بين عالمين

Folder: 
قصص قصيرة

بسرعة تمشي السيارة على الجسر، تكاد تطير في الهواء، تحولت إلى حصان سباق جامح، يستعجل الوصول إلى هدفه قبل الآخرين، جسر عريض يرفع رأسه شامخاً على جسرين يمرّان تحته، نحن في منتصف المسافة بين لوس أنجلوس وكاليفورنيا، إنه يوم السبت عطلة نهاية الأسبوع، وسائق السيارة متشوق لحضور احتفال صاخب في أحد الملاهي، يترنم بأغنية عربية، يرفع عدّاد السرعة، تصيح إحدى الفتاتين الشقراوين اللتين ترافقانه برعب: سرحان !أرجوك خفف سرعة السيارة.

تهمس الفتاة الأخرى بخوف: أخشى أن يحصل لنا حادث

يجيب سرحان بخيلاء وغرور: أنا دائماً أقود السيارة بسرعة كبيرة، لا تخافي، أنا بارع

تغفو ابتسامة لا مبالية على شفتيه الممتلئتين النهمتين للحياة، تتألق صورة وجهه الأسمر المدوّر، تشرق عيناه البنيتان بنظرتهما الحادّة وهو يغنّي بصوت أعلى: "يا رايحين ع حلب حبي معاكم راح "

تحمله ذاكرته إلى مدينة حلب.. أخيراً قرر أن يعود إلى بلده ويستقر فيها.. سيرى ردينه ويعِّوضها عمّا فات، سيرى أولاده ويهتم بأمرهم.. تتراقص في خياله صورة زوجته الأمريكية.. صورة طفله الصغير الّذي ولد في أمريكا..يزيد سرعة السيارة.. يشعر بالنشوة، والسيارة تقفز، ترتطم بحرف الجسر بقوة، يفتح الباب بعنف، تشفطه الأرض، تتوقف السيارة، يمر باص كبير، يدهسه، يتحول رأسه وجسده وأطرافه إلى كتلة من اللحم المعجون بالعظام، تصرخ الفتاتان رعباً وهما تخرجان من السيارة وتستندان إلى طرف الجسر، تأتي سيارة الإسعاف لتنقله إلى المستشفى

سجلوا في بطاقة المستشفى: الاسم:سرحان محمود       الجنسية: عربي سوري

اتصلوا بزوجته الأمريكية، هرعت إليه مذعورة، همس لها قبل أن يلفظ أنفاسه: "اتصلي بأخي عدنان إلى ألمانيا كي يحضر ويدفنوني في بلدي ".

تحول سرحان إلى جثة في ثلاجة مستشفى أمريكي، تنتظر أن يأتي الأقرباء لحملها ومرافقتها إلى مثواها الأخير

الأحد صباحاً.. سمية زوجة عدنان تزور (سلفتها ) ردينة زوجة سرحان التي تتجول في البيت بقلق.

-ردينه: أنا متعبة، أكره الطعام، لا أستطيع النوم، أشعر بقلق شديد وصداع

-سمية: خير إن شاء الله يا ردينة

تهز ردينة رأسها، تتطلع حولها بوجهها الجميل البريء، تقول:أخشى أن يحصل مكروه لأولادي

تخرج إلى الشرفة، تنتظر ابنها، تراه قادماً من المدرسة، تشعر بالاطمئنان، يشرق وجهها، تدخل إلى الغرفة، يعاودها القلق مرة أخرى

                                  

الأحد …الحادية عشرة ليلاً.. يرن جرس الهاتف عند سمية في مدينة حلب، تسمع صوت زوجها عدنان مضطرباً عبرا لأسلاك بين بون وحلب

_سمية ! ضغطي مرتفع جداً، أخشى أن أموت في بلاد الغربة..صداع شديد في رأسي، سأموت مثل أي حيوان، لا يحسّ بي أحد هنا، إذا مت !لدي عشرة آلاف مارك هنا في بيتي، وتأمين باسم أخي سهيل كي يعطي المال لك وللأولاد

