يتفق –ظاهرياً- (ربما لأول مرة) كثير من المتشبثين بجذور الدين السطحية على التشبُّث –نظرياً- بأفكار من مثل أنَّ المؤمنين قليلو العدد في هذا الزمان.
فقد وصفَ القرآنُ الكريم الأكثريةَ بالكفر والجهل والغفلة وقلة الشكر:
(فأبى أكثرُ الناسِ إلا كفوراً) [الإسراء: 89]
(ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون) [الرعد: 1]
(وما أكثرُ الناسِ، لو حرصْتَ، بمؤمنين) [يوسف: 103]
(ولكنَّ أكثرَهم يجهلون) [الأنعام: 111]
(يعرفون نعمةَ اللهِ ثم ينكرونها. وأكثرُهم الكافرون) [النحل: 83]
(ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يشكرون) [غافر: 61]
(وقليلٌ من عباديَ الشكور) [سبأ: 13]
(ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون) [يوسف: 21، 40، 68 – النحل: 38 – الروم: 6، 30]
(بل أكثرُهم لا يعلمون) [لقمان: 25 – النحل: 75، 101]
(ولكنَّ أكثرَهم لا يعلمون) [القَصص: 13، 57]
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم) [ص: 24]
(وإنَّ كثيراً من الناسِ عن آياتنا لغافلون) [يونس: 82]
(بل أكثرُهم لا يعقلون) [العنكبوت: 63]
(فأخرجْنا مَن كان فيها من المؤمنين. فما وجدْنا غيرَ بيتٍ من المسلمين) [الذاريات: 35، 36]
(بدأ الإسلامُ غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) [صحيح مسلم ج1، ص130، رقم الحديث 145].
(لا تقوم الساعة حتى لا يُقالَ في الأرض الله الله) [صحيح مسلم ج1، ص131، الحديث 148]
وذكرَ الكتابُ عن سيدنا نوح: (وما آمنَ معه إلا قليل) [هود: 40]
حتى الشيطان أدرك أن أهلَ الحق أقليةٌ، فقالَ محاوراً اللهَ، عند عدم سجوده لآدم:
(لئنْ أخَّرْتَني إلى يوم القيامة لأحتَنِكنَّ ذريتَه، إلا قليلاً) [الإسراء: 62]
هذه الفكرة تقودُنا /أو تقودني أنا/ إلى فكرة أن الأكثرية على ضلال.
إنَّ الأديانَ الكبرى مبنيةٌ على فكرةِ (خَـرفنةِ) العوامِّ لسهولة تنظيمهم.
والمقصود بالخرفنة هو جعل أتباع الدين مطيعين كالخراف.
وكثيراً ما نصادف استخدام رجال الدين لمصطلحات مثل: (الخراف الضالة والرعية والحظيرة، إلخ...) لتؤكد لنا /أو لي فقط/ سياسة الخرفنة المتبعة.
عندما تكونُ خروفاً، يسهل قيادتُكَ إلى المسلخ.
وعندما يتعلَّق الأمر بالمسلخ، فخيرٌ لكَ أن تكونَ كلباً من أن تكون خروفاً يؤخَذ إلى الذبح.
رُويَ أنَّ أحد المؤمنين كان قد رُشِّحَ للكهنوت فرفضَ لأنه لا يفقهُ شيئاً. فقال له الكاهن بثقة مبتسماً:
"هل سمعْتَ عن أحد ذكر عنه الكتاب أنَّ الرب محتاج إليه سوى الجحش الذي أدخل المسيح إلى أورشليم؟"
يشبه رجلُ الدين الذي يقود المؤمنين إلى الجنة حمارَ الراعي الذي يقود الخراف إلى الحظيرة. صحيح أنه يعرف الحظيرة، لكنه يبقى حماراً.
وعلى اعتبار أن الأديان هي أنواع أخرى من المنظِّفات، فأيُّ دين يمكن أنْ ينظِّفَ إنساناً متَّسِخاً لا يريد أن ينظف؟
إذا كان الإنسان، بعد أن اتسخ بالخطيئة وأصبحَ غيرَ جدير بأن يعيشَ في السماء، قد هبط إلى الأرض لينظِّفَ نفسَه من نفاياتٍ سابقة، فإنَّ ما يفعلُه الدينُ حالياً هو إعادةُ ملئه، من جديد، بالنفايات.
إنَّ ما يؤلمُني (ويفرحني أيضاً) هو أنني تعرَّفتُ على المسيح خارج الكنيسة وعلى محمد خارج الإسلام.
لم أتعرَّفْ على العصفور في القفص ولا على الوردة في المزهرية، بل في الطبيعة.
تعرفتُ على الله خارج الجدران،
وداخل نفسي.
ربما يعترض أتباعُ الكنيسة والإسلام بالقول إن الذَينِ تعرفتُ عليهما خارج المؤسستين ليسا لا المسيح ولا محمد.
لكن ما الذي يضمن لي أنَّ الذي تُعَرِّف به الكنيسةُ الحالية هو المسيح الحقيقي وأن الذي يُعرِّف به الإسلام الحالي هو محمد الحقيقي؟
إنَّ المسيحَ ومحمداً ليسا سوى رغباتِ مَـن يُعرِّف بهما.
من يتكلم عن إنسان مثالي إنما يتكلم عن نفسه هو بطريقة مثالية، أو كما يُفتَرَض أن يكون.
