اليد الخفية
------------
كم يثير حنقي ذلك الرجل ؟! يأمرني وعلي أن أطيعه، شبه كبير بيننا، وجهي بحيرة صافية تتفجّر تألقا وعنفواناً، بينما تركت الأيام بصماتها على وجهه، وحفر الزمان أخاديد كثيرة على جبهته.
يحدّث أصدقاءه بفخر: هذا نسختي !
تعال يا بشر.. اذهب يا بشر..استنسخني كي يستعبدني ، حتّى اسمي يشبه اسمه! ينادونه الأستاذ بشير، والسّيد بشير..وأنا بِشْر..نكرة..مجرّد كائن بلا شخصيّة.
يمشي ملوّحاً بيده الاصطناعيّة ، فقد أصيبت يده اليسرى بحادث سيّارة في فجر شبابه، زاد حقدي عليه ، شعرت أنني في خطر حين زارنا الدّكتور الجرّاح برهان، تأمّلني بنظرة فاحصة أثارت شكوكي جلس مع السيّد بشير في صالة الاستقبال ،حين أحضرت لهما القهوة توقفا فجأة عن الحديث ، جلست على الأريكة ، نظر إلي السيّد بشير محرجاً ، قال آمراً: اخرج يا بشر ..لديّ حديث خاص مع الدّكتور برهان .
خرجت من الغرفة ،وفضول كبير يتملّكني ، أنا أعرف كلّ أسرار السّيّد بشير ..لماذا لا يريدني أن أسمع هذه المرّة؟ّ! تسمّرت قدمي عند باب الصالة المغلق أسترق السّمع، ويا لهول ما سمعت !
الدّكتور برهان يقول للسّيّد بشير :
اطمئن ! العمليّة ناجحة تماماً ، دورك في المستشفى بعد أسبوع ،لن يعرف بِشر، سنضع له مخدِّراً في الشّراب ،ثمّ نقطع يده ، ونلصقها بذراعك فوراً ، حين يصحو ويكتشف الأمر، يمكنك أن ترضيه ببعض المال ، وتشتري صمته .
إذن ستكون يدي قطعة تبديل للسّيّد بشير دون علمي ..بصعوبة شديدة تمالكت نفسي، خرجت إلى حديقة البيت لأستنشق الهواء النّقي..الآن عرفت لماذا استنسخني..أنا مجرد موزع لقطع التّبديل يستولي على يدي لأصبح إنساناً مشوّهاً ..ألست كائناً بشريّاً ؟ أنا نسخة ، لكنّني أحسّ وأتألّم .يبدو أنّنيي أعيش مع مجرم هجرت الرّحمة قلبه ..ما ذنبي إذا خسر يده في حادث سيّارة ؟ هل أنا المسئول عن عاهته ؟
_أهذا أنت يا بِشر ؟ كيف حالك ؟
تناهى إليّ صوت السّيّد بشير ، التفتّ إليه لأراه يبتسم ببراءة مصطنعة ، وودّ كاذب ، كان يسير مع الدّكتور برهان مودِّعاً .
كيف حالي ؟ …وكأنّه يهتمّ بي ؟ ..يدّعي البراءة ويخطّط لقطع يدي كي يصبح إنساناً كاملاً .
عاد السَّيِّد بشير ، مرّ أمامي ، قال :أنا متعب وجائع ، أحضر طعام العشاء إلى غرفتي .
يريد أن يأكل ..بكلّ وقاحة يطلب منّي أن أجهِّز له الطّعام ، سأضع السّمّ في طبقه ، ولكن أخشى أن تكتشف جريمتي وأعاقب بالسِّجن … لا..سأفكِّر بطريقة أخرى لحلِّ مشكلتي..لديّ أسبوع للتفكير ..سأهرب منه ..ولكن أين أذهب ؟ ! أنا تابع له ، خادمه ، وسكرتيره ،ومدير أعماله ، ليس لديّ أصدقاء أو أقرباء ألجأ إليهم .
قدّمت له العشاء ، كان ممدّداً في سريره ، نهض ليأكل ، ليته ظلّ ممدّداً إلى الأبد!
هل أدعهم يرتكبون بحقّي هذه الجريمة دون أن أحرِّك ساكناً ؟! سأتّصل بالشّرطة ..ماذا أقول للشّرطة ؟!ليس لديّ أيّ دليل ضدّهما ..سينكران ، سيدّعيان أنّني أتّهمهما ظلماً وعدواناً ، بعد تنفيذ الجريمة لن تفيدني الشّكوى للشرطة ،إذا خسرت يدي من الأفضل أن ألتزم الصمت وأرضى بمبلغ من المال يساعدني في شؤون الحياة .
