(فوضى صور)
.. شاعرية الاشارات الخفية!
انور عبدالعزيز
بعد ان نشر الشاعر السبعيني كرم الاعرجي العديد من القصائد في الصحف والمجلات الموصلية والبغدادية والعربية، صدر له ديوان: (الهدهد) سنة 1990 اعقبه بديوان: (فضاء العصّي الخمس) سنة 1995 ثم (المتحف) 1998 وهي مسرحية شعرية، بعدها (اوقفوا العالم اني اترجل) 1999 وهي مسرحية شعرية ايضا، وفي سنة 2000 صدر له (هكذا انقب) وصدر له عام 2001 (هذا التعري قبل قدوم البحر)، ونقرأ على اهداء ديوان (فوضى صور) سنة 2003 تاريخاً لصدوره..
تميزت غالبية قصائد دواوينه في كلماتها وجملها بالاختصار الشديد والتكثيف والتركيز مع ما تحمله من معانٍ ودلالات ثرية، ويحاول الشاعر بباطنية ملفتة للنظر ان يختفي ويخفي اغلب ما يقال رغم انه يمنح القارئ الجاد الحصيف النابه المتمرس القدرة على اكتشاف ما يود الشاعر ايصاله للمتلقي، المخبوء والمستور هو ما يحرص الشاعر التنبيه اليه باشارات ودلالات تكاد تبدو (كالمبرقات) في ومضاتها.. كرم الاعرجي شاعر الاشارات الدالة رغم كل محاولاته في التعتيم على مضامين قصائده ومعانيها، فهو لا يريد لها ان تبدو عارية مكشوفة، بل يمنحها شيئاً من اضاءة وخصوصية لقارئ يستطيع فك رموزها والغازها، ولكي يجعل قارئه يتعامل معها بعقل مفكر ونفس توّاقة للاكتشاف، ولكي ينقل لقارئه حجم معاناة شاعرها الذي ان تمتع بقليل من حلو الحياة في غفلات الزمن الغادر فانه ذاق مرارتها ووجعها واكتوى باشكالياتها المحزنة وقلقها الحاد المؤرق وضياع الهدف الكثير الكثير.. واذا ما تحسسنا ذلك في غالبية دواوينه، فانها تبدو واضحة اكثر في (فوضى صور) اذ يكاد هذا الديوان كله ان يكون لغة (للاشارات الخفية) التي يحرص الشاعر ان تظل مخبوءة طي الستر والكتمان ولا تمنح نفسها بكل سهولة، حتى (الاهداء) جاء مفعماً بلغة (الاشارات الخافتة) هذه: (ما حدث كان منتظراً، وما سيحدث سنكون نحن صانعيه!).. وحتى في (مدخل الديوان) فهو يصرّ على هذه الباطنية: (كان بودي ان اكذب، لكنني في الكتابة صادرني باطني فكانت هذه النصوص)..
(فوضى صور).. هذه (اليوميات) بصفحاتها التي تجاوزت المائة هي أفق الشاعر، مدياته، مرئياته، ارتسامات مشاعره، ايقاعه المتفاعل بما يحس ويرى ويسمع، وهي في كثير منها تعتمد (المفارقة) اللاذعة، وربما اقتربت كثيرا من لغة القص حتى استحال بعضها (لقصص قصيرة جداً) دون ان تفقد شاعريتها المرسومة لها والمفعمة بها، ثم هو يحاول ان يضفي مسحة فلسفية وجودية على بعض قناعاته عندما يقول: (لم أتزوج لحد الان، لان الانواع لا اصل لها)، ومثلها: (ما اجمل ان تغترب عن الطين، وتعبث وحدك في هذا الفضاء!). ولان الشاعر صوفي الروح، فهو يعشق الغموض، قال: (أتصل بي رجل غامض عبر الانترنت، صاحبني طويلاً، بعدها حرق كل الرسائل، قلتُ: لماذا؟! قال لأنني اكثر غموضاً).. ويظل البعد الفلسفي وتظل الحكمة شهية الشاعر عندما يردد: (الغابة جميلة ولكن بلا اقوياء) ويردف بعد ذلك: (الصقر خائف، الفريسة خائفة، هي امنية كي لا يموت الضعفاء!).
لا اغالي اذا قلت ان شاعر (الحكميات) الحزينة الموجعة يبدو متفرداً بها، ويجيء هذا التفرد عبر موهبة الاختزال المكثف والاقتصاد غير المخل باستعمال الكلمات المكتنزة، فهو يظل باحثاً عن الكلمة الادق والاصوب والادفأ المشحونة بمستور المعنى دون الافاضة المترهلة وربما اقترب في هذا من مقولة النفري الرائعة المذهلة: (اذا اتسع المعنى ضاقت العبارة) هذه المقولة الذكية ربما طرقت هواجس شاعرنا وهو يتعامل بصوفية العبارات والغازها الغامضة التي يحلم ان تنير لها ولقارئه الكشف عن مكنونات النفس الضائعة الطريدة الشريدة المبعثرة التائهة في هذا العالم المضطرب المخيف وبحثاً عن أمان الروح المستوحشة.
لغة الوجد برموز الاشراف وماهية الخلق وسر الوجود والعشق الصوفي ليست بغريبة عن شاعرنا، وهو المنشغل المشغول المحب العاشق لطروحات الحلاّج والنفري والغزالي وابن عربي وابن الفارض والسهروردي المقتول والحسن البصري ورابعة العدوية وغيرهم وغيرهم من نجوم افذاذ الصوفية.
ان ما اوردته من شواهد للشاعر يكاد يكون كله (مكامن ساكنة) للكلمات المختزلة المخبوءة بعناية، ولكنها المشعة بضوء المعاني العميقة المؤنسة، وتلتقي على ذلك غالبية (مقطوعات) الديوان بلا استثناء، اذ الشاعر حريص ان يوحد نظرته - وبلا خلاف- للناس والظواهر والاشياء وعبر نظرة انسانية متفتحة رغم جراح صاحبها ورغم ما يشوبها من كبد وحزن ومرارة عندما يرى كل هذا الهباء والخواء والخسران تطوّق حتى عزلته المحببة لروحه.
مائة وخمس وعشرون صفحة قالت - ولم تقل- كل ما تريد، ولكنها افصحت، والقارئ اللبيب من يلتقط المعاني المتوهجة رغم ميل الشاعر -وكما ذكرت- ان ُيبقي الكثير مخفياً مخبوءاً بحرص وحذر، ولكنني اشك -وكما ذكرت ايضا- ان الشاعر قد استطاع حجب الكثير مما قال وعندما سيصادف ذلك القارئ او القراء ممن تمرسوا في الكشف عن لعبة التخفي معها كانت حجب الاقنعة مانعة في الوصول الى المعاني الهاربة.
ان ما اردت ترسيخه والتأكيد عليه في هذا العرض ربما يلتقي مع طروحات عدد من النقاد المعاصرين عرباً وغربيين في ان المعاني والكلمات والجمل المرموزة والمخفية بذكاء ومهارة هي اكثر اصالة وصدقاً وقبولاً وتفاعلاً عند القراء، اما تلك الواضحة الصريحة العارية المجردة المباشرة فقد يتجافاها المتلقون عندما لا تجد لها اثراً في ذائقتهم القرائية الواعية.
(فوضى صور).. ديوان جدير بان يحظى من القراء بالعناية والتأمل.