قراءة في رواية «الصندوق الأسود» لكُليزار أنور
موسى إبراهيم أبو رياش
«الصندوق الأسود» كعنوان للرواية عنوان مدهش، وهو بحق عتبة مميزة للنص، بل ويتيح للقارئ إطلالة واسعة على الرواية، فالرواية الإلكترونية عبارة عن صندوق أسود يحوي أسراراً وخفايا وعلاقات تتكشف في أثناء الرواية لتطلعنا على أحداث ومواقف تفسر كثيراً من الأمور، وتوضح ما خفي من المعميات، وتظهر ما بطن. وهو في ذات الوقت الصندوق الأسود لانفجار العراق المدمر الذي كشف العديد من المؤامرات والأحقاد والمطامع!
رواية "الصندوق الأسود" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت، ط1، 2010) روايتان في رواية، فالرواية الأم (الحاضنة) التي احتلت الفصول (1، 2، 3، 4، 6، 8، 10) في 45 صفحة جاءت كالإطار الجميل للرواية الرئيسة الإلكترونية (المحتضنة) التي احتلت الفصول (5، 7، 9) في 106 صفحات. فالرواية التي جاءت على شكل ملف إلكتروني blackbox هي الأساسية، وهي ما تهدف الكاتبة أن تطلعنا عليها، لأن فيها كشف للمستور، وتوضيح للمخفي، وهي بالتالي تسعى للتطهر من همومها وتجربتها المؤلمة كما أشير إلى ذلك في حفلات التوقيع والتكريم للكاتبة.
الثيمة الرئيسة التي احتلت معظم صفحات الرواية الإطار هي حلم الأمومة، هذا الحلم الذي يطارد معظم النساء، فمهما كانت حياتهن سعيدة ورغدة فإنها لا تكتمل إلا بطفل يملأ عليها حياتها، ويبقى الطفل الحلم محور حياة كل امرأة حرمت هذه النعمة، وسيبقى هاجسها وزائرها الحبيب في كل منام، تحاول أن تحققه ولو بالخيال أو الكتابة أو حديث النفس!
أما الرواية الأساسية فقد جاءت في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول (ما قبل) عرض لنذالة ماهر الذي لعب بعواطف "تيجان" ومثل عليها دور المحب العاشق، وهو في الحقيقة يمارس دوراً قذراً عندما راهن على اقتحام حياتها مقابل 100 دولار لبعض أصدقائه، وعندما اعترف لتيجان عبر قرص مدمج CD بعد أن ترك العراق، صدمت لهول الخديعة، وكادت أن تكفر بالحب والمشاعر الإنسانية، ولكنها تماسكت ونفذت "خطة التغيير والتخطي" لتتخلص من آثار هذه الخديعة ورجسها، بل وجعلتها عتبة للترقي والترفع عن آلامها وجراحها.
الجزء الثاني (المفكرة) عبارة عن يوميات الحرب على العراق حيث بدأت اليوميات من تاريخ 17/3/2003 وانتهت 8/5/2003 وتناولت أحداث الحرب على العراق والدمار والخراب وأحوال الناس، وكأن هذه الحرب اللعينة على الوطن الأم جاءت لتنسيها حربها الصغيرة مع ماهر، أو لتعمق الجراح، فبعد أن كانت جراحاً شخصية، أصبحت جراح أمة كاملة تنوء تحت ثقل الكارثة والتشظي والصراع!
الجزء الثالث (ما بعد) يتحدث عن أحد أقاربها "ريّان" الذي يعمل مهندساً للبترول في دبي، وأعجب بها من خلال كتاباتها، فعرض عليها الزواج فقبلت، وسافرت معه إلى دبي على ظهر سفينة تمخر عباب الخليج من ميناء البصرة حتى دبي، وهناك عاشت أياماً جميلة رائعة مع "ريّان" الذي أحاطها بكل الحب والحنان، وعملت محررة في مجلة "ياقوتة الخليج" وكتبت عن قصتها مع ماهر باسم مستعار فتجاوب ماهر مع القصة وأرسل إليها يعبر عن تشابه قصته مع القصة المنشورة، بل وتطوع مكملاً قصته التي لا تعرفها "تيجان"، وتكتمل حياة "تيجان" في دبي بطفلها "بيار" الذي رزقت به بعد طول انتظار!
رواية "الصندوق الأسود" زاخرة بالقضايا والهموم والإشكالات وكل ذلك بإشارات عابرة أو تلميحات ذكية، لكأنها تؤكد على حقيقة أن الهموم الفردية تتشابك مع هموم الوطن والأمة، ليتحد كل ذلك ويسحق المواطن العربي المغلوب على أمره، الذي يقع تحت سلطة لا ترى في المواطن إلا رقماً أو دافع ضرائب فحسب، أو مشروع جندي يقاتل لتحقيق أطماع وأحلام المستبدين!
