل وفي التقاعد وفي الأجر العادل والأجر المتساوي للعمل المتساوي. مما ينبغي أن يجعل حزبنا يهتم أكثر مما هو عليه الآن بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، و بالنضال من أجل أن تحترمه وتتقيد بنصوصه الدولة السودانية ومن أجل تضمين مواده في دستور السودان الديمقراطي.
د- سيادة حكم القانون واستقلال القضاء والمبادئ العامة للعدالة
ولكي يتمتع السودانيون بحقوقهم المتساوية فلا بد من سيادة حكم القانون في البلاد، بمعنى أن الدولة والجماعات والأفراد والأشخاص الحقيقيون والمعنيون يخضعون دائما وجميعهم لحكم القانون، الذي ينظم الحقوق والواجبات والعلاقات بينهم جميعا ويقوم القضاء المستقل بالإشراف على سيادة حكم القانون.
إن مفهوم استقلال القضاء يفقد معناه إذا لم يكن يشمل الاستقلال الإداري والمالي، وما لم تكن قرارات المحاكم ملزمة التنفيذ حتى يتم إلغائها أو تعديلها من قبل محاكم أعلى في نفس النظام القضائي. وهذا يعني بالضبط أن يودع السودان بلا عودة عهود المحاكم الاستثنائية وتقاليد رجعية القوانين، ويجب أن يسود مفهوم ألا يعتبر الفعل جريمة إذا لم يكن هناك قانون يجعل منه جريمة لحظة حدوثه ولا عقاب بلا قانون.
وبما أن المحاكم تطبق القانون فإن وضع القوانين الجنائية والمدنية والقوانين الإدارية وكافة القوانين التي تنظم حياة الناس، هو الخطوة الأولى في وضع أسس العدالة ولا بد أن تنسجم القوانين مع الأسس الدستورية التي تصون الحقوق الأساسية للناس، ولا بد هنا على النص الواضح بحق أي شخص حقيقي أو معنوي في اللجوء للقضاء لحماية حقوقه الدستورية من تغول السلطة التنفيذية السياسية أو الإدارية والسلطة التشريعية أو أي فرد أو جماعة تعتدي على الحقوق الأساسية التي ينص عليها الدستور. ولا بد أن نستفيد من تجربة حل الحزب الشيوعي والنزاع القضائي حولها بالنص بوضوح أن قرارات المحاكم ليست تقريرية وإنما ملزمة التنفيذ وأن جهاز الدولة ملزم بتنفيذ قرارات المحاكم.
وإذا كانت حماية الحقوق على المستوى القانوني والدستوري هو اختصاص أصيل للمحاكم، إلا انه مرتبط أيضا بأمن الناس وبإجراءات حماية أرواح وممتلكات ونشاطات وحركة المواطنين في الدولة السودانية، وبإجراءات منع الجريمة ومعاقبة مرتكبي الجرائم، ولهذا لابد من تنظيم العلاقة بين القضاء والنيابة العامة والمحامين والشرطة والسجون باعتبار انها أجهزة متكاملة في تطبيق القانون. وبالطبع هنا تكمن الإشكالية التاريخية الناتجة من فصل السلطات حيث أجهزة السجون والشرطة، والنيابة العامة خاضعة للسلطة التنفيذية، بينما القضاء والمحامون مستقلون عن السلطة التنفيذية. ولكن التراث القضائي والإداري في السودان ما قبل نميري وسلطة الجبهة الإسلامية يمدنا بخبرات وتجارب واسعة، حيث خضوع الشرطة والسجون في تطبيق القانون للأوامر والإذن القضائي، وخضوع السجون نفسها في حفظها للمنتظرين والسجناء للتفتيش القضائي، رغم وجود لائحة منفصلة تحكم عمل السجون.
ولعلنا من خلال تجاربنا الواسعة والغنية في سجون ومعتقلات السودان والتقائنا بالمسجونين والمنتظرين نستطيع الآن أن نقدم مقترحات حول كيفية معاملة السجناء والمنتظرين في سجون السودان في سبيل إصلاح السجون وإزالة الظلم والمعاملة القاسية، صحيح أن جزء كبيرا من ذلك قد يأتي في شكل مقترحات حول قانون السجون وقانون الإجراءات الجنائية، جزءا منها يأتي في صلب لائحة السجون إلا أن هناك مسالتين لهما علاقة مباشرة بالحقوق الدستورية للمواطنين وهما فترة الانتظار للمحاكمة في السجون وكيفية معاملة المنتظرين من جهة وعمل المساجين والمنتظرين في السجون من جهة أخرى.
