- "أراكَ غداً .... " هكذا قلت لصديقي و أنا أقف على عتبة باب بيته ...
فردَّ عليّ و قد خرج بنصف جسمه من الباب ... مُبقياً يده على كبسة إضاءة الدرج
- "أوكي ... غداً في نفس الموعد ... "
و مدّ رأسه أكثر ليختبر نافذة الدرج ، الضباب يحجب الرؤيا خلفها ، تلتمع بضوء سيارة قريب
سأل بهدوء :
- " ستأخذ تاكسي ؟ "
- " لا أدري ، الأمر يحتاج لدراسة وافية "
ضحك و قال " المطر خفيف ... لكن الريح قوية "
ابتسمت و قلت له :
- " يا سيدي الأعمار بيد الله "
نظر جانباً ، و سألني بابتسامته الخبيثة :
- " نِفسي أعرف بأيّ إيد "
- " يا لك من خبيث " ،،، قلتها و أنا أهبط الدرج مسرعاً
ضحك و قال مع السلامة ، و لم يذكر شيئاً عن درجة مكسورة في بير السّلِّم
" اللعنة عليه ... لم ينتظر دقيقة حتى أخرج من العمارة !! "
كدت أتزحلق على إحدى الدرجات ، ليس من باب التسلية ، فمن يرغب ببهلوانيات في هذا الليل اللئيم
خرجت من العمارة فحيّتني الريح بصفعة جيدة على وجهي ، كأنه تخدّر قليلاً أو تحول إلى قطعة بلاستيك
" و الله الجو بارد " ... شيء ما همس في أذني
" يقص المسمار ... " ، و تذكرت وجه أبي ،، و مسمار بُنّي صدئ .. طرفه مقصوص ...
نظرت في ساعتي ... هززت رأسي مبتسماً لأني تذكرت أنها هدية من صديقتي في عيد ميلادي ،، في ذاك اليوم صرت أهتم بالوقت ، و أرفع طرف الكُمّ الأيمن بطرف إصبعي لأعرف الوقت ، تماماً كما في إعلانات التلفزيون ، كل خمس دقائق ...
كانت تشير إلى الثانية عشرة و الربع
المواصلات ستكون بهدلة الآن ...
سحبت طاقيتي الصوف إلى الأسفل ،، لم تكن هدية من صديقتي ،، نسيها أحد الأصدقاء عندي ذات يوم ، فأصبحت من الممتلكات الشخصية العزيزة عليّ ، من باب الذكرى ناقوسٌ يدق في عالم البطاطا كما كنا نقول ، و نضحك ...
دسست يديّ داخل جيوب معطفي الكتان الكحلي الطويل لمنتصف الساق ... الجيوب مبطنة بالساتان البارد ، ليس بارد بل ثلاجة عشرين قدم ... صرت أُقلّب قطعة الدينار العظيمة بين أصابعي ... رغم أن جيوبه مبطنة بالساتان البارد كثلاجة عشرين قدم ، لكن من يعلم كم كنت سعيداً يوم اشتريت هذا المعطف ، أحس عندما أرتديه بأني شخصية مهمة ، تماماً ككل المحققين المهمين و على رأسهم كولومبو ، و الشخصيات المهمة من الوزن الثقيل في عالم الأدب ، لقد اهتممت كثيراً أن يكون طويلاً لنصف الساق تقريباً ... لا ليس هناك تقريباً ... كان شرطاً أساسياً لا رجعة فيه ، و قد أقسم لي يومها البائع العراقي بأنه (ستوك) و ليس (بالة) ، و ما مصلحته في أن يحمّل نفسه يميناً كاذباً !!!
لا أدري لماذا نظرت بعينيّ إلى أسفل المعطف ، مددت رقبتي لأتأكد أن طوله لم يزل لنصف الساق ... و انحدر نظري بشكل تلقائي إلى حذائي الأسود اللامع ،
" هه " ،،، توقفت للحظة و ثنيت قدمي أنظر لجانب الحذاء ،،،
" الثقب لا زال صغيراً " ... قلت في نفسي
لكنه يتخاذل قليلاً أمام هذه الرطوبة التي تأكل أصابعي ، و فوق ذلك تضطرني لفركها كل خمس دقائق ، في الفترة التي أفكر فيها في النظر إلى الساعة ...
لا يهم ... في البيت أجففها على الصوبة ،،، رفعت الياقة حول عنقي ، فأصبحت شارلوك هولمز بلا أدنى شك ، أو أي شخصية مهمة ... ترتدي معطف كتان طويل لنصف الساق ...
الشوارع خالية تماماً من الحركة ،،، برك الماء تعكس ضوء المصابيح ،،، و الريح شديدة تحف الأشجار ،،، و صوت الأحجار الصغيرة المهروسة تحت قدمي يمنحني شعوراً بالحياة .
" أوووه !
" مرحباً ،،،
" ماذا تفعل في هذا البرد !! ...
