هزة أرضية

Folder: 
قصص قصيرة



تتمايل إلى الأمام والخلف، تسرع في حركتها، تهتز، تفقد إحساسها بالأشياء، تطير، تنسى الزمان والمكان، تتباطأ الأرجوحة، تتوقف بشكل فجائي، تستيقظ من نومها.

حلم يراودها دوما..أرجوحة تهدهدها، تفيق لتجد الصمت والسكون يخيمان عليها، جدران الغرفة تتطلع إليها بفضول، المرآة المزخرفة تؤطر صورتها، سريرها الواسع يضمها، طاولتها تزدحم بالكتب والدفاتر والأوراق، الأريكة تمتد أمامها بزركشتها الشرقية الساحرة.

الساعة الثانية عشرة والربع ليلا، تفتح أمها باب الغرفة، تطل برأسها

- هل أنت نائمة يا رشا؟!

- لا، استيقظت الآن

- ألم تحسي بالهزة الأرضية؟!

- هزة أرضية؟! متى؟!

- منذ فترة قصيرة

تمطت رشا في سريرها:- ظننت نفسي في أرجوحة تهدهدني، وتأخذني في كل الاتجاهات، ربما صحوت بسبب ذلك.

حلم الأرجوحة يطاردها دائما، طفلة صغيرة كانت، تصطاف في ضيعتها، تربط حبلا بين شجرتين قريبتين من بعضهما في الكرم، أ وتربط حبلا في شجرة لوز كبيرة، تتأرجح، تشتبك بالأغصان والأوراق، ترنو إلى السماء.

أول أرجوحة اشتراها لها والدها حين كانت في السابعة من عمرها، وضعها في الشرفة، تجلس على الكرسي الصغير، تتأرجح، تحلق بخيالها، تراقب المارة، تتشاجر مع أختها الصغيرة، تتنافسان على الأرجوحة، أخيرا أعطى والدها الأرجوحة لأحد أصدقائه، اشترى أرجوحة جديدة، لها أريكة كبيرة تتسع لثلاثة أشخاص.تستلقي على الأريكة، تتأرجح بهدوء، وهي تقرأ قصص الأطفال المشوقة،الألغاز المثيرة والغامضة، القصص البوليسية، روايات الجيب المختصرة عن قصص عالمية، ألف ليلة وليلة، والقصص الشعبية، تتخيل نفسها بطلة القصص التي تقرؤها.انتقلت الأسرة إلى بيت جديد شرفته ضيقة لا تتسع للأرجوحة، صارت الأرجوحة في الضيعة، أهملت، أصيبت بالصدأ وتآكلت، لم يعد يتأرجح فيها أحد إلا إذا سافرت أحيانا إلى الضيعة في الصيف، صارت الأرجوحة حلما يرافقها دائما.

تذهب إلى الحديقة العامة مع أختها، تشارك الأطفال اللعب في الأراجيح، قالت لها أمها:

- رشا صرت شابة، عيب أن تلعبي في الأرجوحة مثل الأطفال

اكتفت بالتأرجح في أحلامها، يطاردها دوما نفس الحلم، اتخذت الأرجوحة أشكالا مختلفة، تارة تكون طائرة، وتارة شجرة تتطاول أغصانها إلى السماء، أومركبة فضائية تحلق باتجاه كوكب مجهول.

صارت حبلا رفيعا تتمايل عليه كبهلوانة في سيرك، تسقط على الأرض لتعيد الكرة ثانية، ظروف الحياة صارت تؤرجحها يمينا وشمالا، إلى الأعلى والأسفل، بسرعة وبطء..ظروف الحياة..حلم الأرجوحة..والآن الهزة الأرضية!

تفرك عينيها في غرفة الجلوس مغالبة النعاس، تقول لأمها:

- هزة أرضية شديدة المدى ولم أحس بها! كنت مستغرقة في نوم عميق.

تمر الأيام، رشا تحمل سماعة الهاتف، تتحدث مع صديقتها رهف، تقول رهف:

- الإشاعات كثيرة، أين الإعصار الذي حدثونا عنه؟!

- لا يوجد إعصار ولا زلزال..مجرد توقعات..

- كذب المنجمون ولو صدقوا

- ولكن..لحظة..سريري يهتز..

تلتفت حولها – جود..رنا.. اخرجا من تحت السرير، كفى شغبا وشقاوة

تنظر حولها، التلفاز يهتز، الأشياء تهتز..جود ورنا ليستا في الغرفة.زلزال...زلزال..

رهف:- نعم..زلزال ، الأشياء تهتز حولي أيضا.

رمت رشا سماعة الهاتف، فتحت باب غرفتها، رأت أختها دينا وأمها ترتجفان من الخوف، أثاث الغرفة يهتز حولهما، جود ورنا عند باب الغرفة تبكيان وتصرخان، توقف الاهتزاز مخلفا حالة رعب شديد، جاء أخوها فراس من غرفته هلعا، صاح:

- هذه أول هزة ستتبعها هزات أخرى أشد، الوضع خطير.

بعد قليل، هزة ثانية، تتحرك الأشياء، تختلج الطفلتان، تصرخان...

توقف الجميع عند باب الغرفة، هذا المكان أكثر أمانا..

