الخلط المرموز
كرم الاعرجي
احس انني مغلق المشاعر، مفتون بهوس الوحدة،أفتح فنجان قهوتي واسكن الخيال مشحونا بالفوضى، ترتعد من حولي المفاجاة، تشبهني سفينة تائهة تحاصرها الرياح والامواج، لانافذة من البحر تطل على هذا المدار الخامل المكتظ بخلل مزمن يرافق ارتعاشاتي من مبهم، ثمة امر يسجل بصماته على هيكلي الخاسر، كل شئ يصرخ في وجهي من داخل هذا القبو المريض بالعفونة والسعال واوجاع المفاصل كل شئ حتى الذاكرة التي تفتح بعضا من شبابيكها كي تسليني، غمست روحها العتم، انه الوهج السري الذي يقتنص لحظة دهشتي من غفلة علقت اسرارها على حبل لا يتصل، دوران يهيمن على غيبتي الراعشة، تلك (الاحافير) المكتوبة على جدران الفنجان القاحل تتنبأ بخرافات ستأتي من سبايا الالم القادم، واحفادي السالكون دروبا بعثرتها فجائعي الحاذقة بنهايات المعرفة، وخدر الانكماش المتأصل بجذري الحزين، سكون، وفوضى تتلاطم بهذا العماء الساخر من وجهي طرق تتلوى واخرى معبدة باحلامنا المرعبة، لاشئ يندس الان في الظلمة لانني ارقب فقط مايحلق من ابخرة تؤجل الشروخ لتتسع الدهاليز عبر بؤبؤي البعيد والخاسر مع (زرقاء اليمامة)تلك الفوازير غابات من الشرود، اسمع (ناياً) يخرج عزفه من داخلي كي ترقص الافاعي امام هذا التحديق المزمن بالصراخ الذي يتحلى بالصمت خوفا من ان يسرق السمع جيراننا واتهم بالجنون، لانهم علقوا يوماً على حائط منزلنا صورة فيضان 1972 ثقاب الحريق. وقد عجبوا من نجاة عائلتنا من الغرق، هذا لاننا كنا بلا سقف وننام بهدوء القطيع في زريبه حيث التنفس الخانق والمعجون بالصرع الذي اصاب امواتنا قبل ان ندك عليهم حفرة الحق..
كنا مستائين من الامجاد وبطولات الخرافة، تاريخ سقيم بالقفزات المعطرة بكذب المؤرخ الحذر من حاكميه، قهقهتي المريضة بحشرجة الحنجرة اخترقت الجدران الاسمنتيه التي تفصلها لولاها لكانت جلستي مع فنجاني متداولة فجأة سمعت طرقات مفزعه على الحيطان الثلاث، علم الاجتماع يثوِّره (ابن خلدون) في تلك اللحظة هؤلاء من كل تاريخ لهم مرجع، طرائق شتى ومن مدن شتى، لماذا انا محاط بكل هؤلاء النسوة اللواتي هجرتهن المفاتن الانيقة وتقمصهن الموت بأخذ ازواجهن، كل الطرقات كانت تؤدي بي الى لغة غائبة، تارة افهم معناها واخرى اجهل ماتكنه تضاريس الصوت، اتلفت بقفزات متواترة في التحديق تحجر بؤبؤي في صدارة المعنى الذي ينطلق من فنجاني المريض بشعرية غامضة تماماً صار كل شئ ماضيا مشوشاً، فجأة انسكب الهدوء، وجه يتربصني منذ نشأتي وفاضت في فضائي ملامحها كانت، حبيبتي.. ثلاثون عاما لم يبق منها سواي كانت في خساراتي، حدثتني ببراءة المواكب الربيعية التي مرت في احتفال درامي عبر تلك السنين، لم اكن اصدق، اتلفت مشدوها وخائفا لكنها اصرت على ان تحدثني عن تجارة العواطف وسهام المرضى من عوائلنا ابطال التفريق.. احسست بصدمة لا تليق بتلك اللحظة المنشغلة باحداث (الجحيم) لهنري بارابوس الذي شق قلبي نصفين واخذ بعقلي نحو مايدور خارج عزلتي تناثر الاصغاء في حفريات واخاديد اضيع فيها كلما اقتربت نقرتا العينين وتحركت شفتان صقيلتان بلون العاج فاغرة من هيكل، تعال وضمني كي تسمع طقطقة القلب الذي تحجر منذ زمن تعال زرني ليلة واحدة كي تكون قمري لاخلص استلقائي هذا واتحول الىرميم، لافزّ بضوئك نحو ماجئت منه منفصلة الى الابد،
هذا الدخان يغرقني ثم يخرج بطيئاً بلون البنفسج من ثقب قصدته في المرآة، المقابلة لمكتبتي الخالية الامني، هذا لانني كنت استعير الكتب واعيدها واستر فراغها بالجرائد العتيقة لابصر معناي في الفراغ، غارت في الجدار رحلت بلا نضارة انيقة، كما كنت اشاهدها صباحاً، عندما تذهب الى مدرستها وهي ممتلئة بمرح الطرقات، وجذوة الفساتين والحدائق، كانت جذابة وصافية الملامح، تكتنزها رهافة الروح، صدمتها قسوة الرفض كما صدقني، لنبتعد ثلاثين عاما تدثرنا الذكرى بحروف كتبناها برسائل تزق في الشباب مراهقتها، وبعدها اخبرتني جارتها بان السيدة ماتت وهي تقود اطفالها الثلاث خوفاً عليهم من المواجهات وهكذا سرق الموت اول ذكرى حفرتها على القلب.. والان لا اثر لها وكل ماورثته من هذا العالم وحدتي.. قهقهات غبية صدرت من القعر المخنوق بتراب القهوة تحقنني بسعالها كمنبه فيه عطب، وبتمرين قلق لقواي الراعشة كنت اغوص بحدة نظري عمق ما اكتشفه من اعماق، لم يكن هنالك تأثيث للخطاب في الداخل لان(الطاقة) افتعلت قدرتها..
فجأة سمعت انفجاراً رهيباً رافقته اصوات الهمرات وطواقم التفتيش، انكسر الفنجان وانتبهت من (الخلط) فلم اجد احداً حولي، الا صورة الاعلان اللاصق مكتوبا عليه انت في (العالم 2006) فضحكت لانني بدأت افهم الحرية..!؟