كانت تجلس على حافة كرسي خشبي حديث الطلاء ، الشمس ترسل قبلاتها الدافئة إلى صفحة البحيرة اللامعة ، الناس يتناثرون فوق العشب هنا و هناك ، و تحت الشجر كانت الأجساد شديدة الالتصاق تمارس شيئاً من الحب الجريء ، السماء باريسية تعلن الأزرق لون الموضة لهذا الموسم ، تهب نسائمٌ ربيعية باردة تحرك حواف شعرها الذهبي ، كانت تحني وجهها للأسفل قليلاً ، تلبس قبعةً شجرية تظلل جبهتها و عينيها ، و قميصاً صيفياً بلون الفستق ،يكشف عن كتفيها الثلجيتين ، تشبك يديـها في حجرها ، و تنظر إليهما بعينين مطرقتين ، و ظِل ابتسامة يرتسم على شفتيها اللامعتين بالأحمر .
- ما أجملَ لون عينيكِ ! قال لها
اقترب برأسه و همس لها :
- شَعركِ يسحرني ، ما أجمل الشمس و هي تتسكع فيه …
تبتسم
- ما كل هذا الصمت ! يسألها …
تبقى على ابتسامتها ، ربما ارتبكت ابتسامتها قليلاً
- أع … أعرف أنك لم تعتادي صحبتي بعد ، و لكن ، أقصد … أنت ملاك !
يخفض رأسه للأسفل و يحدق في ساقيه اللتين لم تكفا عن الاهتزاز ، يبدأ بخشخشة مفاتيحه
- أتعلمين ؟
يهرب منه الكلام ، يتلهّا بالنظر إلى استدارة كتفيها الحليبية ، ناعمة كالزغب ، يلتهم بعينيه الشبقة استدارة عنقها ، يهبط بنظرات سريعة خاطفة إلى فتحة القميص أعلى الصدر ، السرير يموج بهما ، شعرها يتناثر على كتفيه بجنون ، جسداهما ينزلقان بالعرق اللزج ، تتأوه ، لا تدري كيف تتناوله ، يسمع صوت فينتفض كالملسوع ، لا زال يحدق بفتحة القميص أعلى الصدر ، يتناول سيجارة و يشعلها ، يلقي بعلبة الثقاب على الطاولة بطريقة استعراضية فتسقط ، يمد يده بسرعة لالتقاطها فيحدث جلبة و تزعق أرجل الطاولة على الأرض الإسمنتية ، يبتسم بخجل و يتناول العلبة بارتباك ، ينظر إليها بنصف ابتسامة متجاهلاً الفوضى التي سببها، يأخذ نفساً عميقاً من سيجارته ، يخرج الدخان بطريقة استفزازية نزقة ، يداعب شعرها بطرف إصبعه ، يأخذ نفساً و يحدق إلى بقعة الشمس المثلثة على خدها الأيسر ، يظهر الزغب الناعم الأشقر لذيذا كطَعم طفلة ، يترك إصبعه يتجول على وجهها كيف يشاء ، كان خدها ساخناً و ناعماً ، لم يعرف كيف و لماذا ، تذكر الوجوه الأنثوية التي لمسها في الماضي ، و تذكر كيف كانت لزجة بالزيوت ، و رائحتها تشبه رائحة الملابس الرطبة المنسية تحت السرير ، و عندما تذكر العيون الغائرة في جلدها الرخو و عروق الرقبة الزرقاء النافرة ، أحس برغبةٍ في التقيؤ .
- هل قلتِ أن اسمكِ جانين ؟
يفكر …
- م م م م م …
- ما رأيك باسم داليدا ؟
يردد اسمها ببطء و يمطّ مقاطعه
- دا ليــــــــــــــــــــــــــــــلاااااااااا ، و يبقي على فمه فاغراً منتشياً بسيطرته على الموقف
تبتسم بشيء من الحياء
- جميل ها ؟
تهز رأسها مستلمة
- يرفع رأسه و ينظر بعيداً ، يحلّق نحو الجبال التي ترقد على كتف الأفق ، يعدّ قممها المكسوة بالثلج ، يتابع طيراً يحلّق في السماء الزرقاء العميقة ، يرفع رأسه شيئاً فشيئاُ يلاحقه بعينيه ، يصبح نظره عامودياً تماماً ، تشتد عضلات رقبته و تنفر عروقها ، يلتفت نحوها و يسأل بحدة :
- لِم تطرقين برأسكِ هكذا ؟؟؟
- لِم لا تتكلمين ؟؟؟!!
ترتجف قليلاً و تشرع في البكاء ، يهز رأسه لا يعرف ما يقول
- أنتِ
يبتسم
- ألا تعلمين أني اتخذتكِ إلهتي ؟!