رنّ جرس غرفته ، يدعوني إليه ، هرعت مسرعاً ، قال لي وهو يتثاءب : سنسافر قريباً في رحلة طويلة إلى بعض الأماكن الجميلة ، ونقضي أيّاماً رائعة .
ابتسمت ، تظاهرت بالسعادة ، تابع كلامه :
سأسافر غداً في رحلة عمل عدّة أيّام ، جهِّز لي حقيبة السفر، وتولّ أمور العمل أثناء غيابي.
هكذا إذن ! سوف يأخذني في رحلة نقاهة كي أغفر له إساءته .
لم أستطع النوم وأنا أفكِّر بحلّ لمشكلتي، مع بزوغ الفجر بزغت فكرة رائعة في ذهني، شربت قهوتي باستمتاع في حديقة البيت، حين تأكَّدت من سفر السيّد بشير، تناولت سماعة الهاتف بجرأة وتصميم اتَّصلت بالدّكتور برهان: آلو..دكتور برهان..أنا الأستاذ بشير ، أرجو أن تؤجِّل إجراء العمليّة عدّة أشهر لأنّني سأسافر في رحلة عمل طويلة .
أجابني : كما تريد أستاذ بشير ، اتّصل بي حين تعود كي أحجز لك غرفة في المستشفى .
انطلت الخدعة على الطّبيب، فصوتي يشبه صوت السَّيِّد بشير، تفاءلت بنجاح خطّتي، حين عاد السَّيِّد بشير أخبرته أنَّ الدّكتور برهان اتصل هاتفيّاً وأبلغه بتأجيل إجراء العمليّة عدّة أشهر بسبب سفره في بعثة علميّة طارئة، وأنّه سوف يتّصل به حين يعود. تساءلت ببراءة: ما هي العمليّة الّتي ستجريها ؟ لم تخبرني أنّك مريض.
أجابني بهدوء : إنّها عمليّة بسيطة ، استخراج كتلة دهنيّة من صدري .
تظاهرت أنّني صدّقته، في اليوم التالي قرر أن نسافر في رحلة استجمام إلى مدينة ساحليّة جميلة كي نستمتع بالسّباحة، قضينا فترة طويلة في تلك المدينة، أظهر لي السّيّد بشير حناناً كبيراً، بينما كنت أفكِّر بالوقت المناسب لقتله، تبلورت الخطّة في ذهني، لم يبق سوى التنفيذ، تردّدت، شعرت بالإثم للفكرة الجهنّميّة الّتي تمخّض عنها دماغي، هل أنا مجرم؟ لكنّني أدافع عن نفسي …
ربّما ورثت الميول الإجراميّة عنه، ألست نسخته ؟
سبحنا في البحر كثيراً، تسابقنا، فزت عليه، قلت له مستفزّاً: أنا أمهر منك، لن تستطيع التّغلّب علي مهما حاولت .
قال بغضب: أنا سبّاح ماهر وسوف أسبقك، هيّا نبدأ السّباق..
سبحنا بعيداً إلى أعماق البحر، تعب كثيراً، قاوم تعبه، أصرّ أن يهزمني، بدأ يلهث، ضاق نفسه صحت به: لن تفوز أبداً.. أسرعت حتّى تجاوزته بمسافة كبيرة.
زاد سرعته، تشنّجت عضلاته، نظر إليّ مستغيثاً وهو يقترب منّي، تجاهلت وجوده، صممت أذنيّ عن صراخه، أمسك بي، أبعدته عنّي بعنف، غمرت وجهه في الماء، لم تكن لديه القوّة للمقاومة، استسلم للبحر وغرق. عدت مسرعاً إلى الشاطئ، أطلب البحث عن أخي الّذي اختفى في البحر، بعد تفتيش طويل اهتدوا إلى الجثّة، أحضروها إلى الشاطئ، بكيت كثيراً على أخي العزيز، عدت إلى مدينتنا بصحبة تابوته،دفنته باسم بشر، وانتحلت شخصيّته، صار اسمي الأستاذ بشير رجل الأعمال الغني، اتّصلت بالدكتور برهان لأبلغه أنّني أجريت العمليّة في مدينة أخرى، وأنّ بشر نسختي مات غرقاً بعد إجراء العمليّة، تابعت حياتي باسمي الجديد، تراودني دائماً مشاعر الإثم، أطردها، أتطلّع إلى يدي، أحمد الّله أنّها لم تقطع، أحاول أن أغفر لنفسي الجريمة الّتي ارتكبتها، أتابع حياتي بهدوء وقد أسدلت ستاراً كثيفاً على جريمة تؤرّقني، وتفسد عليّ سعادتي.