لطالما عشقت البحر في الشتاء. ذلك المزيج السحري بين الشمس الدافئة، الرياح الباردة وصوت البحر المغريّ دوما يدغدغ روحي ويرسل قشعريرة لذيذة في ضلوعي. رواية لم أُنهها بعد تشكل دائماً جزءاً أساسيا من من حقيبة سفري الصغيرة. هذه المرة اخترت "ذاكرة التيه" لعزة رشاد. ما زلت تائهة بين صفحات تلك الرواية، تتلقفني تشبيهاتها المبدعة والحوارات الداخلية لبطلة لاتعرف ماذا تريد وماتزال، هي ايضاً، تائهة بين صفحات المجتمع.
وصلنا إلى تلك المدينة الصغيرة بجوار البحر الأحمر ليلاً ولكن لحسن حظي أن البدر كان مكتملاً. كم أعشق البدر! الشيء الوحيد الذي يسلبني البدر إياه هو تلك النجمات الصغيرة التي يختفي ضوئها أمام ضوء البدر القوي. ولكنها قربان اقدمه عن طيب خاطر من أجل رؤية ذلك المثلث الفضي على صفحة المياه الهادئة. النجمات الكبيرة تقاتل بإستماتة كي يراها الحالمون والصيادون في البحر. تبدون هادئة وحكيمة ولكنها في واقع الأمر مشتعلة ومحمومة. لا أتمنى أن اكون أي شيء بعد حورية بحر سوى نجمة صغيرة ... مشتعلة ومحمومة.
ما ان استقرت الشمس في اليوم التالي في وسط السماء الصافية حتى اخذت كتابي، بعض الأوراق البيضاء، وقلم وزحفت بصوت خافت إلى الشاطئ الخالي نسبياً. "ما أجمله من طقس!" سمعت نفسي أهمس بها عندما رحب بي النسيم القوي البارد. ولكن تلاشى صدى تلك العبارة عندما بدأت أرتعش. أخذت أمرر بأصابعي الباردة على ذراعي المرتجف. أراحني ملمس الكنزة الناعم وإمتزاج اللونين الأبيض مع الوردي. ابتسمت عندما تلمست أناملي طريقها إلى أطراف الكنزة حتى وصلت إلى تلك الفصوص الخافتة ... نجوم صغيرة خافتة في سماء جسدي!
أقبع ساكنة لفترة من الوقت لا يتحرك في سوى عيناي اللتان تتجولان بحرية بين السماء والبحر. وتكون مكافأتي ذلك الطعم الملحي على شفتيّ. ويا لها من مكافأة! أنهض وأنا ألف شال كبير أبيض حول كتفيّ. تعاندني الرياح الشقية وتعبث بالشال فأجد صعوبة في التحكم فيه ولكنني أنجح أخيراً في لفه بإحكام حولي بأصابع حازمة. أمشي على الرمال الناعمة فتتبعثر حبات الرمال الصغيرة بين خطواتي، تتناثر وتتناثر معها أحلام صغيرة وردية. أتلمس فوق الرمال حلم أبيض جميل أرسمه بقلبي وعقلي وأطراف روحي، ولكني لا أجده. تهرب من شفتاي الملحيتين تنهيدة حزينة تفنى بين الأمواج الصغيرة. لماذا تفني الأمواج صغيرة. بعض الأمواج تفنى قبل أن تولد ... كالأحلام!
أشعر بفرحة طفولية عندما ألاحظ ذلك الهلال من الصخور الذي يبدأ بالشاطئ وينتهي داخل البحر. تتأرجح قدماي فوق الصخور منذرة بأنني قد أسقط في أية لحظة. لا أبالي وأكمل خطواتي المضطربة بين أشكال الصخور المختلفة. أقترب من نهاية الهلال، أهبط بجسدي المتعب الفرِح وأغمر يدي في المياه الهادئة. تجد أناملي المبتلة طريقها إلى فمي، فأتذوق ذلك الطعم المالح القوي الذي يرسل لذة مسكرة إلى جميع أطراف جسدي. أغمض عيني وأشعر ان لانهائية البحر قد انتقلت إليّ ... يصبح شاطئيّ روحي بعيدين مثل شاطئيّ البحر. ألملم داخلي أمواج تموت صغيرة وأخرى تموت قبل أن تولد. ولكني، في أعماق بحري، أطوي أمنية لم تولد بعد ... أمنية في أن يلملم شطآي محيط أكبر مني، وأوسع مني ... أن أطبق بيدي على حلم أبيض مراوغ.
أقف، تحاول عيناي الوصول إلى الشاطئ الآخر بلا جدوى. أستدير وأعود بخطوات متعبة تتناثر بينها أحلام ناعمة وأمواج تموت صغيرة.