فقد تناولت الرواية الفساد على الحدود وضرورة دفع الرشوة لختم جوازت السفر على الحدود العراقية والحدود السورية، وتعرضت لتحول الطب إلى تجارة واستغلال، وإلى أحلام الفلسطينين في مخيم اليرموك بالعودة، ونبشت مشكلة الطائفية العراقية حتى في دمشق، حيث يسكن سنة العراق في حي "جرمانا" ويسكن شيعة العراق في حي "السيدة زينب"، وتشير إلى انكسارات الرجولة التي جاءت تبحث عن طفل في العيادات الطبية، كما تصور حالة الناس في الحرب وتكالبهم على تخزين المواد الغذائية والأدوية والوقود تحسباً لأيام الضنك.
ولعل من أهم القضايا التي تناولتها الرواية مسألة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، فهي لم تلعنه ولم تقدسه، فصدام الذي أفنى ثروات ومقدرات العراق في الحروب، حرم العراق من أن يكون دولة متقدمة متطورة، وكان الناس يسارعون لتقبيل يديه وتمجيده أيام عزه ومجده وقوته، سرعان ما انقلبوا عليه ولعنوه عندما سقطت بغداد. ورغم ثلاثين سنة من حكمه الديكتاتوري إلا أنها كانت أهون مما تلاها من صراع وتفتيت وسرقة ونهب للمال العام وفوضى تعم البلاد تحت أنظار المحتل الأمريكي، وتؤكد حقيقة مؤلمة أن صدام حسين كان عادلاً "نعم عادلاً في شيء واحد، في ظلمه لكل العراقيين.. ظلم العرب قبل الكرد، والسنة قبل الشيعة، والجنوب قبل الشمال.. كان سيفاً لا يعرف الرحمة..لم يسلم من ظلمه أحد، حتى أولاده."(121) وتضيف :"في السابق كان هناك صنم واحد وصورة واحدة وحزب واحد.. واليوم مئات الأصنام، ومئات الصور.. زعماء بالجملة! كنا مرعوبين من شخص واحد هو وزمرته واليوم الخوف من الكل!"(121). وتؤكد حقيقة مؤلمة: "كانت هناك صورة واحدة تتوزعها الدروب والمنعطفات. كان هناك صنم واحد وجدارية واحدة لا تخلو منها دائرة من دوائر الدولة، ولا ساحة عامة إلا مُتبركة بهما. وسقط الصنم واحترقت الصور وهشمت بأظافر أناس تحلم بالحرية، لكن بدل الصورة ظهرت صور جديدة بلحى وبدونها. وتمزق الوطن بين مذاهب وقوميات، الكل يدعي بأن له الحصة الأكبر في هذا الوطن الجريح الذي لم يبق منه سوى الأشلاء.. أشلاء وطن كان يدعى العراق!"(96)
وهي لم تخف حزنها يوم إعدام صدام حسين صبيحة عيد الأضحى المبارك: "رغم كل ما فعله بنا وما أوصلنا إليه، إلا أني حزنت وتألمت لمصيره هذا.. لقد جعلوه ضحية العيد، كأي كبش يُذبح!"(25) ومما يلفت في الرواية بعض النقاط المضيئة التي تزيد الرواية تألقاً ورونقاً، بل وجعلتها أقرب إلى القلب والوجدان؛ فالصلاة والدعاء قبل الدخول إلى العملية موقف روحاني جميل يريح النفس، ويزرع الأمل، ويربط الإنسان بخالقه وخاصة عند الشدائد (10). والأمل يبقى هو الراجح رغم الحقيقة المحبطة "من خلال تداول الحكايات، فإن أغلب الأجنة فشلت في التخصيب، لكن الأمر مستمر!"(30) بل إنّ إحدى نساء السليمانية خضعت لعملية التخصيب للمرة الثالثة وتؤكد : "لو فشلت سأحاول إلى آخر يوم في عمري."(148) وتصر "تيجان" على العناية بالنباتات والزهور في حديقة البيت رغم الحرب المستعرة والصواريخ التي قد تدك البيت في أية لحظة. كما تتناول الرواية موضوع المقاومة العراقية فتقول: "يبدو أن الحرب ستطول، وليس كما توقعوا لها، مجرد أيام وكأنهم أتوا إلى نزهة. المقاومة شديدة من جانب العراق.. وليست المقاومة حباً في الرئيس صدام حسين، بل هي مقاومة من أجل الكرامة والكبرياء والعيش بعز دون احتلال.. المقاومة من أجل عيون الوطن!"(75).
ومما يثير الانتباه في الرواية ذلك الكم الكبير من الروايات والكتب والقصص التي تشير إليها الرواية في ثناياها، وتعرض بعض محتوياتها؛ لتقدم للقارئ وجبة أدبية متميزة، وتشكل دعوة صريحة له لقراءة تلك الكتب، ومن هذه الكتب والروايات التي أشارت إليها الرواية: "يوميات الواحات" لصنع الله إبراهيم، ورواية "اسمه الغرام" لعلوية صبح، ورواية "جودت بيك وأبناؤه" لأورهان باموك، ورواية "ميرامار" لنجيب محفوظ، ورواية "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي، وروايات أنطون دي سانت إكزوبري، وقصة "الحوذي" لتشيخوف، وكتاب "جمهورية الصمت" لسارتر.
