الصندوق الأسود: المرأة وسلطة الرجل
ياسين شامل/ البصرة
رواية الصندوق الأسود للكاتبة كليزار أنور، دون أدني شك تنتمي للسرد النسوي، بما تختزن من دلالات، و ما تمتلك من تخيلات سردية، و هي ليست بمنأي عن الكتابة النسوية، بل هي في صميمها بما يترسخ من الحيثيات وما يطفو من الإشكاليات، حيث تتناول في العموم موضوعاً إنسانياً يخص المرأة، لكنه لا ينأي عن هموم الرجل. هذا الموضوع يرتقي إلي مشارف العلاقات الراقية و الأحاسيس المرهفة. و بأي حال من الأحوال، فأن الرواية، ما هي إلا استجابة للوعي الأنثوي المتنامي، و محاولة جادة في الخلق الإبداعي.
المرأة هي الشخصية البارزة في أحداث الرواية، لكنها تبقي قابعة تحت سلطة، الرجل وليست المرأة المتمردة، و هذا الأمر لم يأتِ دون مبررات، و إنما جاء من خلال رؤية الراوية بصورة إرادية أو لا إرادية، لكونها بنت واقعها المعاش، الذي تحدده العادات و التقاليد التي تحيط بها منذ التصورات الأبوية للمرأة إلي الوقت الحاضر كواقع حال لا مناص منه.
أن هذه الرواية لامست تفاصيل الحياة القاسية التي مرت علي العراقيين من كافة الطوائف و الأعراق، و عكست صورة المعاناة، و مآسي الاحتلال، و لوعة الاغتراب، و فقدان الأمن و الأمان تحت سطوة الأنظمة الشمولية السابقة و اللاحقة. تعري كل تلك الأمور بأسلوب متمرس من خلال سرد مأساة إنسانية لا تخص الراوية فحسب، بل تخص الكثير من النساء، و التي تعتبر مشكلة كبيرة للمرأة في ظل مجتمع لا يستطيع مغادرة حكمة الأسلاف، و تشريعات الأحفاد.
علي العموم، من خلال قراءة الرواية، و التأمل في بعض نصوصها، قد يحق لي أن أبوح ببعض المآخذ دون كتمها، و أتمني ذلك أن لا يثير الأسي، بل يدلف في حيز التفكير و التأمل أن لم يقع في مشغل القبول.
تيجان الشخصية المحورية، نراها بقيت تدور في فلك سطوة الرجل و قراراته حتي فيما يخصها، و الأدهي أنها تبقي أسيرة لسلطته، و انتحالها أسم ذكوري (شهريار). و أن كانت هذه لعبة فنية لها بعدها.
و في التفاصيل الدقيقة استشف أن هناك تحيز نسوي مفرط لصالح الأنثي، و كأن الأنثي لا تقترب منها الخيانة و لا تقترب هي إليها، كذلك نقض العهد، و غيرها من الصفات، يرافق ذلك تجنـّي يطال الرجل، و الراوية تروي برؤية (الراوية العليمة)، و حتي شخصية ريان، فهي شخصية طوباوية تنفي حقيقتها ضمنياً، و في الرسالة الأخيرة لماهر محمود المقيم في السويد تعطي السمات الرقيقة الطيبة لتيجان (المرأة)، و الصفات القبيحة لماهر (الرجل).
حقاً، أن الراوية و تيجان متشابهتان كما مصرح به في الرواية، حيث تتداخلان في نفس الهم، و أية امرأة أخري بهذا المستوي من الوعي و الثقافة، ففي ص 152 تكيل المديح لرواية علوية صبح (أسمهُ الغرام)، لكنها تعطي رأياً (لكن ما يأخذ علي الرواية وشاح الجنس و العري و الزنا)، الجنس أمر فعال في حراك الحياة و الوجود، و تقول (قد أكون مخطئة)... لماذا !!، وفي ص 153 (كتابنا العرب ما زالوا أساري لما هو تحت الحزام)، لكنها لم تعطِ مثالاً لذلك، رغم أن الكثير من الكتاب العرب يتهيبون الدخول في هذا الحيز المحظور. لماذا الراوية تروم مسك المآخذ علي الكتـّاب لو دخل أحدهم هذا المضمار و أجتاز خطوطه الحمر؟. لا أعتقد أن الراوية لم تقرأ كتباً و روايات علي سبيل المثال : عشيق الليدي تشارلز / د.هـ. لورنس، مدام بوفاري / فلوبير، أنا و هو / ألبرتو مورافيا، و في - دلتا فينوس / أنانيس نن -، من العنوان علي الجلاد، ومن الجلاد إلي الجلاد، ماذا نجد في هذا الكتاب و غيره، لماذا هؤلاء أعلام شامخة في عالم الرواية و الأدب؟، طبعات هذه الكتب تنفذ من الأسواق، و في أسواقنا بالأخص، و نقبل عليها بنهم، و ربما النساء قبل الرجال، و كتابنا تضايقهم حدود القهر. يصدر هذا التجني من أشد الناس التصاقاً بالثقافة (الراوية).
و في الرواية أجد مثالاً بائساً للمرأة الغربية من خلال أم ماهر التي تركته و عادت إلي بلدها، و المرأة التي تزوجها و التي تكبره بخمس و عشرين سنة من أجل مصالح دون الحب و العاطفة. تري ماذا عن حرية المرأة في الغرب، و لا أدري ما هو النموذج المقبول في التطلع إلي الحرية الحقـّة هل هو لدي المرأة الشرقية؟، أم لدي المرأة الغربية؟ و الجواب يكاد أن يكون محسوماً من وجهة نظر الراوية لا من وجهة أخري.
في الأخير أن الرواية جديرة بالقراءة، كونها تجاوزت مأساة العقم إلي ولادة أخري و من نوع أرقي، تحلق ما بين الكتابة و الحلم في معني واحد في عالم وسماء واسعتين.
نُشرت في جريدة (الزمان) العدد (4130) الصادر في 23/ 2/ 2012 طبعة لندن