زهرة للبحر وأخرى للريح
الذاكرة والابعاد
كرم الأعرجي
قلق الشاعر وسريته في خلق الصور المنبعثة من باطن زمنه المعاش، الطفولة، الصبا، العشق، الشباب ومخاض المتاهات في هذه الحياة.. هي قصيدته التي يتغنى بها.. تارة مرعوبا وحزيناً واخرى فرحاً يشده جمالها، وفي الحالتين لايستقرّ فورانه الحسي، بضيائها، وعتمتها، مصراً كما البحر الذي ينزف كثيراً من الامواج كي يبقى مستمراً باعثا للأمل ومتآلفاً مع الطبيعة ليكون النسيج الجمالي المحسوس داخل هذه الكرة المستديرة بتوازن إنجذاباتها دون الخلل الفيزيائي، وعلى الرغم من العنوان الذي يوحي بالتشاؤم والفناء..
.. وما ديوان الشاعر (حيدر محمود عبدالرزاق) (زهرة للبحر واخرى للريح) إلا علاقة توافق بين الطبيعة والبحر، بصخبها وسكونها، كما للريح دورها في الاستمرار المنسجم مع دلالات هذا الخلق العظيم..
الارض انثاه التي يوسع من خلالها مداه المفتوح على شكل رؤى، وبقلب ندي يصف البحر ظاهراً بالعين وباطناً في حلمه الذي (ينزرع) فيه الحنين الى ذاكرة يعُبُّ من خلالها تجاربه الشعرية، فيفترض لوجوده إنسجاماً آخر مع الحياة.. [ هكذا إنتشر البحر يوماً بأعيننا فانغلقن عليه] بعد غياب صامت وانقطاع خيط الوصل الذي دام بقدر، وحينما يعقد صلحاً مع البحر مستطرداً [ها أنا ذا خجل من عيون النوارس، من هدأة الموج، هاهو ذا يستحمُّ بذاكرتي، ويثير التساؤل] فيحار الفهم من تساؤلاته الكثيرة، متأملاً الوجود كمكان يهزّ كيانه برعشة باردة ومنفياً من زمانه الذي أطفأ ناره العشق وأفق الأمنيات، ليسترسل في كتابة عقوده للصفقات الروحية مستبشراً بحنين اللقاء، لينفض من ذاكرته صورة المصالحة [ثم يجمعنا البحر، هذا الكبير المراهق، يغسلنا ويطهرنا من قديم مخاوفنا..] يبقى حبيس البحر لعمق جراحاته التي أباح مراسيمها بالعزاء الغريزي على مائدة الحزن العميق، مكرّراً لجوءه الذي لا ينفك عن سره المخنوق بهاجس البحر والذاكرة معاً حتى انه اثارني بالعودة نحو ذاكرتي التي أصف بها البحر وجراحاتي التي اوغلت بي منذ زمن عتيق [يابحر ياهذا البعد الازرق، جرب عومك في قلبي تغرق، إغرق، إغرق، يابحر فجراحي اعمق يابحر] ففي قصيدة (اللجوء الى البحر) يفرش مدى الكلام على وجه هيجانه، يستحلب من قاموس الذاكرة حياءه العاشق بنقاء سريرته ليدخل عالمه الخاص في التذكر عبر الزمان.. حبيبته التي رحلت بلا مسافات واقلقته وفعلت مافعلت في تفاصيل حاصلة [أنت عمر مضى، واحاول أن أذكر البحر علَّك تنحدرين الى الذاكرة] وبما أنها سبب مدمّر لحياة الشاعر، أرادها أن تجئ كما الملاك ليبوح بوصفه الجميل [مثلما كنت مغسولة بالصبا] وهذه دعوة للخيال الجسدي لمعشوقته الممتلئة بالسحر والفتنة، وفورة الشهوة الساخنة كما البحر، ينظر من خلال أمواجه وبتوحد رمزي مع من يحب، فيشتعل الكلام بأخطاء أخرى.. ذائباً في خدر مستمر حتى غدت أغلب القصائد بما فيها إهداءاته، إعترافات يحاول من خلالها تنزيه الذات المشحونة بالتذكر، والحب، البحر، منها [يحاصرني البحر، على ابواب مملكة الشعر، واعترافات في حضرة الشعر، وهوية لمملكة الشعر، والشعر] دوامة من الخزين الشعري وكوّة تجرّه الى منفذه الوحيد الا وهو البحر.. بنسيانه، ولجوءه، ولرحلات لايرى فيها سمة للاستقرار..
هذا الشاعر موسيقى ساحرة تهدأ في الغروب وتضجّ بأنغام الصخب امام قمر السماء ولألأة النجوم، حائر ومنقسم، مهمل مثل رسائله السابحة بالوهم [وأتى زمن، اوهمت به نفسي أني لا أبصر في المرآة سواي] هذا المعذب يضيّق علينا الخناق بهدوء اللذّة..
ففي قصيدة (عام آخر) يرخي حبل الخواطر والأكتشاف ليهمس في أذن القراء.. يصحب ذاكرته اليقين، وبايمانه المرتعش، خوفاً من خطيئه [وهو يمشي الى الخلف] قائلاً [ كونٌ طاحونة، يتلقفنا، نتساقط، والأرض تدور.. سبحان الله، زمن يولد من جريان المجهول..]
وهكذا ينزف من ذاكرته الأبعاد والبحر ليغتال زهرته ويطوِ اوراقه المتسائلة بلا أجوبة