ترد سمية برعب وقلق: فأل الله ولافا لك ! خذ مسكناً للصداع، الصداع لا يسبب الموت ! لماذا أنت متشائم ؟! أخبرني ماذا حصل ؟

-عدنان بتعب: "سأحدثك فيما بعد ". ثم أغلق سماعة الهاتف

ظلت سمية في حالة يرثى لها من الخوف والحزن، وبدأ عدنان يجهز حقيبة سفره، كي يسافر إلى أمريكا في الطائرة المتجهة إلى لوس أنجلوس عقب الهاتف المؤلم الذي أخبره بفاجعة أخيه سرحان صباح يوم الأحد. حين جلس في مقعده بالطائرة، ظل الإحساس بالكآبة مرافقاً له، شعر أنه سيموت قبل أن يصل إلى لوس أنجلوس، رأى من الحكمة أن يؤجل إبلاغ زوجته سمية بالحادث الخطير



الاثنين..عدنان في المستشفى، عيناه دامعتان، ينظر إلى جثة أخيه المشوهة في ثلاجة المستشفى، يدير وجهه، يبكي بحرقة، يتساءل بأسى: سرحان أجمل أخوتي صار هكذا ؟!مجرد جثة مشوهة تسبح في دمائها

اكتشف عدنان أن أخاه سرحان أنجب طفلاً من زوجته الأمريكية ، بلغ الثانية من عمره ، دون أن يخبر أحداً من أهله ، وأن لديه بوليصة تأمين على حياته باسم زوجته الأمريكية . قال لنفسه: رحمك الله ياسرحان.. طوال عمرك كنت غامضاً لا نعرف عنك شيئاً

- - - - - - - - -



الاثنين ليلاً.. يرن جرس الهاتف عند ردينة، يتهادى صوت عدنان: أنا أتحدث من لوس أنجلوس ردينه لا تخافي.. زوجك حصل له حادث سيارة، وهو في المستشفى بحالة خطيرة، وضعوه في غرفة الإنعاش، سأطمئنك عن أحواله.

أغلق عدنان السماعة، وانفجرت ردينه بالبكاء

أجّل عدنان إخبارها بموت زوجها ريثما يحضر الجثة إلى حلب، قال لها إن حالته خطيرة كي يهيئها للخبر المحزن، ويقام عزاء واحد حين يحضرون الجثة إلى وطنها

- - - - - - - - - - - -

ثمان سنوات وسرحان غائب عن أسرته يعمل بالتجارة في أمريكا، غاب أربع سنوات، ثم عاد لمدة شهرين، قضاهما في لبنان وتركيا سائحاً، كان نصيب زوجته منه عشرة أيام فقط، قبل الحادث بعدة أشهر عاد إلى سورية لمدة شهرين قضاهما مع زوجته، لاحظ الجميع أن أخلاقه تحسنت، وصارت معاملته لها جيدة، يلازمها دائماً، ويلبي طلباتها، يقول لها: سامحيني يا ردينه على غيابي عنك.

ثم يؤكد، ويسألها برجاء: هل سامحتِني من كل قلبك ؟

تغيّرت طباعه وأخلاقه مع الجميع، صار رجلاً آخر، هل كان يعرف أنّه سيموت ؟! وجاء ليودّع بلده وأهله، يطلب السّماح من ردينه، ويترك أثراً طيّباً قبل مغادرته الدنيا

- - - - - - - - - - - - -

بعد أسبوع وصلت الجثّة إلى حلب، سرحان من ريف حلب، ويجب أن يدفن في ضيعته، قبل يوم من إحضار الجثّة زارها والدها ليخبرها بموت سرحان، رآها تبكي وتصلّي وتدعو ربّها أن يشفي سرحان: - يا ربّ ! اشف سرحان (بحسنة أولادي ) و(حسنتي) أنا المؤمنة الصابرة على غيابه، وعلى غربته عنّي

قال لها بأسى: سرحان مات يا ابنتي

تطلّعت إليه بعينين غائمتين، مسحت دموعها بيديها، بدا وجهها جامداً مذهولاً وهي تتساءل