إنَّ الذي يظنُّ أنه يعبدُ اللهَ طالباً منه تحقيقَ رغباته، إنما يعبدُ في الحقيقة نفسَه، فيجعلُ شهواتِه الغايةَ أو الرب ويجعلُ اللهَ هو الأداة أو الوسيلة.
ربما كان أفضل للمتديِّنين أنْ يُصَلّوا للهِ شكراً على ما لديهم من نِعَمٍ مِن أن يصلّوا لله طلباً منه نِعَماً أخرى ربما لا تزيدُهم إلا ضلالاً.
كان من الأفضل أن يوفّوا ديوناً سابقة من أن يستدينوا من جديد.
إنَّ الأكثرية يُصلّون صلاةَ طلب لا صلاةَ شكر.
الأكثرية لا يُصلّون، إنما يتسوَّلون.
الأكثرية يعبدون رغباتِهم.
سُئل المهاتما غاندي:
(إذا كنتَ تحبُّ المسيحَ بهذا المقدار، فلماذا لا تصبح مسيحياً؟)
فأجاب غاندي:
(عندما أعرف مسيحياً يتبع المسيح فسأفعل أنا كذلك.)
وهذا يذكِّرُنا بما قال يسوع الرب في عظته على الجبل:
(أنتم ملح الأرض. ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملح؟)
ربما كان غاندي يقصد من جوابه أن الملح الآن فاسد.
المسيحي: هو إنسان انتقل من مرحلة احتمال كراهية الآخرين إلى مرحلة محبتهم عملياً.
المسيحي: هو إنجيل خامس.
(من لا يحمل صليبَه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً.) [لو 14: 27]
عندما تصلب نفسَكَ وشهواتِك، يحيا فيكَ المسيح.
بناءً على ما سبق، كم هو عدد المسيحيين الفعليين في العالم؟
وإذا كان المسلم من سَلِمَ الناسُ من لسانه ويده،
وإذا كان من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه،
وإذا كان المسلمون الحاليون –بحسب الحديث- غُثاءً كغثاء السيل،
وإذا كان المسلم لا يكذب،
إلخ...،
فكم هو عدد المسلمين الحقيقيين في العالم؟
عندما أتعامل مع مسلمي اليوم، أقول في نفسي: لقد وصل الإسلام في القرون الوسطى إلى إسبانيا والصين والهند وأفريقيا... فلماذا لم يصل، حتى الآن، إلى قلوب المسلمين؟؟؟
إذا كنا، مسيحيين ومسلمين ، بعيدين عن جوهر الإسلام والمسيحية،
فعلامَ نختلف إذاً؟
وإذا كنا، مسلمين ومسيحيين، مطبقين لجوهر المسيحية والإسلام،
فعلامَ نختلف أيضاً؟
كثيراً ما يكون الابتعاد عن الصحيح في نظر دين ما هو اقتراب من الصحيح في نظر دين آخر.
فأين الصحيح إذاً ؟؟؟
ربما يكون الصحيحُ هو الذي يبقى صحيحاً بتغيُّر الأحوال، دون أنْ ترتبطَ صحَّتُه بشروط؛
هو الذي إذا انتقلْتَ به من دين إلى دين يبقى صحيحاً.
الصحيح في جميع الأديان هو الذي لا يراه المتديِّنون غالباً.
الصحيح هو المحبة.
وأين المحبة؟؟؟
أغربُ ما فينا هو أننا نكره بعضَنا باسم المحبة (قُدِّسَ اسمُها).
وندَّعي التديُّن.
كل متديِّن لا يمارس المحبة نَجِس، وليس إلا خنزيراً بشريَّ الشكل. (مع الاعتذار من الخنازير حيوانيةِ الشكل، لأنني لم أقصدْ الإساءةَ إليها.)
كلُّ مقدَّس ليس فيه تقديس للمحبة هو نوع من أنواع النجاسة.
لا توجد كلمات، مهما كانت بذيئة وساقطة، يمكنها أن تصف عهر الدين الذي يقف حاجزاً بين اثنين تربط بينهما رابطة حب.
إنَّ الدينَ (مهما ادَّعى المحبةَ) حينما يمنعُكَ من أنْ تلتقيَ بمن تحب، إنما يدعوكَ إلى كراهيته من حيثُ يصرِفُكَ عنه إلى التفكير فيمن تحب؛ فيكون بذلك قد حَجَبَكَ عنه وعمَّن تحب.
وكلُّ فكر يحجبُكَ عن المحبة هو فكر مضاد للمحبة.
إن الإله الذي يقف حاجزاً بين اثنين متحابين ليس في الحقيقة سوى الشيطان على صورة إله.
لو طُبِّـقَتْ معاييرُ الدين الحقيقية على غير المتدينين لأصبحَ الكثيرُ منهم قدِّيسين.
لهذا، من مصلحة المتديِّنين أن يلصقوا نجاساتهم بغيرهم.
لا يتغيَّر شيء من حاوية النفايات إذا طُلِـيَتْ باللون الأبيض وكُتِبَ عليها باللون الأخضر: "حوض زهور".
إنَّ مؤسسي الأديان الكبرى كانوا كافرين في نظر متديني عصرهم.
بناءً على ما تقدَّم،
ليستْ كلُّ فكرة تأخذ من الأكثرية وجودَها تكون بالضرورة صحيحة،
بل كل فكرة تعطي للأكثرية وجودَها تكون بالضرورة صحيحة.
محمد علي عبد الجليل
مايو 2004