والمسألة الأولى المتعلقة بالمنتظرين، تشمل الاعتقال على ذمة التحقيق والحبس في انتظار المحاكمة، والمنتظر وفقا للأسس الدستورية وأسس العدالة الطبيعية هو متهم وهو بذلك التعريف برئ حتى تثبت إدانته أمام محكمة ذات اختصاص وفقا لقانون قائم لحظة ارتكاب الجريمة. وفي التقليد الدستوري في السودان فالشرطة يمكن أن تعتقل أي شخص على ذمة التحقيق لمدة 48 ساعة، ثم تعرضه وفقا لقانون الإجراءات الجنائية لقاضي (أو وكيل نيابة) لتجديد حبسه على ذمة التحقيق إذا ما توفر شك معقول بارتكابه لجريمة ما أو وجهت له تهمة بذلك ويمكن إطلاق سراحه بضمان في معظم الحالات، ومثل هؤلاء المتهمين إما يحفظوا في مراكز ونقاط الشرطة أو ينقلوا إلى السجون، وفي كل من الحالتين فإن معاملتهم تخضع لمزاج ضابط الشرطة أو النفوذ الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية للمتهم. وأنا وغيري من المعتقلين السياسيين الذين جابوا سجون السودان شرقا وغربا قد لاحظنا الظروف غير الإنسانية التي يعيشها هؤلاء المنتظرين في سجون السودان، خاصة في سجن كوبر. ويتعلق بهذه المسألة الفترة التي يقضيها هؤلاء في الانتظار، فبعضهم قضى سنوات في انتظار المحكمة، بل أن بعضهم قضى أكثر من عام في انتظار اكتمال التحقيق. إن كل هذا مخالف لأسس العدالة الطبيعية فهؤلاء الناس أبرياء في نظر القانون حتى تثبت إدانتهم. لذا من الضروري النص بوضوح على كيفية معاملة المتهمين وأقصى فترة للتحقيق وأقصى فترة يمكن أن يقضيها الشخص في انتظار المحاكمة وهو رهن الحبس، وذلك إما بالنص على وجوب إطلاق سراح الشخص بضمان بعد فترة معينة أو سقوط التهمة عنه. صحيح أن مطلبنا بالمعاملة الإنسانية للمنتظرين سيكلف الدولة ولكن هذه تكلفة ضرورية للعدل بين الناس. ولكي لا تخضع هذه المسالة لمساومة الإداريين والسياسيين ورجال السجون لا بد من جعل سلطة إصدار لائحة السجون فيما يتعلق بكيفية معاملة المنتظرين في يد رئيس القضاء أو إخضاع إصدارها لموافقته ومراقبة الجهاز القضائي.
أما المسالة الثانية المتعلقة بكيفية معاملة المساجين وعملهم في السجون وتوقيع عقوبات على المساجين بواسطة إدارة السجن فلابد أيضا من إعادة النظر فيها وتنظيمها ووضع أسسها وإجراءاتها بواسطة لجنة قضائية أو لجنة يرأسها قاضي محكمة عليا وتمثل فيها إدارة السجون ومنظمات حقوق الإنسان ونقابة المحامين. إن المبدأ الأساسي هنا أن السجين يقضي فترة عقوبة قررتها المحكمة وفقا للقانون ولا ينبغي أن يعاني أو يعاقب أكثر مما نص عليه القانون. وهنا تأتي مسالة عمل المساجين وضرورة إعادة النظر في تنظيمه بحيث تصبح جزء من إعادة تأهيل المسجون وتدريبه، وبحيث توفر فيها كل إجراءات الأمن الصناعي والوقائي (مثلا أحذية قفازات خاصة للعمل في الملاحات ونظارات وقائية للعمل في ورش الحدادة والنجارة الخ).