-لماذا تقول سرحان مات ؟! سرحان في غرفة الإنعاش في المستشفى لماذا تتنبّأ له بالموت ؟ إنّه حي

بكى الأب بحرقة، ضمها إلى صدره، قال: - يا ابنتي..زوجك مات، هذه إرادة الله، كتب له أن يموت في هذا الحادث، الله يحب الروح، ويأخذها لعنده، عليك أن تكوني مؤمنة وصابرة، ستصل جثة زوجك غداً، سندفنه في الضيعة، حضِّري نفسك للذهاب إلى الضيعة لاستقبال الجثة

- - - - - - - - - - - -

ردينه في بيت عمها تنتظر الجثة، فزوجها ابن عمها.حين وصلت الجثة لم تستطع القيام من مكانها، لم تحملها رجلاها، زحفت على ركبتيها، وقفت السيارات أمام باب البيت، صندوق خشبي على ظهر إحدى السيارات في داخله جثة سرحان، رحل سرحان بكامل حيويته، وعاد في تابوت

وضع الأقرباء التابوت في أرض الدار، اندفعت ردينه تحاول أن تفتحه، لترى زوجها، تصرخ:

-لا أصدق أنه مات، أريد أن أراه بعيني

أمسكت التابوت بكلتي يديها، أكبّت بوجهها عليه وهي تنتحب وتناديه

-قم ! اصح! انظر إلى أولادك، ضمهم وقبلهم، غبت ثمان سنوات ليحضروك جثة في صندوق.

فقدت ردينه وعيها، حملتها النساء إلى داخل البيت، حاولن إنعاشها، وبدأت أيام العدّة والحداد، ظلت ردينه في حالة سهو وشبه غيبوبة لفترة طويلة، كلما سمعت جرس الهاتف تظن زوجها يتصل بها، تهرع لترد عليه، تتذكر أنه مات، ولا يجب أن ترد على الهاتف فهي في العدّة، ردينه الآن

أرملة عليها أن تربي أطفالها الأربعة

_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _

كان سرحان مقبلاً على الحياة، يعيش يومه ولحظته بشغف، يحب المغامرة والتجديد، ولا يفكّر بالموت، في الصيف الماضي سافر إلى ألمانيا ليرى أخاه عدنان الذي يقيم فيها منذ عشر سنوات، وكأنه يودعه، وجاء إلى حلب ليودع ردينه، قال لسمية زوجة أخيه عدنان التي تعيش في حلب ويعمل زوجها في ألمانيا: - أنتِ وزوجتي صبورتان، ومظلومتان معنا، سنأتي أنا وأخي قريباً إلى حلب

ردّت سمية بألم: نحن نصبر كثيراً، ولا أعتقد أنكما ستأتيان، أنت ستظل في أمريكا، وزوجي سيظل في ألمانيا، ستعودان عجوزين أو ميتين

قال: نحن نعمل كي نؤمن الرفاهية لكما وللأولاد، وضعكما المادي أفضل من زوجات أخوتي الآخرين، تأكلان أفضل أصناف الطعام، وترتديان أفضل الثياب، لم الشّكوى ؟!

-سمية:اذا مرضت أي واحدة من زوجات أخوتك يساندها زوجها ولا تحتاج أحداً يلبّي حاجاتها، تشعر بدفء زوجها وحنانه، يشعر أولادها بحنان أبيهم.                                              

-سرحان : أنتِ خيالية وحسّاسة جداً ، في هذا الزمان المهم أن يحصل الإنسان على المال ، ويصرفه على أسرته ، حتّى لو ذهب إلى أقاصي الأرض .