هزة ثالثة..يصرخون:سنموت، إنها النهاية! يتوقف الاهتزاز..كل شيء ساكن، تخرج دينا من باب المنزل مع الطفلتين الهلعتين

دينا:- سأذهب إلى بيتي، الطابق الأخير خطر أكثر من الطابق الأول.

رشا:انتهت الهزة، كل شيء ساكن

دينا:لا، سأذهب، حضروا أنفسكم، واتبعوني، بيتي أكثر أمانا

ذهبت دينا مع الطفلتين

- هيا..  صاح فراس

- ارتدوا ثيابكم بسرعة كي نذهب، ربما كانت هذه الهزات مقدمة لزلزال كبير

بعد زمن وجيز، خرج الجميع إلى الشارع، قال فراس:

- يجب أن نمشي قرب الحدائق، ونبتعد عن الأبنية

مشوا في الشارع، رأوا كثيرا من الناس حولهم، وصلوا إلى بيت دينا، كل شيء ساكن وهاديء، جود ورنا تلعبان بالطابة

قالت دينا:- أتدرون؟! كثير من الناس ذهبوا في سياراتهم إلى المحلق خائفين، سيقضون الليل هناك، صديقتي رانية ذهبت إلى المحلق مع زوجها وولديها في سيارتهم.

رشا: ليس لدينا سيارة كي نذهب إلى المحلق

مازالت الطفلتان تلعبان باطمئنان، تغلغل الخوف في أعماق الكبار، حاولوا أن ينسوا المشكلة بمتابعة برامج التلفاز، مضت ساعتان، أخيرا قرروا العودة إلى البيت.

قالت دينا: لم لا تنامون عندي الليلة؟!

رشا: سنذهب إلى البيت، كل شيء آمن، انتهت الهزة

عادوا سيرا على الأقدام؟، حاولوا أن يظلوا أطول فترة ممكنة خارج البيت، ولكن! البرد شديد..

جلسوا في الصالة، أصيبوا بالصمت المطبق، في البداية تابعوا برامج التلفاز، تحدث المذيع في الأخبار عن الهزة الأرضية ودرجتها، عن زلزال شديد في أنطا كية، وبعض مناطق تركيا دمر كثيرا من البيوت، وقضى على بعض الأشخاص.

قالت أمها:نحن بألف خير بالنسبة لغيرنا

أحضرت الأم المصحف الشريف، بدأت تقرأ، جلس فراس في الصالة متململا، ثم تسلل إلى غرفة نومه محاولا أن يستغرق في سبات عميق ينسيه الزلزال ورعبه.

حاولت رشا أن تنام، لم تستطع، رن جرس الهاتف، ردت، كان صوت رامي زميلها في كلية الأدب العربي الذي يحاول كسب ودها

- كيف حالك يا رشا؟! طمئنيني

- أنا خائفة

- لا داعي للخوف، مشكلة مرت بسهولة، نحن بحاجة إلى هزة أرضية تهز أبداننا

- أحسدك على هذا التفاؤل

- لماذا أخاف ؟! (( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا))

- صحيح.. هذا يجعلني أطمئن قليلا

- تصبحين على خير، نامي بأمان

استغرقت رشا في النوم، عاد حلم الأرجوحة لمطاردتها، الأرجوحة تصطدم بالبنايات وتهدمها، تصطدم بقلعة حلب وتدمرها، تصطدم بالكرة الأرضية وتهزها، تخلخل توازنها.

صحت صباحا، نظرت حولها، الأشياء تتحرك، السرير يهتز، هرعت إلى غرفة الجلوس خائفة، وجدت أمها تشعل المدفأة، وتجدد هواء الغرفة

نظرت الأم إليها:- خير إن شاء الله!

ردت بخوف:- زلزال..

ضحكت الأم: - لا يوجد زلزال، أنت تتوهمين، منذ ساعة حدثت هزة أرضية خفيفة

رشا:لم أحس بها

بدأت رشا تتناول إفطارها، أحست بالأثاث حولها يتمايل ويهتز، صاحت الأم: هزة أرضية!

وقفت الاثنتان عند الباب، هدأ كل شيء، عادت الأمور إلى وضعها الطبيعي، أيام كثيرة والأحاديث لم تنته عن الزلزال، والخوف من زلزال شديد قادم سيدمر مدينة حلب.

حلم الأرجوحة ظل يطارد رشا بشكل مخيف، تحول إلى كابوس مرعب، يهتز السرير، تهتز الجدران، والأبواب، والأشجار، تتكسر الأواني، وزجاج النوافذ، يهرب الناس من بيوتهم، صارت الهزة في عضلاتها وشرايينها، ترتجف دائما، تختلج أصابعها، تصطك أسنانها، تقمص جسدها حالة الاهتزاز، تحول إلى رقاص يروح ويجيء، أمها تقرأ دائما في المصحف، تدعو الله أن يلطف بهم، ويبعد عنهم الأهوال والصعاب.

تساءلت رشا: أليست حياتنا زلزال أبدي ؟! لم نخاف؟!

الكرة الأرضية تدور، كل شيء يهتز ويدور، لم تغادر الرجفة جسدها، تراودها بين حين وآخر، توقفت الهزات الأرضية، وبدأت الهزات الجسدية، تحول جسد رشا إلى كرة أرضية تهتز وتهتز.. لا تتوقف عن الاهتزاز أبدا.

                                                                  قصة قصيرة ندى الدانا



www.postpoems.com/members/nada










View nada's Full Portfolio
tags: