كانت تحدق إلى سقف الغرفة .. المليء بالندوب و القشور .. الغرفة مظلمة قليلاً تعبق برائحة عرق يوحي بجولة حب حدثت منذ قليل .. بعض من نور الصباح يتسلل من شقوق صغيرة في حواف النافذة ، تسقط على جسدها البارد كشفرات حادة ..
كانت تنظر إلى البقعة الداكنة في السقف .. تفترشه كالرطوبة .. تنظر إليها بعينيها نصف المفتوحتين .. تدور البقعة و تدور .. تمتد و تنكمش .. تهبط عليها تبتلعها كموجة بحرٍ و تعود مسرعةً إلى السقف .. كانت تنظر إلى البقعة و ترى جسدها الغارق في جسده ، تتعجب كيف لم تنتبه لصورتهما على السقف يفترشان أربع سنواتٍ من العشق الجرئ.... كما تعوّد أن يخبرها ....
تحرك فجأة فأصدرت زنبركات السرير أزيزاً حاداً ، سعل بعنف و التفّ نحوها يطلب سيجارة .
لم تجبه و ظلت جامدة تحدق في البقعة الداكنة على السقف ، حكاية السنوات الأربعة ، خطتها التجاعيد في هذه البقعة ، تذكرت كيف كان صوته جريئاً كالحب ، تسبق أحرفه موسيقى ناعمة ، كان أنيقاً يهتم بحلاقة ذقنه ، و كان شديد الزهو بنفسه يوم رآها في المعرض ، أمسك بيدها و قال بفرحٍ طفوليّ :
- " تلك هي .. " …
- " أترين ؟ .. أترين الكحلي كيف يسيل كضوء شمعة ؟
- " الباب المغلق .. أنظري كم هو شفاف ! "
- " جميلة .. و لكن .. لماذا .. أقصد .. لا يهم .. " ..... قالت .
و تابعت النظر إلى اللوحة ، كان ينظر إلى شفتيها و عنقها ، يلتهمها بعينيه ، و هي كانت تنظر إلى الكحلي خلف عينيه ، و تبحر فيه .
تحرك في السرير ثانيةً و زعقت الزنبركات ، لم تنتفض ، كانت تمارس اعترافاً في حضرة السقف ، مسح رقبته بأصابعه و أخذ ينظر إلى لمعان العرق عليها .
- " كم الساعة الآن ؟ " سألها
لم تجبه بشيء .
أشعل سيجارة ، نفث الدخان بزفير مسموع ، تناول ساعته بكسل و نظر إليها ، فرك عينيه و حدق فيها برعب :
- " اللعنة ، إنها السابعة و الربع " ، قالها و هو ينتفض مذعوراً من سريره .
تناول سرواله و أخذ يلبسه بالمقلوب .
- " لقد غفونا ، لماذا لم تستيقظي قبل أن يصحو الجيران ؟ !! "
قالها برعب و هرع إلى الباب ، فتحه نصف فتحة و استرق النظر إلى الخارج ، دخلت من الباب حزمة ضوء ارتمت على جسدها العاري كسكين ، نظر إليها ، كانت تحدق في السقف غير آبهةٍ بثورته ، عاد إليها و اختطف قبلةً ، و تناول خاتمه و وضعه في إصبعه الأيسر ، غادر و على شفتيه بقايا جليدٍ من شفتيها ، و طعم بارد طري ، لم تقل له وداعاً و لم تسأله حتى متى سيعود .
خرج و تركها أسيرة البقعة الداكنة على السقف ، و الجدران الأربعة من حولها تحاصرها كسنيّها الأربعة ، لحظات و فاض الجنون بالبقعة الداكنة على السقف ، انفجرت نحوها تحمل آلاف الشياطين ، ، تتكاثر و تتناثر ، تتسع ، تمتلئ الغرفة بعيون كبيرة تمد ألسنتها نحوها ، الجدران تهتز بسرعة جنونية ، الهواء فوقها يصبح ثقيلاً كالقطران ، السقف يدور بسرعة تملأ رأسها غثياناً ، أصوات تندفع إليها من كل الجهات ، كانت عارية من كل شيء ، عارية من المعنى ، لكنها لم تهتم لهم ..
صرخ أحدهم :
- " أطلبوا الشرطة "
- "لا حول و لا قوة إلا بالله " ...
- "منذ قليل خرج من عندها ، أنا رأيته "
- "نعم تركه مفتوح !! "
السماء تعوي ، المطر ينهمر كالحمم على جسدها البارد ، يهوي السقف إليها يطبق على صدرها ، تصرخ لا صوت لها ، تتدافع إليها الأيدي من كل الجهات ، تخترقها عيون الفضوليين كالسيوف ، تسري الذكريات كالنار في دمها ، الناس يدخلون حتى ضاقت بهم الغرفة ، يمدّون رؤوسهم لرؤية أي شيء من جسدها المغطى بالشرشف الأبيض .
- " ابتعدوا ، ابتعدوا عنها !!!! " يصرخ أحدهم .
- " هذا يا سيدي " .
- " نعم .. عندما نظرتُ إليها من شق الباب ، كانت تحدق في السقف .. طرقتُ البابَ لكنها لم تجب .. فناديت الجيران ... "
- " طويل ، شعره طويل ، يداه طويلتان ، لحيته كذلك طويلة "
تصرخ تحاول النهوض ، حبالٌ كحبال السفن اللزجة بالطحالب تلتف حولها تلصقها بالسرير .
- " هل أحد يعرف أوصافه يا جماعة ؟ "
كانت تعاني كي ترفع رأسها نحوهم ، كانت تريد أن تخبرهم أنه طويل ، و جميل ، و أن هناك كحليّ خلف عينيه ، و أنه كان يحلق ذقنه ، ترتجف بشدة ، تحاصرها عيون الفضوليين من كل مكان ، وجوه مثلثة طويلة ، تصرخ ، و يدٌ تغوص في حلقها تكتم صوتها ، تبكي ، تبحث عن أمها ، تصرخ .. تصرخ ..
البقعة الداكنة تلتهم السقف و السماء ، نسمة هواءٍ تحرك طرف الشرشف ، أصواتٌ و همهمات ، و بهدوء يضعونها في الحفرة الرطبة ، كان التراب لذيذأ يحمل رائحة المطر الأبيض , السماء تتلحف بالبياض ، و يملأ الثلجَ الأفق .
لم يقرؤوا كثيراً من القرآن ، لم يسلّم أحد على أحد ، لم يبكِ أحد ، و بعيداً ، خلف شجرة بريّةٍ ، كان يقف شاب و يضع يده على فمه و ينظر إليهم بعينيه الكحليتين .. يرتجـف .. يحتبس نحيباً و خوفاً ... و قد عرف الآن ... لماذا لم تسأله حتى " متى سيعود " .