(الصندوق الأسود ) لكليزار أنور .. سرد الانثى بين الكتابة والحلم
سمير عبد الرحيم أغا
هناك أكثر من فرق بين الراوي الذي لا يعد شخصية في نطاق السرد ، وبين الراوي الشخصية في نطاق السرد ، وبين الراوي البطل ، وعلى هذا النحو تصبح الشخصية الروائية حينئذ دال ومدلول في الآن ذاته ، ونتيجة لهذا الاهتمام فقد وجدنا " إ م . فورستر " يرجع ميزة الرواية إلى أن الكاتب يستطيع أن يتكلم عن شخصياته ومن خلالها.
في لغة شفافة ، لغة تجمع النقد الساخر والهجائي حينا والمتسائل حينا آخر ، تكتب ( كليزار أنور ) روايتها الجديدة ( الصندوق الأسود )1 جامعة بين قضيتين أساسيتين ، الأولى هي الحب ، الأمومة ، الرجل ، المرأة ... بكل متعلقات هذه العلاقة المعقدة من خيانة وشوق ألخ .... والثانية هي الاحتلال الذي يعيش هذا الحب في ظل حرابه وحواجزه ، وآثاره المدمرة لروح وبنية المجتمع العراقي وعلاقاته .. الدينية والاجتماعية منطلقة من ثنائية التخلف والطغيان ، ومن أن مقاومة التخلف تساوي مقاومة الاحتلال أو تسير بموازاته
الراوية ( كليزار ) هي المرأة وهي الزوجة.. المرأة تؤمن بالحضارة والعولمة ، وهي التي تقول " كان ارتباطي عن طريق الانترنيت " وهي التي تقول أيضا " أيعقل !وهل يحسم مصيري بهذه البساطة ؟ انتظرت عمرا كي أختار الشخص المناسب " وبعدها قررت أن تترك البلد خرجت من وسط الموت عصفورا ، لتجد أسرابا من ألاجئين عند دمشق ، تبحث عن حلم الأمومة ( بقي حلم الأمومة يراودني ويعاود ذهني باستمرار ) .
هي امرأة عراقية من مواليد نينوى وهي " كاتبة وصحفية " تحب الكتابة تتزوج من زميل لها في المهنة في فترة من الزمن .. زمن الاحتلال ودمار البلد .. ثم هربا إلى سوريا بحثا عن الأمان والأمومة... التي لم يسعدها القدر به ، بعدها تتلقى رسالة عن طريق ألانترنيت من مجهول كان يحبها سابقا أسمه ماهر ,
رواية كليزار متداخلة في قصتين ، عبر صيغة الرسائل ، وهو أسلوب طالما أستعمله الكتاب في رواياتهم ، تتحدث .. عن أحوال المرأة العاطفية والروحية والنفسية والاجتماعية ، وتقلباتها في علاقاتها مع الرجل ، فهو خطاب تبث فيها الراوية شكواها وتشرح تفاصيل أيامها ولياليها، بل ساعاتها وثوانيها ،بوشاح من الأسى ، فيما هي تراوح بين رغبة الأمومة ورغبة الهرب من الموت الذي يحيط بها ، رسالة أخرى تنطوي على أسرار " تيجان " وقلقها وضياعها بين رجل في لحظة وكرهه في لحظة أخرى ، وبين كونه شهيرا تطارده الفتيات عدا كونه يعرفها من كتاباتها . هذا الالتباس في العلاقة مع الرجل يوازيه في العلاقة مع الاحتلال ،التباس في الهوية لامرأة تعيش في هذه البلد ، يحضر هنا الرجل وسلطة الاحتلال معا .تقول الراوية -في يوميات الحرب ص 77 :
