كان الراعي في الصحراءْ …
يبحث عن عشبٍ يلبس ألواناً
عن كلأٍ …
عن ماءْ …
ما عاد اللبن غزيراً
و الأرض تضجّ جفافاً
تبدأ بالحافر ِ
ينشقُّ …
تعلو السيقانَ العاريةَ
تتسلل نحو دماء الجسد الصلبةِ
يبست في الشريان أو انقرضتْ
و لسان الفكرةِ يصرخُ …
قطرةَ ماءْ …
***
كان الراعي في الصحراء ضعيفاً
يجرُّ بقايا الغنمِ المنهكةِ
كُتَلٌ سوداءُ تغوص برمل العطشِ
جَفَّتْ شفتاه و غامت عيناه
و ظَلّ يطارد حفلَ سرابٍ
في الشجرِ البائسِ في الشمسِ
في البحر المالح في اليأسِ
في خُصل الغيم البيضاءْ
بات وحيداً في الرحلةِ
ما يفعلُ بالكُتَلِ المرهَقَةِ
كُتَلُ اللحمِ القاتمِ
يحملها …
تتفسخ بين يديهِ
يتصبب عرقاً
يذوي للأرضِ
لا ينبت شيءٌ في العرَق المالحِ
وهناك ، في الأفق الصامتِ
يخفق بجناحيهِ غرابٌ
يضرب صمت الأزمنةِ
تستيقظ ذاكرة الرملِ و تصرخُ…
ماءْ … ماءْ …
***
ما تفعلُ ببقاياكَ ؟!!
ما تفعل بالقبر المتورّم فيك ؟!!
كيف ستُزهرُ عيناكَ ؟!!
و كيف يطير لسانك نحو الجنةِ
يتعلّم منها أغنية الفردوسِ
تُغنّيها للغنم فتغفو ……
***
كان شريداً
لا زال بعيداً جِداً و وحيداً
لا يملك إلا أن يمشي
و يجُرّ القافلةَ العمياءْ ……
لن يجرؤ أبداً
أن تدمعَ عيناهُ
فَتَشي بضياع الدربِ
و رحيل الماءْ ……
***
كانت تسحقه الشمسُ
تسرق منه خلاياهُ
تتركها أثراً مرتبكاً
فوق شفاه الرمل الناعسِ
و الذاكرةِ الصفراءْ
حاولَ …
أن يعصرَ ذاكرتَه
خاصرتَه
أن يعصرَ نفسَه
لا قطرةَ ماءْ …
ظَلَّ و ظَلَّ يسيرُ
و الغنم هنا و هناك ينامُ
يرقدُ في صمتٍ أزليٍّ
يبحث في عتم الأبديّة
عن معنى الماءْ …
***
ظَلَّ و ظَلَّ يهيمُ
يصنع أحلاماً
يتناهى في الرؤيا
تغليه الشمس بداخلهِ
ترتجّ الأرض عليهِ
يهوي
سقط وحيداً !
الرملُ الساخنُ أنثى
يشتعل حريقاً في شفتيه
تئنّ الذكرى
يأتي صوت لهاثٍ من رئةِ الرملِ
يسمع من رحلوا …
من حبلت فيهم شمس الصحراء
من ماتوا في الرحمِ الأصفرِ
كان أنيناً ، كان خريراً …
ما أجملَ صوتَ الماءْ !!!!!
***
ينظر للأفق الحجريِّ
الملح مؤامرةٌ في عينيه
تملأه أشباح الأزرقْ
واحاتٌ زُرقٌ و نخيلٌ
شمسٌ يغمرها الأزرقْ
و الأُفْقُ يعانق غيماً أزرقْ
و لهاث الرملِ يصير خريراً أزرقْ
يصغي كالطفل إليهِ
يَمُدُّ لساناً نحو الرملِ
يلعقُ .. يلعقُ .. يلعقْ ..
يأخذه النوم بعيداً …
تبلعه الصحراء و يغرقْ ……