- نعم ، دعيني أراقب عينيك؟ لو تعلمين كم أحب أن أشرب من زرقتهما
بقيت على صمتها ، هز رأسه بأسف و صب كأس نبيذ ، رشف قليلاً ، نظر إلى الكأس بين يديه ،صار يراقب صورة وجهه المرسومة على جار الكأس ، ابتسم حين رأى وجهه بيضاوياً طويلاً مضحكاً ، صار يُقرب رأسه و يبعدها عن الكأس كدجاجة ، و يبتسم و هو يرى تموجات وجهه ، كان يميل أحياناً برأسه جانباً و يبتسم ، يضحك عندما يصبح وجهه عينين جاحظتين ، يرفع رأسه للأعلى و ينظر بأسفل عينيه ليرى وجهه شفتين غليظتين برقبة رفيعة كخيط ماء ، للحظة نسي فتاته
- هل تحبين وجهي ؟؟
- هل أبدو مرعباً بهذي اللحية ؟؟ يضحك بنـزق
يصرخ بحدة :
- تكلمي !! تحركي !! ما هذا الخجل المقرف !! ألم أقل لكِ أني اتخذت قراري بأن أحب هذا الصباح ؟؟ لِم تصرين على إفشال مشاريعي ؟؟!!
ينتابه الصمت قليلاً
……………
- أتحبين النبيذ ؟
تهز رأسها
يغمس إصبعه في الكأس و يلعقه بصوت مسموع دون أن يرفع عينيه عنها و كأنه يدعوها لخوض مغامرةٍ لا تنتهي ، يغمسه ثانية ، يرفعه بحذر كي لا يفلت ما تجمع على طرفه من نبيذ ، يخفض إصبعه قليلاً فتنزلق قطرة النبيذ و تبقى على طرفه , يبتسم و ينظر بطرف عينه ، تختفي ابتسامته فجأةً و يمتلئ وجهه حدة ، يمسح إصبعه على شفتيها الطريتين الدبقتين ، تجتاحه عاصفة حارّة من تجويف صدرهِ ، تنتفض كتفاه و يرتعش جسده بآلاف الدبابيس ، كانت عيناه غائمتين ، تهبطان بذبول لتنظر إلى فتحة الصدر و العتمة الباردة بين نهديها ، نضح جبينه بحبات العرق و صار أحمر كالمسلوخ ، يهتز صدره بآلاف الشياطين التي تضرب بلا رحمة على أبوابه من الداخل ، حاول أن يقول شيئاً لكن صوته خرج متكسراً مقطوع الأنفاس ، كان جيشاً من النمل يسري في عضلات يديه و ساقيه ،لم يعد يحتمل ، انتفض فجأةً و انقضّ بشفتيه الشرستين على شفتيها الخائفة ، التهمها بعنف و لهاث مسموع ، كان يعصرها بين شفتيه كالمجنون ، يفترسها كقطيعٍ من الذئاب، لم ينتبه لسقوط الكأس على الأرض ، كان محموماً مرتعشاً ، مد لسانه بظمأ ليلعق وجنتها الساخنة، و بلا مقدمات ، اهتزت جدران الغرفة الرطبة بصرخةٍ حادة ، خرجت من حنجرته ممزقة مبحوحة ، لقد جاءته رائحة الزيت أشبه بنصل سكين ، اهتز جسده جميعاً و هو يحس خشونة القماش المشدود و حبيبات اللون الدبقة تحت لسانه ، ارتد بكرسيه و صرخ برعب ، كان وجهه خائراً قبيحاً ، و عيناه تجحظان بهلع شديد ، كان ينظر إلى يديه بألم و حسرة ، و الأزرق الذي جف على طرف ريشة الرسم لا يقدم أيّ اعتذار ، نظر إلى اللوحة أمامه على الحامل الخشبي وسط الغرفة ، ارتحل النور و حل الظلام ، كانت قبضة حديدية تسحق جمجمته بلا رحمة ، كانت عيناه فارغة المعنى ، تحدقان إلى الفتاة وسط اللوحة بارتعاشٍ و بَلَه ، شدّ على عينيه و انقض كذئبٍ مسعورٍ على اللوحة يمزقها ، كان يلهث و يشتم و يضرب بقبضتيه على صدر فتاته ، تعثرت قدماه و مال على الحامل الخشبي فأسقطه و سقط فوقه ، طقطق الخشب تحت صدره و ضغط بقسوةٍ على أضلاعه فخرجت منه آهة ممزقة ، ظل صامتاً لا يفهم ما حدث ، ثم بدأ يئن كذئب جريح ، كان يهز رأسه يصغي مستسلماً لصوت يوبخه ، يئن و يصمت ، يشتم، يصمت ، يبكي ، ينادي أمه ، يركض خلف فراشات ، يحل الكلمات المتقاطعة ، يجري بين المربعات المظلمة ، يحطم لوحة الشرف ، تسكنه رطوبة السقف بهدوء ، يأخذه الأزرق شيئاً فشيئاً ، تتناوله بقايا الألوان ، يصبح نفسه عميقاً خائراً ، يغطَّ في نوم عميق ، وسط أكوامٍ متناثرة هنا و هناك من بقايا اللوحات الممزقة .