فوضى صور
شهادة شعرية
د. احمد جارالله
(فوضى صور) مجموعة شعرية جديدة للشاعر (كرم الاعرجي) تضمنت نصوصاً مختلفة، هي يوميات شعرية دونها الشاعر في الفترة ما بين 2003/4/9 و2003/6/1 كما اشار الى ذلك الشاعر في نهاية المجموعة، ولعل في هذه الاشارة ما يساعد القارئ على تلقي النصوص وتأويلها، اذ ان هذه الاشارة الى المرجعية الخارجية لزمن كتابة النصوص تتطلب من القارئ موضعة النصوص ودوالها في حدود هذه الفترة الزمنية التي شهدت احتلال العراق ووقوع الانهيارات المتتالية في البنى كافة للمجتمع العراقي. والتي يصفها الشاعر بـ(دروس الخراب) في اهدائه للمجموعة.
ويبدو ان الشاعر لا يتخلى عن التوصيف القديم الذي كان يطلق على الشاعر بوصفه رائياً ومتنبئاً لانه لا يتعجب مما حصل فـ (ما حدث كان منتظراً).
ويتنقل الشاعر كرم الاعرجي بعينه الشعرية الماكرة في (122) مقطعاً راصداً ما تناثر في (فوضى صور) تلك الفترة الزمنية الحرجة من تاريخ العراق، وتاريخ حياته ايضا.
وثمة مرارة قاتمة وساخرة في اعماق الشاعر المذهول وهو يرى (اللصوص يطبقون على السكينة/ ويقضمون بالاظافر الشوهاء/ مفاتن المدينة!!..) انها ليست فوضى صور فحسب بل فوضى تاريخ، حيث يتداخل الماضي العريق بالحاضر المزيف الردئ حتى ترى (خمبابا- من شدة الضحك- يبول على المؤتمرات.. والقمم).
وثمة فروق شاسعة من وجهة نظر الشاعر بين شرائع ذلك الماضي وشرائع الحاضر الوحشية (شريعة التاريخ/ يحملها/ حمورابي/ وشريعة فجرنا الناري/ تسرقها الغابة).
الصور التي يعرفها الشاعر عن مفردات حياته اليومية لم تعد هي بعد 4/9، انها تنهال في ذاكرته على نحو فوضوي، لتتجمع بعد 4/9 بصورة ممسوخة تثير قرف الشاعر:
(لماعو الاحذية/ بعض الكسبة/ الخمارون/ لاعبو القمار/ حتى عامل المقهى/ اعرفهم جيداً/ قبل 4/9/ وبعد مرور القوافل العسكرية على جسدي/ رأيتهم/ يقودون الالوان من السيارات الفارهة/ فبصقت الثواني/ بما فيها من لحظات).
استطيع القول ان ثمة انقلاب كبير، وتحول في رؤيا الاعرجي وقع بعد صدمة 4/9 (الغريب في الصدمة: الطيور/ المرقطة بالجمال/ كلها غادرت/ بفعل الخلخلة/ والرصاص الطالع/ من فوهات البنوك) فقد خفتت في شعره نبرة التصوف والميتافيزيقيا وتصاعدت لديه نبرة الواقع اليومي.
ومن يتفحص لغة الشاعر في هذه المجموعة يرى حشداً كبيراً من المصطلحات والمفردات، والتعابير الواقعية اليومية، لاسيما ذات البعد السياسي التي بدأ تداولها في تلك الفترة ومنها: الحلفاء/ الوطن/ دستورنا/ التخريب/ البلاد/ نيران القنابر/ المعركة/ السطو/ الخارجون على القانون/ السلب/ الرصاص/ طائرات العدو/ سقوط الرصاص/ اللصوص/ الحرية/ الشعار/ الحرب/ الاحتلال/ الخيانة طائرات الحلفاء/ القوافل العسكرية/ الرصاص/ البنوك/ الانتخابات/ المترجم/ الجنرال/ الديمقراطية/ الخصخصة/ راية العراق/ الشعار).
ووسط هذه الفوضى فان الشعر كان (يمضي باتجاه الصمت) فلا قيمة لصوت الكلمة حيث يعلو عليها صوت الرصاص و(صرخت/ فكممني الرصاص/ صادرني لساني/.. وغاص) فالشعراء (خارج الحواشي/ بسبب الزحام/ الذي سببته القصيدة/ نحن- الهامشيين- نبقى مستاءين من طيننا/ المفخور بالحروب) و(القصيدة الان/ يدولها الحريق/ دون ان نحتفل/ هذا العام/ بالنشيد الخاص).
ان ما يحدث واقعياً يحاول الشاعر تفسيره شعرياً بمعنى انه يحاول ساخراً ان يؤوّل بعض الظواهر من خلال ربطها بما يقع من احداث العنف (كلما دخلت البيت/ باغتني الرصاص/ هكذا دائماً../ تكثر النوافذ../ في البيوت البريئة)، (لم اتزوج/ لحد الان/ لان الانواع/ لا اصل لها)، (سأحضر الحفل/ لان العالم/ بلا حضور).
ان (فوضى صور) هي شهادة حية، ومباشرة، من قلب الواقع العراقي لحظة تعرض لكل تلك الزلازل التي غيرت جغرافيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ومن ثم امتدت اثار ذلك الى جغرافية الكتابة الادبية.. الشعرية عند كرم الاعرجي.