قصيدة النثر
تكويــن جمالــي تناغمي
كرم الاعرجي
الشعر باطن مجازي مثير ومدهش يتفاعل مع المتخيل واللغة بجرس حسي متواتر، فقصيدة النثر دون ذلك لأنها رؤيا مفتوحة متفاعلة، تؤكد على المضمون اكثر مما تعتمد الشكل او حتى العكس، ومن سماتها الجرس الداخلي البديل عن نظام التفعيلة والانساق، بالانسلاخ عن المطروق السمعي الذي أتعب اثارة الحس، وهذا لا يعني نسف الشعر العربي بقاعدته التقليدية (القريض).
الا ان الحديث يقتصر على مفصل من مفاصل الادب (قصيدة النثر) وبما انها صياغة تكوين شمولي لديها الامكانية الفاعلة في التوافق مع وضع الانسان المعاصر بمعناه الحديث ومنها مايعمل على التكثيف، ولها رؤيتها في اختزال الاساطير والموروثات من التراث الانساني لتكوين (وضع تاريخي للحاضر وتراث ادبي للماضي) كما وصفها بشكلها الحديث (جابر عصفور) في مقتطع من (المرايا المحدبة) لـ عبدالعزيز حموده حول مفهوم الشعر، وهذا من جانب رؤيته النقدية، وانا اقول كما يقول (ونكلمان) مبدع الاسطورة اليونانية في الفن التشكيلي (الوسيلة الوحيدة لنصبح عظماء وغير خاضعين للتقليد هي في تقليد الاقدمين) ولكن بمعرفية تتجاوز المألوف بشكل متطور..
هناك شعراء كبار عرفوا كيف يختصرون الجهد الجامع لأبداعهم في محصلة ادبية ذات وعي متنور وشامل امام هالة التطور عبر العصور، هضموا ماتمخض من تواريخ الامم، اساطير وفلسفة وحكمة، هضموا التحولات في حركة الفكر، واتقنوا ببراعة سمة التجديد المستقبلي للقصيدة، ومنهم رواد الشعر العراقي، سوريا ومصر، وبلاد تطون، تمايزوا فيما بينهم، وبرغم التغميض الرمزي الحاصل في قصائدهم كانوا نقيضا ناجحا في احتواء النظريات القديمة ثم تحرروا في الكتابة، وهذا لا يعني أيضا بأنهم نسفوا ارثهم من الادب.. فالفن النثري له مرجعياته التاريخية لا ينتسب الا الى الحضارات والعرب برغم المزاعم بأن هذا النوع من الكتابة غربي الجذور، والرد انيق في ذات الشاعر العربي الذي سكب في اللغة غيث التأصيل معتمدا الشعرية والسرد عند الامام علي (كرم الله وجهه) في (نهج البلاغة)، والنفري، الجرجاني، وابو حيان التوحيدي في (الامتاع والمؤانسة) وكذلك شطحات السر عند الصوفية منها (الطواسين) للحلاج (وفصوص الحكم) لأبن عربي، مستفيدا من مجازات القران الكريم والحديث النبوي الشريف اللذين كانا اعجازا أذهل المشهد الشعري الجاهلي انذاك منورا مدارك جديدة من حيث البناء الشامل، لفلك العقل العربي الدائر والممتد بأفكاره نحو التجديد.. هذا النوع فن مكتنز، مفطور على التحدي والاقتحام من أجل القادم الشعري.. اهم الوظائف التي سلك اعتمادها ـ التعبير ـ التوصيل ـ والتأثير ـ باضافة التخييل، وهذه الحالات نابعة عن صفاء ذهني متوهج بموسوعية معرفية،.. الذي حدث هذه الفورة بما فيها من مخزون سري يتناول مفاهيم وطروحات تضاف للمعرفة.. لأنها كسرت حاجز التقليد من أجل طرح الوعي الاجمالي، قد يصل الى الاشارة في ترتيب انزياحات الحس.. وهذه لمحة حداثة.. لتهتف وتلوح بالواحات الجمالية المفتوحة دون اطواق.. ولكن العوم بفضائها يوجب علينا الاتكاء على الارث التاريخي ومايضاف، ليست الغاية في تحطيم الشكل خدمة للمضمون كما يفهمها البعض، وليس الشتات في المضمون ترميم للشكل، والجرس الحسي مطلوب.. ولو اردنا تدمير أي منهما يفسد الطرح الجوهري.. فعليه يجب خلق توازن بين أصول الجذر الكتابي في الشعرية وعوامل التجديد.. وهذه وظائف غير محددة.. وهنا يقع الكاتب في خانة الفن من أجل التخليق الجمالي لغويا وان تحصل فيها هيمنة للدلالات الغامضة في اجواء النص.. وبمجرد احالتها للفهم تظهر معالم الايضاح مهما كان الغموض سريا.. لأن السر خاضع للكشف، والاكتشاف ملكة حسية نابعة من الفهم وهي وظيفة ايضا تمتلك مفاتيح المرموزات من أجل الوصول الى الجوهر.. وأعرج على ماكتبته في دراستي (فلسفة الشعر حلول متخيل) (ان اي كلمة صادرة من الباطن العقلي هي درجة من درجات الحس، وتكوين الجملة وان تقف على محك غامض فهي موجودة في التخييل، لذا فأن هذه اللحظة الغامضة بالامكان الحصول على مفاتيح فهمها، لأن أقصى الحالات الغامضة) وان كانت غير مدركة فانها ستصبح واضحة اذا مادخل التفكير المتأمل، عالم الذات التي اطلقت هذه العبارة او تلك، هنا يتصاعد الوضوح في مراحل التلقي للبث، وهذه رحلة مغادرة في المحسوسات الجمالية وقادمة من المطلق الشعوري.. فتكون الصور الحاصلة برغم التراكيب المبهمة ادهاشا محسوسا) ولو وضعنا الكون في خانة الحلول المفترض مثلا، حلول الكون في العقل البشري وحلول العقل في اشياء الكون ليس داخلها ولا خارجا عنها، وصف قد يكون دقيقا او مجازيا مقرونا بانفتاح رؤيا البصيرة.. الكون مسخر والكائن البشري قاصر في انجاز هذا التسخير بالكامل الا لمن اذن له عالم (الامر) الهدف من الحلول كتنظير فلسفي هو اجماع اجمالي) في رؤية المتحسس الذي ينظر خلف الفضاءات كي يشاهد ويرى اعماق المدى _ ولكن بانضباط المؤمن _ كي يكون وحدة متكاملة مدركة وكذلك تدركه بخضوعهما للسمو (المتعال) (سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم) هذه الاية العظيمة علاقة اجمالية بين الداخل الحسي وافاق الكون، وبما أنها مرسلة من اشعاع سري تكون خاضعة للادراك، فالشعر يختزل الادراك في خلق اجواء مفتوحة للتشعير الحسي منه واليه، كي لا تضيع متعة الادهاش، وهكذا يكون بوسع الشاعر الذي يكتب قصيدة النثر أن يطهر بفنيته اللغوية مساحات أوسع مما يكتبه، والمحصلة في المنجز الابداعي هو التنقيب والبحث في الجمال لحلق مناخ شعري يحقق الموسوعية المعرفية للكاتب، وبالتالي تتكامل سلطة التناغم في النص بنية ومضمون.. وهذا لا يعني بأنني عدت بأدراجي نحو البيت الشعري القريض الذي نجله احتراما.