" لا تخف " ...
الخبيث ركض خلف السور ... قط لئيم ..
مرت بجانبي سيارة مسرعة ، حيّتني برشقة ماء رائعة ... السائق يظن أني حشرة ، أو سحلية ربما ... لست متأكدا بالضبط ...
" شكراً .... " صرخت باتجاهه ، لم يقل (عفواً) حتى !!!
المنازل تبدو هادئة ،،، النوافذ تغطيها الأباجورات بشكل محكم ،،، بعض النوافذ هناك ترتعش عليها إضاءة التلفزيون ،،، ما أجمل الجلوس عند التلفزيون و مشاهدة الكاميرا الخفية ،،، و استعمال الأغطية الثقيلة الناعمة ... أعرف من أين يحضرونها ،، من العمرة ،، انهم يحافظون على العمرة كما يحافظون على نظافة أسنانهم ....
و التدفئة لذيذة ،،، الغريب أنها تعمل على السولار و ليس على الكاز !!
" و الله العز حلو .. البيوت مشجرة .. السيارات تنتظر على عتبة الباب دون تذمر ،،، ما أجمل الضباب على حوافها السوداء الدائرية ...
اللعنة عليكم ،،، و لعنة الله عليك يا ماركس ،،، و على رأس مالك الذي أتأبطه و لا أكاد أفهم ربعه ،،، و على اليوم الذي قرأت فيها كلمة برجوازية ،،، قاتلك الله ... من أين طلعتَ لي !!! "
هززت رأسي أسفاً ،،،، تماماً كمن يعرف كل شئ ، و يسيطر على الوضع تماماً ،،، هم لا يعلمون ،،، هم ليسوا من النخبة المثقفة ،،، الجائعة ،،، هززت رأسي ثانياً ،،، و مددت رقبتي لأنظر إلى أسفل معطفي الكتان الطويل لمنتصف الساق ... الحمد لله ... كل شئ في مكانه .
" وقته الآن !!!! " .... تساءلت و أنا أسمع صوت غناء يخرج من مكان قريب ،،، لا بد أنها سيارة سياحية ،،،
" لعنة الله عليكم ... شباب زعران "
كأن جورج هو الذي يغني ،،، صديقي البرجوازي المتكادح الذي خرجت من عنده قبل قليل ، هو يستعمل السولار أيضاً ،،، يكاد يعبد جورج ،،، أنا شخصياً أحب أغانيه القديمة و الطويلة ،، و لكن ليس لمنتصف الساق
" أتعلَم ؟؟ لم يبقَ في حزبنا غير أنا و أنت و ماركس ! " قال مازحاً
" هه !! " ،، يا لها من نكتة ،،، قهقهت عالياً ، هو قهقه كذلك بنفس الارتفاع ،،، لعنة الله عليه هو الآخر ، يصرّ على أن الاتحاد السوفييتي عليه رحمة الله كان يطبق العدالة و الاشتراكية الصحيحة ،،، و أن لينين ثوري حقيقي و ستا .... "
أ ح ح ح ح ح ح ح ح !!!
أوه كم هي باردة ....
رفعت قدمي الغاطسة في بركة الماء
أغمضت عينيّ للحظة ،،، كان هناك مكبس رهيب يضغط على جمجمتي و قدمي معاً
اللعنة عليك يا ماركس ، و عليك يا صديقي ،،، لو أني تذكرت قرد كان أفضل ...
صرت أمشي و صار حذائي يصدر تلك الأصوات العجيبة لكثرة الماء الذي دخله
لا زال صوت جورج يلعلع ، يبدو أنه بيت زعران و ليس سيارة سياحية كما تخيلت ،،، مِن هناك ،،،مِن تلك النوافذ التي تعكس خيالات أجساد تتراقص على الأضواء الحمراء و البرتقالية ، صوتهم و صخبهم يملأ الحيّ ... لا بد أنه عيد ميلاد أحدهم ،،، هكذا أَحب أن يأتي في الليالي الباردة ،،، لا يهم ، هناك الكثير من السولار و الحليب الدافئ .
" لعنة الله عليكم ،،، الآن !!! ... أليس لديكم ما تفعلون !!! ،،، و الكاميرا الخفية !!! هه !! برجوازيون عفنون ،،،، هه "
أشحتُ وجهي عنهم و تابعت المسير و المسيرة ،،، و عدتُ أنظر لمعطفي الكتان الطويل لنصف الساق ... نظرت للنافذة ثانية ،، صارت خطواتي تبطء شيئاً فشيئاً ،،،، الكل يرقص و يخلع ،،، فلوووووووس يا عمي ،،، يهرجون و يمرحون و لا يعرفون رأس المال ،،،، تفوووووووو " ،،،، و نظرت لحذائي
اللعنة عليّ ،،، ما أسخف منظر البصقة اللزجة و هي تنحدر و تستطيل ببطء على بوز الحذاء ،،، يا له من قرف ،،، حاولت تجاهلها لكني لم استطع ، فانحنيت أمسحها بطرف كُم المعطف ،، و ما كدت أثني ركبتيّ حتى جاء صوت ضعيف من خلفي
" ذراي .... تشتري ذراي ؟؟ " ...