- - - - - - - - -  - - - -

سميّة تتأمل ردينه بحسرة، وتخاطب نفسها:طوال عمره كان مغامراً جرّب الحياة بكلّ أشكالها، خسر الدين والدنيا، مات باكراً في الخامسة والثلاثين، حرم زوجته من وجوده، (خطيتها في رقبته )

طوال عمره لم يصلّ، ولم يصم، ولم يذكر الله، كان تاجراً ناجحاً في عمله، لكنّه أهمل أسرته، هل يكفي أن يرسل لهم المال ؟! طوال عمره كان أنانياً لا يهتم بأهله، غامضاً، محبّاً للسهر والنساء

مسكينة ردينه !

- - -  - -  - - - -

سافر سرحان هارباً من بلد إلى آخر، حتى وصل إلى أمريكا بطرق غير قانونيّة، من الصعب الحصول على ( فيزا) للسفر إلى أمريكا، بعد كل عمله وتعبه، خلّف بيتاً متواضعاً في حلب، تقطنه زوجته وأولاده، وأرضاً في ضيعته، ودكّاناً مغلقاً، وجثّة ترقد في الثّرى.

ثمان سنوات تغرّب سرحان في أمريكا، ولم يستطع دفع تكاليف موته ونقله ودفنه في بلده، تبرّع أخوته بدفع التكاليف الباهظة، كي يغادر أمريكا إلى القبر.                                                

- - - - - - - -  -  - -

ردينه أرملة جميلة، بسيطة، وساذجة، امرأة ريفية ليس لديها خبرة بالحياة، تزوجت في الثالثة عشرة من عمرها، وعاشت في المدينة، ضعيفة الشخصية، لا تعرف ماذا تريد، تسيء التصرّف، وتتأثّر بآراء الآخرين، تغيّر قراراتها بسرعة، يتدخّل أخوة زوجها الخمسة في حياتها وتصرفاتها، تعاملها أسرة زوجها بفظاظة، ولا تستطيع الدّفاع عن نفسها. في الفترة الأخيرة بدأت سلفتها سميّة بالتأثير عليها، وإفساد أخلاقها، كما قالوا.. علّمتها أن تجابههم وتدافع عن كرامتها.كانت سميّة متعلّمة قويّة الشّخصيّة تعاطفت معها وحاولت مساعدتها، قالت لها: ردينه.. لماذا تصمتين حين ينادونك بكلمات بذيئة ؟!لا تسمحي لهم بذلك ، افرضي عليهم احترامك .

- - - - - - - - -

ظلت ردينه مع أهلها في الضيعة، ثار أهل زوجها،أخذوا أولادها إلى حلب كي لا ينقطعوا عن الدراسة، ففي الضيعة لا يوجد مدرسة إعداديّة من أجل أكبر أولادها، خضعت ردينه لأهلها وظلت في الضيعة بعيدة عن أولادها تتحرّق شوقاً لرؤيتهم، حتى أقنعتها سميّة بالعودة إلى حلب، وضمّ أولادها إليها، وتدخّل عم الأولاد المتعلم لإقناعها بالتفكير في مستقبل أولادها.

- - - - - - - - -

طوال عمرها تفكّر بمستقبل الأولاد، الزوج غائب، ردينه أمهم وأبوهم، ساعدها أخو زوجها في تأمين متطلبات الأسرة، لأن أخاه جعله وصياً عليها وعلى أولاده، يرسل له المال من أمريكا، لأجلهم.

غارت زوجته منها، ظنت أنها خطرة لأنها جميلة وزوجها مسافر دائماً، فبدأت تروج الشائعات عنها، وتهينها، بعد تحريض سمية، استطاعت ردينه أن تجابهها، ولا تسمح لها بإزعاجها.

- - - - - - - - - - -

ردينه أرملة جميلة في الثامنة والعشرين، وأربعة أولاد أكبرهم في الرابعة عشرة، تساءل أخوة الزوج:

هل تتزوج ردينه ؟! سألتها سمية : هل تفكرين بالزواج ؟!

ابتسمت ردينه بمرارة: لن أتزوج ثانية أبداً.. كان زوجي غائباً أحلم بعودته، الآن فقدت أحلامي،

سأربي أولادي، لن أسمح لهم أن يسافروا ويبتعدوا عني.




View nada's Full Portfolio