كان صيفاً كئيباً استقبلتني فيه عيادة طبيب الأمراض الهضمية عدة مرات ، واستقبلني مخبر التحاليل كثيراً ، أكّد التحليل وجود جراثيم وطفيليات تصرّ على الصّمود في جهازي الهضمي . منذ زمن طويل أعاني من حساسية مفرطة في المعدة والقولون ، كل فترة تهاجمني تشنجات القولون الحادّة ، فتحيل حياتي جحيماً .قال الطبيب : تجنبي البرد ، والأطعمة الدسمة ، وابتعدي عن الانفعالات والتوتّرات.
تطلعت إلى الطبيب مستغربة ،سألته : هل يمكن للإنسان أن يتوقف عن الإحساس والانفعال ؟!
أجابني وهو يكتب لي قائمة طويلة من الأدوية : حاولي أن تتعاملي مع الحياة بهدوء ولامبالاة ،وإلاّ لن تنفعك هذه الأدوية ، أمراضك نفسية المنشأ ، وعلاجك أن تفرحي وتضحكي وتتجاهلي المشاكل .
أعاني أيضاً من حساسية تجاه تغير الطقس ، وغبار الطلع ، والرطوبة ، و ، و ، الخ …
الجراثيم والطفيليات تجد في جسدي مرتعاً خصباً لها ، والفيروسات تحبني وتجد مأوى عندي في كل فصول السنة ، منذ طفولتي كانت حياتي معركة دائمة ضدّ فيروسات الحياة التي تدمّر مقاومتي ومناعتي ، الأشنيات والطحالب تطفو على نهر حياتي الجاري لتعيق مسيرته وتحوله إلى نهر راكد لتفسد صفاءه ، وتشوه صفحته ، حرب استنزاف رهيبة لا تنتهي . كلما حاولت أن أهرب من المتاعب طاردتني ! ولم تكفني همومي بل حملت على عاتقي هموم الجنس البشري ، أشعر بعجزي أمام لغز الحياة ، تتفاقم حالتي المرضية .وزاد الطين بلة ذلك الكائن العجيب الذي حلّ ضيفاً على بيتنا منذ أكثر من عام ونصف وسبب لي كثيراً من الأزمات ، لم يرض أن يشرّفنا بحضوره إلا بعد أن دفعت له مهراً مبلغاً محترماً من المال ، استدنته ومازلت أدفع أقساطه ، أصابني بأزمة اقتصاديّة خانقة ، توقفت عن شراء الملابس والكتب وألغيت النزهات والرحلات من مخططاتي اليومية .
في البداية عارض أفراد الأسرة وجوده بيننا لأنه سيحتل مكاناً في البيت ، ويسبب إرباكاً للجميع ، رضخوا أمام إصراري .ظننت أنه سيعينني في أمور الحياة ويحمل عنّي جزءاً من أعبائها ، فتحول إلى هم جديد يستنزفني، كائن متطلب عليّ أن أعتني به دائماً ، أنظفه وأرتبه ، وأشتري له الأشرطة الموسيقية والبرامج المتنوعة ليتسلّى بها ، ويجب أن أعامله بلطف كي يرضى عنّي ويحدّثني ،ولا ينفجر صائحاً أو مصفِّرا .أعادني إلى العصر الذّهبي لكتابة الرّسائل ، يكتب لي رسائل عتاب على أخطائي غير المقصودة ، ويكتب رسائل إنذار إذا تكررت الأخطاء ، أضطرّ للرّضوخ لمتطلّباته كي لا يكفهرّ وجهه ،ويثور غضبه ، وقد تتحطّم جمجمته ، وتتطاير في أرجاء الغرفة ، أويحرد ويتوقف عن الكلام والعمل ، كائن غامض له برامجه ومخططاته الكثيرة ، يتحدّث عدّة لغات ، ولا يمكن أن أعرف نواياه أبداً ، يفاجئني كلّ مرّة بأمر غريب يوتّر أعصابي ، فيزداد تشنّج القولون ، وأتجرّع الأدوية والمسكّنات . ومثل كلِّ الأزواج الشرقيين، بدأ حكايته معي بإرهاقي بمتطلّباته الكثيرة ومحاسبته الدقيقة ، ومحاولته الهيمنة على كلّ شؤون حياتي ، وإلغاء اهتماماتي الأخرى ، بعد فترة قصيرة من قدومه إلى بيتنا حرن وأصيب قلبه القاسي بتوقف عن الخفقان ، فشلت كلّ محاولات الإنعاش ، اضطررت لوضع قلب جديد له ، مرّ بفترة نقاهة طويلة ، كنت خلالها أعامله بلطف شديد كي لا يمرض ثانية ، ، وظلّت مناعته ضعيفة يصاب بين الحين والآخر بالزّكام أو السعال الحاد ، رغم وضعي الصحّي السيئ اعتنيت به فهو حسّاس تجاه الفيروسات كلّ مرّة يهاجمه فيروس جديد ، فيكتب لي رسائل شكوى، أفحصه أو أحضر الطبيب المختصّ كي يفحصه ،ويطرد الفيروس الّذي يزعجه ويزلزل كيانه . كان مثلي يكره الحرارة الشّديدة ويمرض بسببها فاشتريت له مكيّفاً ، وزادت ديوني ، ولم يكن يتحمّل الرّطوبة والغبار ، وحين أشعلنا جهاز التدفئة في بداية الشّتاء كتب رسائل شكوى ، فأطفأنا جهاز التّدفئة ، وقضينا شتاءً بارداً إكراماً لخاطره .
مع مرور الزمن تسلّل إلى تفاصيل حياتي ، وسرق كلّ شيء منّي ، بدأ بأخوتي الثّلاثة الّذين صاروا ينافسونني على قلبه ومشاعره ، يحاولون فهم شخصيته الغامضة ، وفكّ طلاسمه ، يتسابقون على العناية به ، ثمّ سرق صديقاتي اللواتي يأتين لزيارتي ، تكاثرت زياراتهنّ ، ينظرن إليه بفضول ، ويحسدنني على صلتي به ، يقتربن منه ، يلمسن وجهه المشرق ، وأزرار بذلته النافرة ، ويتغزّلن بوجهه النوراني ،وثقافته الواسعة ، ولطفه ورقته ،حتّى شعرت بالغيرة منه ، وصرت أغار عليه من نظراتهن ، وأعتذر عن استقبالهن .أطفال الأسرة كان لهم صولات وجولات معه ، أسرهم بألعابه المسلية ، يتجمعون حوله ، يحكي لهم الحكايات ، ويلعب معهم ألعاباً غريبة . يوماً بعد يوم شعرت أنني أخسره ، فهو رغم حساسيته وأمراضه يستحوذ على اهتمام الجميع ، فكّرت أن أطلّقه ، ألا تكفيني فيروساتي كي أبتلى بكائن مريض وحسّاس مثلي للفيروسات ؟! ولكن دفعت له مهراً كبيراً وسوف أخسر المهر الّذي دفعته، وفرشت غرفة جميلة ، واشتريت مكيّفاً من أجله ، اعتدت وجوده في البيت ، وأحببته رغم كلّ متاعبه ، رغم تعب دماغي في فكّ طلاسمه ، ويدي في لمس أزراره ، وعينيّ من تأمّل شاشته ، ورقبتي من متابعة رسائله على الشاشة أمامي ، ليس أمامي خيار آخر ! سأتابع مسيرة حياتي مع الوافد الجديد ، جهاز الكمبيوتر العزيز .