لغة الرواية رائعة وجميلة وفاتنة، ذات صياغات راقية وبناء محكم دقيق، يغري القارئ ويغويه بالقراءة والمتابعة حتى النهاية، ولا يملك القارئ الواعي إلا أن يتوقف متأملاً عندما يقرأ بعض العبارات والمقاطع الجميلة مثل: ويبقى الأمل قارة نتمنى أن تطأها أقدامنا، الكتابة والحلم مرادفان متداخلان من معنى واحد عندي يمنحاني افتراضاً بأن الكتابة حياة، الحب ليس أرجوحة يتجاذبها طرفي نقيض بين الممكن واللاممكن .. إنه هدية تأتيك دون مناسبة .. منحة تقذفها السماء بين يديك .. مصادفة تقلب حياتك رأساً على عقب، حتى العواصف لها مواسمها، القذارة توجد حيث يوجد الإنسان، الكاتب يتطهر بالكتابة، الضوء لا يشع في الضوء .. فقط في الظلمة، الكتابة مطر الذاكرة، الفراق هو الوجه الآخر للقاء .. والنسيان هو الوجه الآخر للذاكرة، عندما تحل الكوارث في الحياة، فإنها لا تحل واحدة واحدة .. بل مجتمعة، الحرب متاهة تتمادى، حتى الأشجار تنحني للعاصفة، الحرب.. ذلك الكابوس الطويل.. دهليز يقودنا إلى آخر.. لتتشعب الدهاليز إلى متاهة لا تعرف كيفية الخلاص منها، الحرب.. لوحة قاتمة.. كئيبة مرسومة بالفحم الرمادي.. عالم خشن.. متوحش خاوٍ حتى من العزاء، الحب هدية تصلنا في وقت لم نكن نتوقعه.. الحب لا ننتظره في محطة.. إنه يأتي مباغتة دون أدنى تهيؤ، الحب شلال يجرفنا نحوه وينحدر بنا إلى أبعد نقطة في اللامعقول، لا تغرك الثياب الأنيقة.. فهي تغطي تمتثيل معطوبة من الداخل، المرأة الذكية تثير الإعجاب ولا تثير الشفقة حتى في حزنها لها كبرياء الملكات، الصدق هو ما نقوله من تلقاء أنفسنا.. لا أن نكون مجبرين على الجواب، المغامرة –أحياناً- توصلنا إلى مرافئ ما تصورناها حتى في الخيال، أوراق الحب تتساقط ذابلة أما هبوب رياح الغدر، الإنسان كنافذة زجاجها ملون.. من الطبيعي أن تتلألأ في النهار.. لكن حين يحل الليل يظهر الجمال الحقيقي فقط إذا كان هناك ضوء يشتعل من الداخل، الانتظار ممل ومخيف وخاصة إذا كنت تنتظر نتيجة تحدد أيامك الآتية.
يؤخذ على الرواية هذه العلاقة النموذجية المثالية الحالمة بين "تيجان" و"ريّان" والحياة الرغدة الهنية، فهي حياة لا تكون إلا في الأفلام ولا وجود لها في الواقع، فمن حب من خلال الورق، وموافقة على الزواج بعد إعجاب وتآلف، إلى حفلة زواج جميلة، وسفر حالم على ظهر سفينة، إلى دبي المدينة الجميلة النظيفة المنظمة، إلى المنزل الفسيح الرائع، إلى الزوج الخيالي الذي يفيض رقة وعذوبة وحباً، بل وعندما يصيبها بعض الضجر يأتيها عرض لا يرفض للعمل في مجلة، وتكتمل بهجة الحياة بطفل يملأ عليهما الحياة ويحولها إلى جنة صغيرة!
وبعد، فرواية "الصندوق الأسود" رغم صفحاتها المحدودة (157) إلا إنها مكتنزة بالأحداث والأفكار والهموم والتنوع والثراء، وتكشف عن كاتبة مثقفة، صاحبة حكمة وتجربة، تمتلك أدواتها الإبداعية وتوظفها بكل مهارة واتقان، وهي رواية تستحق القراءة لأنها بحق ممتعة جداً، وتحترم عقل القارئ وفكره ووجدانه!
ملاحظة: صدر للكاتبة العراقية كُليزار أنور: مجموعتان قصصيتان هما: "بئر البنفسج"1999، و"عنقود الكهرمان" 2006، ورواية "عجلة النار" 2003.
mosa2x@yahoo.com
نُشرت في مجلة (الكلمة) اللندنية العدد (59) اذار/ 2012