ولكن قضية العدل والعدالة ترتبط أيضا بسرعة وسهولة إجراءات المحاكم وهذه مسائل تتعلق بتوفير الإمكانيات البشرية والمادية بما في ذلك المباني والكادر الكتابي المساعد وتحديث مكتبات القضاة وإدخال الكمبيوتر والتصنيف الإلكتروني للقضايا والسوابق القضائية، وتدريب القضاء وتحسين وضعهم المعيشي والوظيفي.
المحاكمة العادلة
والعدالة ترتبط أيضا بمفهوم المحاكمة العادلة، والمحاكمة العادلة هي التي تتم وفقا لقانون قائم أمام القاضي الطبيعي والمحكمة المختصة ووفقا للإجراءات القضائية والجنائية المتعارف عليها (لا محاكم استثنائية ولا إجراءات استثنائية ولا سريان لقانون بأثر رجعي) ويعتبر فيها المتهم بريئا حتى تثبت إدانته دون أي شك معقول وفقا لأسس الإثبات المتعارف عليها ويتمتع فيها المتهم بحقه في الدفاع عن نفسه وفي اختياره محاميا للدفاع عنه وواجب الدولة في توفير محامي له إذا لم يكن قادرا على تحمل نفقات المحامي وأن يكفل للمتهم حق مقابلة محاميه دون تنصت وأن تكفل له حق حضور محاميه عند التحقيق معه وان تكفل المحكمة للمتهم حق الاستئناف لمحكمة أعلى درجة. ومفهوم المحاكمة العادلة يجب أن يضمن عدم الاعتراف بالأدلة التي يتم الحصول عليها بالإكراه أو التعذيب أو بطرق غير قانونية وأن عبء الإثبات يقع بكامله على المدعي.
وكثير من هذه الأسس يجب أن ينص عليها في الدستور وألا تترك للقانون العام. فمثلا يجب النص في الدستور على مدة الاعتقال رهن التحقيق والاشتباه وسلطة الشرطة في ذلك وسلطة النيابة والسلطة القضائية بحيث لا يمكن أن يحتجز شخص بدون أمر قضائي لمدة تزيد عن الثماني وأربعين ساعة، وأن تتحدد الفترة القصوى التي يتم فيها الحبس رهن التحقيق بأمر قضائي والفترة القصوى التي يقضيها الشخص في انتظار المحاكمة والنص على الحق في إطلاق السراح بضمان حتى تاريخ المحاكمة في القضايا المدنية وبعض القضايا الجنائية التي يترك للقانون تفصيلها؛ بحيث يكون المبدأ العام هو تقليل فرص مصادرة الحرية الشخصية لأي مواطن قبل إدانته بواسطة محكمة ذات اختصاص.
تحريم التعذيب
ويقود هذا إلى ضرورة تحريم التعذيب على مستوى الدستور والنص بوضوح بعدم سقوط تهم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان وعدم إمكانية العفو عنها بقانون أو قرار من أي سلطة وعدم قبول تبرير صدور فعل التعذيب لصدور أوامر عليا في دفاع أي متهم بقضية التعذيب. واعتبار أي قانون أو قرار يمنح الحصانة لأي موظف عام عند ممارسته التعذيب أو أي فعل يؤدي لانتهاك حق إنساني ينص عليه الدستور بأنه قانون أو قرار غير دستوري. :ما ينبغي إعطاء حصانة لأي موظف عمومي أو ضابط أو فرد في جهاز عسكري يرفض تنفيذ أوامر بالتعذيب وانتهاك حقوق الإنسان أو يرفض ارتكاب جرائم يحرمها القانون الدولي باعتبارها جرائم ضد البشرية.
