الهدوء سر من اسرار الشاعرية المفتوحة على منافذ يظللها الخيال السابح بفناء الذات عند الشاعر/ وهذا ما يثير الصدمة عند المتلقي الذي لا يعي مراد الكتابة الحديثة كأبجدية لا تتكئ على عقافة التاريخ عن الكلام/ وهنا يكمن الضجيج الذي يحرف مزاياه في دائرة الابداع، وصلتني مجموعة شعرية صغيرة مكتوب على غلافها (خارج الضجيج) لكتابها الشاعر (حميد عبدالوهاب) وهذه المجموعة تحمل بين طياتها عشرة قصائد تختلف بمضامينها الدائخة في المدار النفسي لشخصية الشاعر، المفتاح لهذه القصائد المنسوجة من الم الوحدة والوحشة والحب والانهيار، هو امرأة تئن بها مواجعه الراسية بمحاذاة مينائها الجغرافي الفاتن بالجمال، المرأة بحسبانه هي البحر الذي اغرقه في المتاه لهذا كان يبحث عن زاوية تظلله بالامنيات ليرفل بنعمى الجمال وليغتسل بماء البرد الانثوي الذي يجلو مرايا خلوته العاذقة بالوهم والوهن الذي يخالجه، وكل هذا الشعور المخنوق بعبرته السرية جاء مأخوذا باطياف من معاناته وتجاربه في اختزال معانيه في اغلب نصوصه الحسية التي رسم معالمها في النص، ولانها مخزونة في اي متخيل بشري غير (مصدر) لكنه استطاع ارسالها عبر لغة شفافة اثيرية تستحق التأمل.
وبدوري قارئ ارسل بعضا من مقطعاته الشعرية التي تبث لنا قدرته على فصلنا من الشكل الجسدي للحظات في التأمل ففي قصيدته (كان صديقي) يلوح بالتوافق بين اللون الذي يرتديه وهما وبين اللون المجاز للزمن الذي يعيشه حيث يقول (يلبس لون الايام) وهنا يختزل المرايا المتعددة لوجه صديقه الذي ضاعت خطاه على الدرب وهنا فضح معالم صديقه ولكنه فضح لون الايام ايضا فكان الانطباع مقرونا بضياع الالوان في سرية الشاعر بحيث انه لم يوفق في حرف الصورة واعطائها موقف التضاد ليخلق الدهشة والانحراف من اجل المغادرة.
وفي قصيدة (غربة) تغزو الثرثرة في الكلام لا يتفق مع ابجدية الموقف تجاه الحياة ليقول (اعرف ان الثرثرة على الشرفات، لا تمنح خبزا للفقراء) وهنا يتهم نفسه بالاخفاق دون تعبير عما يجول بداخله، وبلا توجس يشهر سيفه (اللسان) بوجه ذنوب الشعر الذي ورثه مستطرادا (ولا تمحو ارزاء الشعر الموروثة) هذا الرافض المأخوذ بالابعاد يلوح بنشيده المجازي ليقول: (اليوم ابدل جلدي).
مجرد التفكير بالقادم او آنية اللحظة هو انسجام معرفي يتفاعل مع سكونه في هذا الضجيج المحدق بالوجود، اذن هدوءه كان ضجيجا لا يطاق ولكن خارج الصمت، حتى انه اسلم مخيلته للتحليق بفضاءات جعلته يعبر بتراكيب (جملية) منثور بداخلها عالمه الشعري حيث يقول في مقطع جميل من قصيدته (عندما لا تصوم الهواجس) (وضع رأسه على سرير غائب، شرعت فراشات الحلم، برقصتها النادرة على نغم خجول).
هذا الشاعر الموزع بين ماضية وحاضرة واستشراف مستقبله الشعر في يتنطط على سلك مكهرب بامنياته المرة من اجل خلق تجربة متفردة لعالمه الادبي وكل هذا القلق جاء محصورا بين اللاشعر وشعرية المتخيل والشعرية حتى انه علق الفكرة في قصيدته (خارج الضجيج) قائلا (فشق مبتسماً كفن الخمول) هذا لانه لا يحسن الانتظار لذا كان مثقلا بالاحمال التي لا تسر بحثه في الكلام المطرز بدلالات خاسرة. فعاد الى انعكاس صقيل ليهرب في الفراغ قائلا (اللوحة كفٌ بيضاء، تحمل مرآةٌ، تغرق فيها اشراقة وجه محجوب). وهنا ينصرف نحو الصفاء الروحي ملتزما كما العابد بطريق اكثر اختصارا للمسافات محموى بمسرة الايمان في مقطعه (تشوه) (اغسل قلبك قبل النوم، حتى لا يتشوه وجهك) وهذه اشارة شعرية متأخرة في ذات الشاعر. وهنا اقول من لا يتقن التمرد لا يتقن الشعر، فالتمرد والشعر كلاهما اشارة شعرية.