قطار الغرب
عفواً عفواً يا أجدادي شعراء الشعب
يا من نظموا عقد الكلمات بشكَّة سهم
أنا أعلم أن الشعر يواتيكم عفو الخاطر،
عفو الخاطر.
وسبقتونى فى هذا الفنِّ: وداع الأحبابِ
خُضتم أنهار الدمع وراء أحبَّتكم
باركتم بالدعوات مسار أحبتكم
من أسكلة الخرطوم إلى الجبلين، إلى الرجاف
قاسيتم، وأنا يا أشياخى قاسيت
كل السودان يقاسى يا شعراء الشعب
فدعوني أُسمعكم شجوى:
شَجْوى أدعوه قطار الغرب
***
اللافنة البيضاء عليها الاسم
باللون الأبيض باللغتين، عليها الاسم
هذا بلدى والناس لهم ريح طيب
بسمات وتحايا ووداع متلهِّب
كل الركاب لهم أَحباب
هذى امرأة تبكى
هذا رجل يخفى دمع العينين بأكمام الجلباب:
سلّم للأهل ولا تقطع منا الجواب
وارتجَّ قطار الغرب، تمطَّى فى القضبان
ووصايا لاهثة تأتى وإشارات ودخان
وزغاريد فهناك عريس فى الركبان
***
ها نحن تركنا عاصمة الأقليم، دخلنا وادى الصبر
كل الأشياء هنا لالمعة تعلوها
كل الأشياء لها ألوان القبر
الصبر، الصبر، الصبر.
الكوخ المائل لا يهوى
والشجر الذاوى ليس يموت
والناس لهم أعمار الحوت
أحياء لأن أباً ضاجع أماً
أولدها فأساً يشدخ قلب الأرض
يحتاز كنوز الأرض ويبصقها دمّاً
لتظل البورصة حاشدة والسوق يقام
وقطار الغرب يدمدم فى إرزام.
تتساقط أغشية الصبر المترهل حين يجىء
ألوان الجدة فى وديان الصبر تضىء
والريح الناشط فى القيعان يمر
يا ويل الألوية الرخوة
يا ويل الصبر
***
ساعات الأكل تعارفنا
الصمت الجاثم فى الحجرات إنزاح
وتبادلنا تسآل فضوليين
تحدثنا فى ساس يسوس
وتحذلقنا عن جهد الانسان الضائع
فغرسنا كل الأنحاء مزارع
جئنا بالجرارات حرثناها
هذى الأرض الممتدة كالتاريخ
حبلى بالشّبع وبالخصب المخضل
والناس هنا خيرات الأرض تناديهم،
لا أذن تصيخ
دعنا منهم وتدارسنا تحديد النسل
وتجولنا عبر الدرجات
عربات شائخة تتأرجح بالركاب
ومقاصير للنوم بها أغراب
الأولى خشخش فيها الصمت
والرابعة العجفاء بها إعياء
ضاعت تذكرة المرأة ذات محط
ورجال يكتتبون ورجرجة وضجيج
ومآذن فى الأفق المدخون تضيع
كوستى وأناس ينصرفون بلا توديع
وأناس يشتجرون على الكنبات
***
ها نحن دخلنا ما بين النهرين
الناس هنا جنس آخر
فقراء وثرثارون ولهجتهم فى لين القطن
والباعة مِلحاحُون وحلاّفون
ولهم آذان تسمع رنة قرش فى المريخ.
هذا نوع فى كل نواحى القطر تراه
جنس رحَّال منذ بدايات التاريخ
أرض الذهب البيضاء بهم ضاقت
رغم الخزَّان المارد والذهب المندوف بهم ضاقت
فانبثُّوا فى كل متاهات السودان
الشىء المفرح أن لهم آذان
وعيوناً تعرف لون اللصِّ الرابض للقطعان
وسواعد حين يجدُّ الجدُّ تطيح
هذى ليست إحدى مدن السودان
من أين لها هذه الألوان
من أين لها هذا الطول التيَّاه
لا شكَّ قطار الغرب الشائخ تاه
وسألنا قيل لنا الخرطوم
هذى عاصمة القطر على ضفات النيل تقوم:
عربات
أضواء
وعمارات
وحياة الناس سِباق تحت السوط
هذا يبدو كحياة الناس
خير من نوم فى الأرياف يحاكى الموت
ما أتعسها هذى الأرياف
ما أتعس رأساً لا تعنيه تباريح الأقدام
***
ونزلنا فى الخرطوم بلا إستقبال
فتذكرتُ الحشد المتدافعَ فى إحدى السْندات
بِرتينَتِهم وقفوا فى وجه الريح
وأطلَّ من الشباك فتى القرية
قد عاد أفنديا إبن القرية
وانهالت بالأحضان تهانيهم
وأنا لا حضن سوى الشارع
يتلقَّفني، يتلقف أجدادى الشعراء
هم فى الطرقات وفى المذياع بكاء
خلف المحبوب من الجبلين إلى الرجّاف
ما أحلى أياماً لا تحمل إلاَّ همَّ الحب
ها نحن الآن تشبَّعنا بهموم الأرض
وتخلخلنا وتعاركنا بقطار الغرب
إنى يا أجدادى لست حزيناً مهما كان
فلقد أبصرت رؤس النبت تصارع تحت الترب
حتماً ستظلّ بنور الخصب ونور الحب
حتماَ حتماً يا أجدادى شعراء الشعب