حكم مركزي ام حكم فدرالي أم حكم إقليمي؟
لقد ظل الشيوعيون السودانيون يدعون لقيام نظام حكم مركزي يتمتع فيه الجنوب بالحكم الذاتي الإقليمي وتتمتع فيه باقي أجزاء الوطن بحكم محلي ديمقراطي واسع السلطات، ولم يتغير موقف الشيوعيين هذا منذ المؤتمر الثالث للحزب في فبراير 1956، ومنذ ذلك الوقت كما يقولون جرت مياه كثيرة تحت الجسور، وتغيرت ظروف اجتماعية وسياسية في السودان، والشيوعيون السودانيون مطالبون بإعادة النظر في موقفهم هذا. والمسألة معقدة وينبغي أن تتم دراستها بموضوعية وتفصيل، فهي ليست قضية للمساومات المؤقتة بين القوى السياسية، في نفس الوقت الذي لا يمكن فيه تجاهل موقف القوى السياسية المختلفة وخاصة القوى الإقليمية، ذلك أن شكل الحكم في السودان هو من قضايا الديمقراطية والتي في النهاية يكون المرجع فيها للاختيار الحر للجماهير، ومهمتنا أن نجعل ذلك الاختيار الحر واعيا بطرح الموقف والبرنامج الذين يعالجان قضيتين هامتين: ديمقراطية الحكم والتنمية في بلد تتعدد فيه القوميات ويتفاوت فيه التطور الاقتصادي والاجتماعي.
وفي الحقيقة فان هذين السمتين : التعددية القومية والتنمية غير المتوازنة يشكلان قطبين متناقضين فيما يتعلق بالعلاقة بين المركزية واللامركزية، فبينما تدعو التعددية القومية لأقصى درجات اللامركزية، فإن التنمية المتوازنة تتطلب لمعالجتها درجة أعلى من المركزية تستهدف إعادة توزيع الموارد والاستثمارات والخدمات.
ولنتناول القضية الأولى الخاصة بالتعددية القومية والثقافية، فالسودان من ناحية موضوعية تسكنه مجوعات قومية وإثنية وثقافية متعددة تنتمي إلى ثلاث مجموعات أساسية زنجية وحامية وسامية تتحدث أكثر من مائة لغة وتسكن مناطق مختلفة في التطور الاقتصادي والاجتماعي. ولكن السودان، المتعدد القوميات والثقافات هذا، ولظروف أسباب تاريخية متعلقة بالبنية الاقتصادية الاجتماعية الموروثة من الاستعمار، ظل تحت سيطرة تحالف اجتماعي سياسي من أواسط السودان الشمالي ومن أصل عربي إسلامي أو مستعرب مسلم، بينما وجدت المجوعات الاثنية والثقافية والدينية الأخرى بعيدة عن مركز السلطة ومحرومة من نتائج توزيع الثروة والخدمات، بل أنها في بعض المناطق اضطرت لحمل السلاح مرتين للدفاع عن حقوقها.
وبالطبع من السهل هنا اللجوء لعلم الديمغرافيا وتقسيم سكان السودان لمجموعات قومية ذات خصائص وثقافات متعددة، ولكن هذا، رغم أهميته القصوى لفهم الواقع السوداني، يفقد معناه تماما إذا لم يرتبط بتطور الوعي القومي والإقليمي ونشوء الحركات السياسية الإقليمية.
لقد بدأ الوعي الإقليمي بجنوب السودان لأسباب تاريخية محددة لا نحتاج لتكرارها، ولقد أدرك الشيوعيون السودانيون منذ مطلع الخمسينات طبيعة الوضع الخاص لجنوب السودان واقترحوا لتلك الظروف الخاصة أن يتمتع جنوب السودان بحكم إقليمي ذاتي وقد تبنى نظام مايو تلك المقترحات وعلى أساسها توصل لاتفاقية أديس أبابا التي منحت الإقليم الجنوبي حكما ذاتيا ولكن التجربة فشلت خلال عشرة سنوات وذلك:
لأن الحكم الإقليمي الذاتي في جوهره حكم ديمقراطي لم يكن لينجح في ظروف الديكتاتورية التي كانت تحكم البلاد. ولعل أهم سمات التناقض كانت أن الحكم الذاتي الإقليمي كان يتخذ النظام البرلماني وتعمل داخله تيارات تعبر عن تعددية حزبية بينما النظام المايوي يعتمد الجمهورية الرئاسية والحزب الواحد.
