في كتابها ( رسائل وصلت ) تتابع الأديبة السورية ليلى مقدسي مسيرتها الأدبية في الكتابة الوجدانية الشفافة لتقدم لنا عملا روائيا يعتمد في بنيته السردية على أدب الرسائل. الرواية عبارة عن عدد كبير من الرسائل موجهة من رجل إلى حبيبته وصديقته، نكتشف من خلال هذه الرسائل قصة حب شفافة تقوم على الحوار بين روحين، ونكتشف المشاكل الاجتماعية في المجتمع العربي، والحب كحالة وجدانية وفلسفية. تبتعد الرواية عن الأسلوب التقليدي في القص، لتقدم بوحا جميلا، ونصوصا متنوعة في غاياتها، يمكن لكل نص أن يكون مستقلا، والرواية تشكل نوعا خاصا من أدب الرسائل، تذكرنا الكاتبة بأدب مي زيادة وجبران خليل جبران ومصطفى صادق الرافعي.
تتميز الرواية بلغتها الشاعرية الموحية، وشفافية تعابيرها وغناها، وصورها الفنية الرائعة التي تستوحي الطبيعة، تقول:( حين التقيت بك، كان الأمل يشرق بين جوانبك، وكنت تملأين الأفق حنانا، فيغوي على يديك النهار، وتلتقين مع الربيع في بعض سجاياك، وكنت شعاعا بين حيرة الأزهار)
وتقول:(حين ذهبت، بكى الزهر على زرقة الحلم، وبدأت أقطف من وجوه خيالي زهرة بيضاء)، (لم تركتني ألتف حول حفيف أغصانك؟)، (وكنت كالوردة العابقة بطيبها الخفي، رغم أنها لا تدرك أنها وردة، فلو درت بجمالها لشاركت الناس في عبادة نفسها )، (ترسمين حولي أقواسا مضيئة تمطر حولها عناقيد الكرمة)، (وأنت البريق المتماوج بألوان قوس قزح)، ( وثمة شيء فياض كالنهر تمتازين به )، (تتلوى رمالك في سيرها متلكئة، متقطعة خلال منعطفات نفسك).
من خلال الرواية تتجلى رؤيا الكاتبة للحب السامي الذي يحتفي بالتقاء الأرواح، وحوار الأفكار، تقول:(كنت أعرفك ولا أراك، لأني لا أستطيع الاقتراب منك أكثر، فالخوف يتكيء بين ضلوعي، كما يتكيء السنى في حضن البرية )، ( أي سر فيك جعل أيامي قلقا متواصلا بين شرود الأفكار ؟)، (لم كنت مختبئة خلف حجاب الزمن ؟)، (بقدر ما كان الحب نقيا فهو سام، وحين يشع من الروح يتعالى على الرغبات الجسدية)
تتعمق الكاتبة في رصد حالة الحب الروحي(أحسك في وجيب قلبي المرتعش برقة والذي يجعلني مفتونا بالشوق إلى ضمك، وأنت الهاربة الغائبة في حضورك) و( كنت الأم بعطائها، والصديقة بإخلاصها، والأخت بحنانها، عشت معك كل المشاعر، وكنت كل الأحاسيس، وكنت امرأة واحدة في عدة شخصيات)، ( واستطعت بقوتك الواعية أن تخرجيني من الواقع المر والمؤلم، ودخلت معك إلى عالم الصفاء، العالم الذي تكونين فيه أنت كالموسيقا، والشعر) و(لاشيء في العالم أكثر صعوبة من الحب) و( إن الحب موهبة طبيعية، ومن المستحيل تعليم الإنسان كيف يحب)
من خلال الرسائل نكتشف شخصية بطلة الرواية، ونتغلغل في حالة الحب الراقي فيها، حيث يعطي الحب غنى روحيا للمحب (أيتها الكائنة الأسطورية، قلبي مترع بحياة أجمل وأنقى، منذ أن أحببتك).
تتوضح من خلال الرواية حالة تأرجح البطل بين الحب الروحي لامرأة غنية في وجدانها، عميقة في أفكارها ومشاعرها، وبين الحب الجسدي لامرأة لعوب، وانتهاء الحب الجسدي لأنه نزوة عارضة، ورغبة تنتهي بإشباعها، وبقاء الحب الروحي لأنه حقيقي(تستطيع أن تحبني إلى زمن غير محدد حين تشعر أنك لا تمتلكني).
تطرح الكاتبة مشكلة ملل الرجال بعد الزواج لأن أغلب الاختيارات تقليدية، أو انبهار بوهم الحب لا يتخللها الوعي والنضوج، ومشكلة الاندفاع وراء التجارب العاطفية السريعة والعابرة التي تزول بسرعة، والفرق بين المادة والروح، بين الغنى الروحي والغنى المادي، ومشكلة المرأة الشرقية في العثور على زوج مهما كانت ظروفه لأنها تفتقر إلى الحماية الاجتماعية.
تنتهي الرواية بأن الحب الروحي خالد، وأن الحروف والكلمات العميقة خالدة، تذوي كل الأشياء لأنها زائلة وعابرة، ولا يبقى سوى عبق الروح، وعبق اللغة، هذه اللغة التي تصول وتجول الكاتبة في ردهاتها، لتتعمق في فهم النفس البشرية، وإيقاعاتها الداخلية.
ليلى مقدسي كاتبة سورية تعيش في مدينة حلب، أصدرت خمسة عشر كتابا، ولديها أكثر من عشرين مخطوطا تنتظر في أدراجها
من كتبها: رسائل لم تصل – رسائل وصلت- قطوف وأوراق- كتاب الزمن- ربيع يبكي- بعض الشوق لرواء- غمامة الورد- عنود- زمن البوح الجميل- وردة أخيرة للعشق.