نظرتُ إليه بدهشة ،،،، أي عفريت هذا !!! كان وجهه غائماً بعض الشيء ،،، رجل في نهاية الأربعين من عمره ، يقف وراء عربته التي يفوح منها البخار و رائحة الذرة المسلوقة !!!
كان يقف أمام عمود نور ،، للوهلة الأولى تظنه شجرة أو شيء من ديكور المنطقة ،،،، يقف قرب البيت الذي يحتفل بعيد ميلاد أحدهم ،،، يا له من غبي ،، هل يعتقد أن هؤلاء يأكلون الذرة المسلوقة !!!! من يدري ربما ،، فأنا سمعت أنهم ينزلون في الليل ليأكلوا فول من مطعم هاشم ،،، يفضلون القديم في البلد ، لا ادري لمَ ،،، ربما لأن عمال الفرع الجديد يتحممون ،،، و هذا ينزع الجو التراثي من الطلعة ،،،،
لا يهم ،،، لكن لحيته كانت إبرية بيضاء ،،، و عظامه نافرة و عينيه صغيرتين كعيني قنفذ .
اقتربت منه بضع خطوات ،، و هو ينظر إليّ يستعد لسماع جوابي العظيم ، هل أريد ذُراي أم لا أريد ،،، .
" الواحدة بعشرين قرشاً .... "
" خذ اثنتين لك و للمدام ،،، بخمس و ثلاثين "
لديه عروض مغرية ،،، تلعثمت لم أدري ما أقول ، كأن لساني تحول إلى مكعب ثلج تورطت بالتهامه ،،
وضعت يدي أمام فمي و سعلت و أنا أمد رأسي لأرى ما لديه داخل العربة ، كان هناك أربع قطع ،،، يتصاعد من حولها البخار بعصبية .
نظرت إليه ،،،،
" أعطني أربع قطع يا عم ، و هاك دينار "
تناولها بملقطه بهدوء ،، لم يتهلل وجهه فرحاً لأني طلبت أربعة ،، خلته لم يسمع كم طلبت ،،،و تناول الثالثة و الرابعة ،، لفّها بالورق و ناولني إياها ،،،
" الآن يغني عاصي ،،،،" ،،، لعنة الله عليكم ،،،،
أعطيته الدينار فغيّبه في جيب سترته الخضراء ، فوق قلبه تماماً ،، و تناول سيجارة و أشعلها و سحب بنهم شديد و دعا الله أن يعوّض عليّ ...
" شكراً ،،، " و مضيت ،،، لا أدري هل قال عفواً أم لا ،،، لا يهم ،،،
انتظرت أن أسمع صوت عجلات العربة ، لم لا يذهب إلى بيته ،،، ألم أشترِ منه القطع الأربعة !!! ماذا ينتظر !!! أليس يشعر بالبرد يقص المسمار !!!! و أتذكر وجه أبي مرة ثانية ....
مضت ثواني و سمعت صوته ينادي " ذُراي ،،،، ذُراي "
أسرعت بخطاي أكثر ، صرت أجري ،،،صوته يلاحقني مع صوت عاصي ،،، أنعطف يساراً لأصل الشارع الرئيسي ،،، كان هناك باص على وشك التحرك ،،،، و الكونترول يتدلى بنصف جسده من الباب و يشير إلي أن أسرع ،،، كنت أمشي بسرعة أوشك على الركض ،،، مصيبة إذا فاتني الباص ،،، بل كارثة ،،، لم يهمني كثيراً بريستيج المعطف الكتان الطويل لمنتصف الساق ،،،، المهم أن ألحق به ....
" فقط لغاية الدوار " ،،، قال لي حين انزلقت داخل باصه
الباص مزدحم بالركاب كعلبة سردين و الأنفاس عبقة تغطي الزجاج بضباب كثيف ،،، استطعت أن أقف تحت كوع الكونترول ،،، كم كانت مزعجة يده اللزجة و هي تتكئ على جانب وجهي ،،،الوجوه مكتئبة بشكل واضح ، ربما لأنهم فوّتوا برنامج الكاميرا الخفية ، أو لأنهم تذكروا رائحة الكاز ،،،كان بعضهم ينام على مسند الكرسي الذي أمامه ،،، أنا كنت أستند على ذراع الكونترول ،،،أو ذراعه تستند عليّ ،،، لا يهم ،،، المهم هو اختفاء صوت العجوز ،،، و كذلك صوت عاصي ،،، و بدأت أغفو و أنا أسمع أغنية في مسجلة الباص ،،، أظن و الله أعلم أنها كانت لجورج ...
تمت