PostPoems Be Artistic. Be Creative. Be Inspired!

حبيس الهاجس

داخل مرآة خاصة جدا

كرم الاعرجي

  إستبطان البعد الأكتشافي لدلالات المعنى في الجملة الشعرية لاتقيدها حدود حسية، هذا إذا كان (الباث) متنوَّراً ومسكوناً بشحنه الادراك في تحديد ماهية (الحول) بما فيه من سرية مكانية وفعل زماني دائر ومتسلسل بمعرفية جوّالة في هذا المدار.

فالشاعر وليد طاقة حبيسة في فلك المعاناة المقدَّرة عليه، فكرياً واجتماعياً، وهنا تنبع قدراته المتخيلة من موقع التأمل في (الكيان) لتنسج خيوطاً بيانية مفتوحة الفضاءات في التراكيب، التي تؤدي دورها في الخلق الجمالي، وهذا هو البعد الخارج من إغتراب الداخل التأملي..

فعليه كانت حركة الكتابة جد يده في الاشتغال عند الشاعر (عبدالوهاب اسماعيل) في مجموعته الصادرة عن دار الشؤون الثقافية (هواجس على مرآة خاصة)

الفعل القاسي (تديره) معاناة الشاعر بشكل يرتب المعنى من احداثه الساخنة بقصد عشوائي او بأستفزاز العارف، فلا تكون للتأثير حدودٌ، لأن التشعّب بأشكاله المعاشة في الحياة لاينطوي تحت مؤثر واحد بل مؤثرات شتى كي تأخذ العلائق سياقاتها في خلق حبكة في المخيلة الشعرية، لتجرهُ بعنف اللغة الى عالمه.

ولو جمعنا تفاصيل المفاهيم المنبثقة من وعي الشاعر واختزلنا مافيها من صور متخيلة وكذلك إيهاماته القصدية في حرف المعنى وتسيير بساطة اللغة على المضامين العامة، لوجدنا فيها سحراً يكون الوحدة الموضوعية بين الاشكال النصية ومضامينها في غالبية المشاهد التي تسوقها حرارة الدهشة، في اجواء القصيدة بما تحتويه من كنوزه التي قد شغلته، كالوطن والحب والصبر على بلواه والألفة الصادقة،

ومناخات البعد والقرب بالمكان والزمان ومكابدات الهواجس، (فالسهرة العراقية) تمثل عنده إنتصار الوطن على اعدائه ومرآة من مرايا حياته التي مرَّ بها وعاش طقوسها بمرارة المحارب.. كل قصائد الوطن هي تعبير عن قياس عام تتخلله جرأة الطرح، والجميل في اغلب تحولات شخصيته هو الثقة في جلي الجرأة، للدخول الى عوالمه، ولكن بسكون يباح فيه القلق ليحصل على التفرد في الكتابة عن الحرب، وبما أنه غيّب الخوف من قاموسه تفرد في إختزال جمال الصوره الشعرية بثقة التدبير، كما في قصيدته أخر المطاف [سيكتب غيرك الاسماء، يقطف غيرك الأثمار، يشرب غيرك الاقداح..]

هذا المحارب يعبد طريقه وهو العارف لما يفعله من اجل غد الغير.. وكما يقول الناقد المبدع (جاسم عاصي) في مقالته بين بلاغة التعبير والاشارة، حول موضوع البلاغة بوصفه الدقيق [هي قوة تحويل ماهو متصل باللامرئي او المنظور باللامنظور في الكيفية التي تتم بها الصياغة وبلاغة النقل والتجسيد/ ومايقصده بالاشارة هو الانعكاس المتجسد في فعل لايتصل مباشرة بالفعل الاول/ لكنه يعبر عن حالته]

مثلاً كلمة [سيكتب ويقطف ويشرب] كلها افعال قادمة غير مرئية لكنها متصلة إشاريا بجمل تتشكل، وهذا إنعكاس متصل بفعل الحس المتجسد في الذات، فعليه كانت الدلاله تعبيراً عن حالته دون ربط الافعال ببعضها لكي تكون شكلاً منظوراً، إذن الشاعر متصل في الحالتين ومابينهما.



ليست كل الحالات في فضاء اللغة مبنية على هالة من الاطلاق السائح في الخيال، ولكن تعميق العلاقة بين الخيال وإدراك الواقع، بمزايا مكنوناته، هو الايحاء الشعري الشامل في النص، وهنا تكون اللغة باشاراتها متصلة اكثر والشاعرية الصادرة من (البث) اعمق.

فالهواجس السرية التي يقتفي إثرها الشاعر بلغته البسيطة والتي يحفرها على مرآته فقط، تمثل بثه الخاص في قصيدته (هواجس على مرآة خاصة) وان كانت منشغلة بحوارية خارجة وداخلة على ضمير (الأنا) فأنها تبحث عن معقولية الهاجس في الاحالة/ نحو مايرجه من جمل شتى [مجزرة للموج] و[فتفرّ الى افق (بعيد) لست اراه]، [إفتح في صدرك قدر مرور شظية]، [وانزف]، [عمق وجهك في الصمت]، [خاطرة الجمر]، [اعدل بين النخلة والتمرة والحرَّ القتال] الجمالية بحث صوري يتشكل من خلال قدرة الشاعر على توظيف اللغة بفنية التعبير وسكونه في تكثيف دلالاته الغارقة بالاشارات، وهذا سرّ النجاح في التوصيل.

اما ما يغرفه من فوضى الاوجاع على رقعة حياته (المجغرفة) والمكتظة بالهموم وآلام السيرة عبر زمنه منذ الصبا ومايتخللها من عشق الى ايمانه بالرحيل نحو مثواه، ففي قصائده.

[صبوات متأخرة، وهو الذي يرعى بين السوسن، وداهمني البحر، من يكبح هذا القلب، ويوميات] كلها رحيل في الأنا النرجسية والحب ومايثار فيه من معنى، فصبوته المتأخرة موضوعته الحاذقة في كل الاشياء المخبأة من اسراره، حيث يقول [لو كنت اعلم ماعشقت، فكيف والعشاق ماتوا.. عبروا على جسدي واغنيتي، وانكرني العواذل الوشاة..] ويبقى مخنوقاً بحسراته حتى لفَّ المغزل اساه وفرت منه (دقائق) الحياة، ولو كان يعلم ماسيكون ماعشق، ولاقرأ او كتب، ولا قاد الامنية نحو الطموح، لذا يستطرد قائلاً:

  [فالعمر ضاع، مسحت بالحيطان كفي، واستدرت على عجل.. الشيب في الرأس اشتعل] فالتطابق يسري على أغلب ماتحتويه هذه المجموعة من معاناة الذات في القصائد.

ولطالما يئس شاعري الجميل من كل شيء، أدعوه للصبر العميق وللتسبيح العميق، كي يحلم بهواجس اخرى على (مرآة اوسع) ليرى اعماق الخفاء.