لأن الحكم الإقليمي الذاتي كان من المفترض أن يمثل المدخل للتنمية المتوازنة ولإعادة تقسيم الثروة ولكن ذلك لم يحدث، و أصبح عبئاً جديدا على ميزانية الدولة وعلى جماهير الجنوب، ولم يؤد لتنمية الجنوب أو تطويره أو توسع الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم به. بل حتى عندما اكتشف البترول بالإقليم الجنوبي بدأت مخططات مايو لاستغلاله بدون تطوير الجنوب أو إقامة منشآت به.
ظل نصيب الجنوبيين في سلطة الدولة المركزية ضعيف بطبيعتها الديكتاتورية وبطبيعتها الطبقية وتركيبتها الإثنية والإقليمية.
وجاء تقسيم الإقليم الجنوبي لثلاث أقاليم وإعلان الشريعة الإسلامية ليعبروا عن إستمرار سيطرة المجوعات الشمالية من أصل عربي إسلامي على السلطة المركزية ومحاولتها لفرض أيديولوجيتها الدينية على بقية أهل السودان، وكانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير فبدأت الحرب الأهلية من جديد.
وقد بدأت الحركات الإقليمية في جبال النوبة والبحر الأحمر منذ عام 1958 ولكنها ظهرت بشكل معروف ومؤثر بعد ثورة أكتوبر ونال كل من اتحاد أبناء جبال النوبة ومؤتمر البجة عشرة دوائر في انتخابات 1965.
وقد بدأت أول حركة إقليمية بدارفور كحركة سرية باسم سوني (اسم بحيرة بجبل مرة) ولكنها تحولت لمنظمة علنية بعد ثورة أكتوبر باسم جبهة نهضة دارفور واختارت عدم خوض الانتخابات، رغم تدخلها كقوة ضاغطة مجبرة الأحزاب السياسية على أن تختار مرشحيها من أبناء دارفور.
وتكونت أيضا بعد أكتوبر روابط إقليمية وقبلية كثيرة، ترفع مطالب أهلها حول تصفية الإدارة الأهلية وتحسين الخدمات مثل مياه الشرب والخدمات الصحية والتعليمية وأستمرت كقوة ضغط فعالة حتى حلها نظام نميري.
ولكن منذ ثورة أكتوبر جرت متغيرات كثيرة، أهمها زيادة عدد المتعلمين من أبناء الأقاليم الأقل نموا والمهمشة، في وقت زاد فيه التفاوت في مستوى تطور هذه الأقاليم لاستمرار سياسة تركيز الاستثمارات في المناطق الأكثر تطورا في أواسط السودان. وقد أدى كل ذلك لنهوض حركات جديدة، بعضها يحمل السلاح تطالب بعدالة توزيع الثروة والسلطة.
وفي مثل هذه الظروف التاريخية، وبعد تجربة الحكم الإقليمي على أيام نميري والديمقراطية الثالثة وتجربة الحكم الفدرالي الشائهة على أيام سلطة الجبهة، يصبح من الصعب بمكان الحديث عن شكل للحكم اللامركزي أقل مما تحقق لهذه الأقاليم.
ولكن وكما أثبتت فترتا حكم نميري والجبهة، أنه لا الحكم الإقليمي ولا الحكم الفدرالي قد حل مشكلة عدالة توزيع الثروة والسلطة وأن مجرد تبني هذا الشكل أو ذاك لا يحل الأزمة، وبالتالي لا بد عند تبني أيهما أن يصاحب الشكل مجموعة من الإجراءات المركزية، التي تضمن إغلاق هوة التباين في التطور الافتصادي وتوزيع الخدمات، من جهة ويضمن مشاركة حقيقية للمناطق المهمشة في السلطة المركزية وتحويل أي سلطة إقليمية لسلطة ديمقراطية حقيقية.
الحكم المحلي كقاعدة للحكم الديمقراطي
لهذا يصبح من المهم النص في الدستور على أن الحكم الديمقراطي في السودان يقوم على قاعدة للحكم المحلي. صحيح أن تنظيم الحكم المحلي وتقسيم دوائره هو مسألة تفصيلية تترك عادة للقانون. ولكن لا بد هنا من الاستفادة من تجربة السودان الطويلة في الحكم المحلي التي تعود لعام 1937. وأرى أن نعود، حتى ولو بصفة مؤقتة، لتقسيم المديريات والمجالس المحلية والريفية القديمة أو لشكل قريب منه بهدف تجميع الموارد واختصار التكلفة، مع زيادة عدد أعضاء المجالس البلدية والريفية لتمثيل قطاعات أوسع من السكان، على أن تكون المديرية السابقة لعام 1970 هي وحدة الحكم الفدرالي، باستثناء الإقليم الجنوبي الذي سيضم المديريات الجنوبية الثلاث ومنطقة جبال النوبة التي تصبح إقليما قائما بذاته ومنطقة جنوب النيل الأزرق وجبال الإنقسنا التي تشكل إقليما قائما بذاته.
