شطيبي والفيض الحسي

شـطـيبـي  والفيض الحسي

كرم الاعرجي

  على ساحل البحر يستجم بحر.. حيث الموج يتلاطم في ذات الشاعر فوق رمال (شطيبي) البلاج. بالامه وفرحه. انها المدينة التي تطل على نافذة البحر المفتوحة على كل اتجاهات المسافة بلا زمن. انها المكان الهادىء الصاخب. لعلم من اعلام الشعر العراقي المعاصر (ذو النون الاطرقجي) وذلك قبل ربع قرن من كتابة حروفه اللولبية المكتنزة بلمعان الوعي الصوفي في حلزون الابعاد. المحدق بعينين واسعتين وبوسع المدى الى حيث الادراك المتسامي بحسيته المذهلة في مناجاة الطبيعة بما فيها من سحر خلاب واخاذ. انه عالم تخرج من ذهنيته ملكة تمتلك اسرار الغور في اعماق ما يرى بوضوح من ظواهر عينية واكتشاف خبايا الجوهر الفوقي على مستوى الفيض.

  شطيبي.. انعكاس دلالات تجوب الاغتراب الذي يطمئن له الشاعر محتارا يحاورها (واسير على بحرك لا يغرقني، لا تنفد كل طقوس الفتنة ابعد من جلدي). نعم. انه بحر يمشي على سطح بحر مشدود بقامته نحو السماء. باحث ومكتشف مرموق في اختياره لفسحة الجمال التي هي جزء من ذاته الملتهبة بجمر الاحساس المتأمل والخازن لما يعانيه من ألم الحسرات. حائر. مهاجر وحزين. يضيع ويلتقي، يلتف على لسانه خرس الصوت، يومىء بغيابه وحضوره، انه المعنى المكتوب على لوح الهواجس الفاعلة فوق رماد القلب. ينفث الادراك ليحفر في الصلب تقاسيم الناي. بقوله: (لن اكفر فانهمري يا امطار اللون صواعق في قلبي، ذوبي كحلا، وبي في قلبي. زقاق، عسل/ وليستلق الموج على رأسي الطفل.، وليحملني. موجا من امواج البر وليتوحد في عيني العالم.) الحداثة وعي شامل مفتوح ومختزل يجيز حتى في اعجاز المضامين ككتابة، الا ان متلقي الشعرية يتحسس مزاياها. الصواعق، الكحل، الكفر، والقلب. الانهمار والزقاق، العسل والذوبان، الموج والبر. الطفل والتوحد.. هذه المفردات خزن سري يتحدر من وعي يصور ما هو خيال في جملة تسعى نحو الحبكة الفنية المدركة لفعل حركة الحداثة في العالم. ويتساءل بحوار داخلي (هل كنت انا البحر وظلي الصحراء) شطيبي (يشطرني سيف ذهبي من حسنك، ينمو في اعماقي شجرة.) ويبقى اسير التوجع بين اقدامه التي تسير بحذر على البر وذاته المبحرة في بحرها والتي ما انفكت عن فيضانات الحس. لذا كان البحث عن الحياة المثمرة للخير والعطاء امرا حاصلا في وعي الشاعر بكل ما قاساه من اهات وفرح وعشق وسموم التقدم. انه ينقب في البساطة. برغم السيف الذي شطره الى نصفين، استمر في الابحار من اجل تحويل السيف الى شجرة تزهر سلاما ومحبة وتاخ داخل رقعته ورقعتنا. انه توحد الذات الانسانية مع الطبيعة. ويبقى يتخاطب بـ (مونولوج) داخلي، والانزياحات مستمرة. انزياح محصور في قمقم الاشارة: (فلتحتفظي بشبابك كالغابات البكر بعيدا عن نيران الاحزان). اسئلة مرة تنتظره بهذا الغرق المائج في عالم يزرع وحشيته في جوف غاب.. انها كارثة الجذام الفكري الذي يصيب ارقى المجتمعات. ليس البحث عن المثالثة امره ولا حكومة الفلاسفة طموحه، ولا الامتثال امام القوة كمواجهة من اسراره. ولكن يريد بصبر المكافح ان يزرع كل واحات الصحراء حبه الاخضر. وحين خاطبته بحذر الاسئلة صبية الساجل (من اين؟) كانت اجابته حكمة: (من ارض تنبت اثارا عذراء تتنقب بالتاريخ، فالماشون على تلك الارض شيوخ حكمتهم مرة.) وان فهمت او لم تفهم. تدري او لا تدري. هي شطيبي والعمر يضيق. (الناس هنا يدرون كثيرا ويموتون من الحزن كثيرا). لقد استهلكه العشق النقي. واصطفى لذاته هذا الغرق في الابيض.

  وهكذا ترجلت شطيبي القصيدة من مجموعته الشعرية (الترجل عن صهوة البراق) الصادرة عام 1975 لتطيرنا نحو فناء الدهشة والامتاع نحو الجمال الحسي بنسيج حميم يعقده العماء بخيط الخلق.

.........................

(1) شطيبي: بلاج ساحلي يعد من اجمل بلاجات الجزائر

View karam's Full Portfolio