الخميس 27/ 3/ 2003 " لا جديد سوى القصف على بغداد والموصل والناصرية والبصرة وحصيلة الشهداء( 350 ) شهيدا و(0 400) جريح إنها الحرب ولا بد أن يكون هناك ضحايا ، اليوم جلست لكتابة قصة جديدة .. وكتبت بعض المقاطع من روايتي ، وربما تكون هذه اليوميات جزءا منها " . لكن رغم هذه الظروف تمتلك القدرة على الحلم خارج هذا الجحيم الملتف ، ثم تقول " كليزار أنور " ( ودعنا الوطن بعاصفة ثلج قوية تدفعنا بتأشيرة خروج سريعة ، وانتقلنا إلى الطرف الآخر - الطرف السوري - الحدود .. مجرد سياج إسمنتي يفصل بين دائرتين .. وهدأت العاصفة .. وانقطع المطر .. استدرت لحظة ونظرت عبر ذاك السياج وقلت في نفسي : حتى السماء ما عادت رحيمة معك وختم على جوازنا بتأشيرة الدخول " ) ، أسئلة كثيرة تأتي في صورة سرد محكي عن موتنا القادم ويروي لنا عن صوره المختلفة ، أو هي نوع من التداعيات الحرة للكلمات والعبارات تصور الذات المشوشة لامرأة الرسالة ولرسالة المرأة ' المرأة التي ترى ماضيها على رسائل الانترنيت وتراه في ظل الاحتلال أو في التوازي معها , لتعود امرأة الراوية تسجل يومياتها مع ذاتها في كتابة الحلم .. حلم حرمان وحسرة شاءه القدر عليها ، حلم أن تكون أم ، ومع السفر وصندوق البريد وحواجز الموت التي تقطع الوطن " أي زمن نحن فيه .. وأية قسوة .. علينا أن نرصد زمن الانهيار .. انهيار الوطن وسقوطه في بحر الاحتلال من جديد !"
تقول كليزار على لسان روايتها - ريان .. وضع قلبه على كفه وقال لي : تفضلي . في زمن لا تجد من يمد إليك يده حتى وهي فارغة ورغم كل الإقصاء قادني إلى غابة بعيدة لكنها جميلة ليست بأشجارها المثمرة بل بسائر تفاصيلها الدقيقة ، وريان هو أحد أقاربها شاب في الأربعينات من عمره فاتحها بموضوع الارتباط دون مقدمات " بهذه الطريقة تتزوج تيجان من ريان وتغادر بلدها ، وتعود إلى الكتابة . وأن تصل رسالة من ألماض ..ذات الشخص الذي تعلق بها يوما ما إلى حد الجنون " لم أتوقع ولو للحظة أن تصلني من ماهر رسالة ! قلت مع نفسي بسخرية ونشوة أنثى : يكتب لشهريار وهو لا يعلم من يختبئ وراء اسمه ، قدره أن يعيش معي بحماقة ! ليسرد لها حكاية حبه وبقية حياته من الولادة إلى حياته الحالية في السويد .
وفي انتقالها بين حلم الأمومة وماهر وريان تظل تيجان تتقلب على نار أنوثتها في العلاقة ، فيصف ماهر حياته " سافرت إلى السويد وتزوجت من ديانا - امرأة تكبرني بخمس وعشرين سنة كي أحصل على حق الإقامة وألان أعيش ممزقا .. لقد تحولت إلى جثة تمشي على الأرض! "
هي رواية تستحق القراءة في هذا العصر المليء بالفضائيات , هذا العصر الذي يفرض نفسه عبر قنوات تحرك غرائزه ، هي رواية يمتزج فيها الحسي بالمعنوي امتزاجا عضويا نابضا بالتوهج الجمالي ، والكثير من التفاصيل التي تؤثث بها كليزار روايتها من شوارع نينوى . إلى شوارع بغداد , شوارع دمشق . دبي , في ظروف متعددة منوعة ... في أساليب السرد والتأمل والتداعيات والرسائل والاستشراف لما هو قادم لتؤكد حضورها في الزمان والمكان ، ومفكرة الحرب تؤكد مصداقيتها ، في " الصندوق الأسود " نجد الكلمة الشفافة , والحس المرهف ، والنغمة الجميلة ، والرمزية الموحية ، والشاعرية المبدعة ، فحيث تعتكف في محراب قصص وروايات (كليزار أنور ) تجد نفسك معتكفا مع كاتبة من كتاب الوجود الحقيقي