نحو حكم فدرالي ديمقراطي
وانسجاما مع التحول الديمقراطي لابد من معالجة الأخطاء التي أدخلها نظام نميري حيث فصل المحافظين والحكام على شاكلة رئيس الجمهورية، فلا بد من قيام أقاليم أو ولايات يسودها الحكم البرلماني المعروف، تتكون سلطتها من برلمان إقليمي منتخب انتخابا حرا مباشرا، ينتخب رئيس للوزراء، ويقدم رئيس الوزراء سياسة حكومته الإقليمية ووزارته للبرلمان لنيل ثقته.
تقسيم السلطات
لا شك أن تقسيم السلطات بين السلطة الاتحادية والأقاليم الفدرالية، يعتبر أحد أهم قضايا النزاع في السوداني. وليس العبرة بإعطاء الأقاليم الفدرالية سلطات واسعة أو جعلها مسؤولة عن تقديم الخدمات لمواطنيها، فذلك تكتيك قديم اتبعه نميري من قبل عندما أنشأ الحكم الاقليمي بهدف شغل الجماهير في المناطق المهمشة والتي بدأت تطالب بنصيب عادل في الخدمات ومشاريع التنمية، توجه مطالبها لحكام أقاليمها وحكوماتهم بدلا من الحكومة المركزية. ولكن لا سلطة بدون موارد. لذا يجب الربط بين تقسيم السلطات وتقسيم الموارد والثروة. ولكن في غير هذا يصبح تقسيم السلطات مسألة عادية تهتدي بتجارب البلدان الأخرى وبالمفاوضات بين أطراف النزاع السوداني ويمكن اقتراح التالي:
السلطات الاتحادية:
1. الحدود والمياه والأجواء الدولية.
2. رسم حدود الأقاليم
3. الدفاع والقوات المسلحة والشرطة والأمن
4. الجنسية والجوازات والهجرة وشؤون الأجانب.
5. العلاقات الخارجية
6. نظم الانتخابات العامة للمؤسسات الدستورية الاتحادية والإقليمية والمحلية
7. القضاء والمحاماة والنظم العدلية.
8. العملة والسياسات المالية والنقدية والائتمانية والمصرفية.
12. التعليم العالي والجامعي بشقيه الفني والأكاديمي.
13. الأراضي والموارد الطبيعية الاتحادية والثروات المعدنية والبترولية والثروات الطبيعية على سطح الأرض وفي باطنها، والثروات في المياه الإقليمية السودانية وفي أعماق البحار.
14. المياه العابرة والبحريات والأنهار.
15. المشروعات القومية للكهرباء والطاقة والشبكات الناقلة لهما.
16. المشروعات والهيئات والشركات القومية.
17. النقل الاتحادي الجوي والطرق البرية والبحرية والنهرية العابرة والموانئ الجوية والبرية والمواصلات والاتصالات العبرة الاتحادية.
18. الآثار والمناطق الأثرية والوثائق القومية والمصنفات القومية الفنية والثقافية والتراثية وفقا لما يحدده القانون.
19. مكافحة الأوبئة والكوارث الطبيعية.
20. خطط التنمية الاقتصادية القومية.
21. الموازنة العامة للاتحاد والموارد المالية للاتحاد وتخصيص أوجه صرفها.
السلطات الإقليمية
1. إدارة الإقليم وحفظ الأمن والنظام.
2. التجارة والتموين.
3. ميزانية وموارده المالية وتحديد أوجه صرفها.
4. الأراضي والموارد الطبيعية الإقليمية والثروة الحيوانية والغابات.
5. المياه والطاقة الكهربائية الإقليمية غير العابرة.
6. التعليم العام.
7. الصحة الوقائية والخدمات الصحية الأولية.
8. طرق ووسائل النقل والمواصلات والاتصالات الإقليمية.
9. وسائل الإعلام والثقافة الإقليمية بما في ذلك المتاحف ودور العرض السينمائي والمسارح.
10. الحدائق العامة وأماكن الترفيه.
11. الرياضة.
12. تسجيل المواليد والوفيات ووثائق الزواج.
ولكن لأسباب الأزمة الاقتصادية وضعف موارد الدولة في الوقت الحاضر، لا بد أن تتحمل الدولة المركزية عبء تقديم بعض الخدمات، على أن تعود هذه الخدمات للأقاليم عند تطور مواردها، وأنا أقترح أن توقع السلطات الاتحادية والإقليمية بروتوكولا تقوم بموجبه الحكومة الاتحادية بتمويل وإدارة خدمات التعليم والصحة للمركز لفترة عشرة سنوات حتى يتم وضع أسس حقيقية لموارد الأقاليم المالية وأن يكون هذا هو شكل الدعم المقدم من الحكومة المركزية في هذا الجانب، يقدم الدعم في شكل خدمات مباشرة يقوم المركز بتحمل نفقاتها وهذا بديل للشكل الحالي الذي يذهب في شكل موارد مالية لا تصرف حقيقة في خدمة المواطنين. ويكون الهدف الأساسي هو ردم الفجوة في تطور الخدمات بين مختلف الأقاليم السودانية بحيث تسلم هذه الخدمات للأقاليم والمؤشرات الإقليمية تساوي المؤشر القومي أو تقاربه. ونعني بذلك مؤشرات مثل عدد الأماكن بالمدارس بالنسبة لعدد الأطفال في سن التعليم، عدد المدرسين بالنسبة للتلاميذ، عدد الأطباء بالنسبة للسكان، عدد السرائر بالنسبة للسكان والأطباء إلى غيرها من المؤشرات.
تقسيم الموارد والثروة
المهم في تفسيم الموارد والثروة ليس هو تقسيمها لتستفيد منها الطبقات والفئات المسيطرةعلى االثروة في الأقاليم والمركز، أي لا تصبح القضية هي اقتسام مغانم بين السادة، وانما تقسيم للموارد على أساسين: بين الاستهلاك الضروري والاستثمار الموسع في الانتاج والخدمات، وتقسيم الفائض الاقتصادي بين الأقاليم الأقل نموا والأكثر نموا حتى نعالج مسألة النمو الاقتصادي غير المتوازن في البلاد. وفي الحقيقة من الصعوبة معالجة المسألتين بنصوص دستورية، فالمسألتان لن تحلا حلا جذريا بمجرد تقسيم الموارد بين المركز والاقاليم للآن كل من المركز والإقليم المعين قد يستخدما الموارد المتاحة لهما لغير متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهذا يجعل القضية هي قضية سلطة: من يحكم الإقليم أو المركز. ولثقتنا في النظام الديمقراطي فإننا نتلرك ذلك للصراع السياسي والاقجتماعي في نطاق التعددية والديمقراطية.
ورغم كل هذا نقترح صيغة لاقتسام الموارد فيما يلي:
أولا: الموارد الضريبية:
يكون للسلطات الاتحادية نسبة 60% من كل العائدات الضريبية بالسودان ويكون لكل إقليم نسبة 40% من العائدات الضريبية المتولدة داخل الإقليم.
ثانيا:أرباح المؤسسات العامة والمشاريع والشركات الحكومية:
يكون لكل من السلطات الاتحادية السطات الإقليمية 40% من عائد ارباح المؤسسات الاتحادية والمشاريع والشركات الحكومية ويخصص باقي ال20% من الأرباح للمؤسسات والمشاريع والشركات بهدف تطويرها وتنميتها وزيادة رأسمالها.
ثالثا:العائدات من استغلال الموارد الطبيعية كالبترول والغاز والمعادن والمناجم والمحاجر:
يكون لكل من السلطات الاتحادية والإقليمية 40% من العائدات ويخصص باقي ال 20% لتطوير الاستثمارات وزيادة رأس المال.