دراسة القاص أمجد توفيق عن مجموعة بئر البنفسج

كليزار.. بين رائحة البنفسج وظلام بئره
أمجد توفيق
تسع قصص جمعتها كليزار أنور، وأصدرتها دار الشؤون الثقافية العامة في السلسلة القصصية (ثقافة ضد الحصار).
رائحة البنفسج لا بئره نشمها بوضوح عبر رحلة مضرجة بالمشاعر والبوح الهادئ، والشفافية العالية التي تغمر قصص المجموعة، وتشي بميلاد قاصّة أمامها أفق مفتوح.
إن الكاتب عموماً ينتظر صدى تجربته، وهو يرغب أن تكون إعجاباً أكثر من رغبته في كشف جوانب الخلل والقصور في عمله.. وهو لا يعلن ذلك وقد يعلن العكس، لكنه يرغب في الإعجاب.. في تناولي لقصص الشباب انطلق من موقف التعاطف والتفهم لرحلة العذاب والدهشة التي يكابدها أي كاتب.. وأنظر إلى طريقه المجهول نظرة من يحاول بصدق وإخلاص أن يمده بنور ولو شمعة واحدة.. وفي حالة (بئر البنفسج) فإني أتعاطف مرتين: مرة للشباب، وأخرى للمرأة.. ولي جرأة أن أعلن ذلك بوضوح..
هل يعني ذلك حرق البخور لها؟
هل يعني غض النظر عن مواطن الخلل؟
لا.. إنه لا يعني سوى التفهم، ولا يستهدف سوى الفائدة.. فائدة الكاتبة..
أقول: إن كليزار تتوفر على موهبة، لكنها تحتاج أن تتجاوز السهولة، والتسرع، وعدم الدقة.. إنها تحتاج التأمل.. تأمل الفكرة، والحدث، والتناول.. فثمة زحام كبير ينبغي أن ينظم كي تستطيع ريشتها المضي في مهرجان اللون والعاطفة.. وتجعلنا نستمتع فعلاً برائحة البنفسج أكثر من النظر إلى ظلام بئره..
الفراشة
عزف هادئ حزين.. نشازه تعبيرات سريعة.. كم كنت أتمنى لو استطاعت الكاتبة أن تراجع ما تكتب وتحتفظ بمعجم ينير لها عتمة الكلمات..
إنها تقول: داهمني حزن طفيف.. لقد مزقته أشلاء.. يا لقساوتي.. ندمت..
كيف يكون الحزن طفيفاً وهي تمزق كائناً وتندم..
وتقول: لا أريد أن أكون سبباً في موت أحد.. حتى ولو كان فراشة..
فراشتها.. رمزها الجميل.. تستهين به وتسبقه بـ/ حتى لو/
وتقول: دونته بطريقة ديناميكية بحتة..
فإذا ما تساهلنا في استخدام مصطلح أجنبي، لا يمكن أن نتجاوز المعنى.. إنها تقصد طريقة آلية فاستخدمت مصطلحاً بمعنى معاكس..
القصة: جميلة، هادئة، موحية لولا النهاية غير المقنعة.. فهي أساءت إلى الرمز عبر تفسير ساذج..
في آخر يوم
في هذه القصة تؤكد كليزار امكانيتها ككاتبة.. مشاعر وبوح يقودنا إلى لحظة الصدام.. وهي لحظة فيها من المفارقة ما يشبه الكذبة، وفيها من الكذب ما يشبه حقيقة عارية..
ما هذا التناقض..
كاتبة مثقفة ترتبط بعلاقة حب مع شاب، وتفشل في معرفة دواخله، فتقرر إنهاء العلاقة، وكتابة قصة حولها.. يقرأها الشاب فيصدم.. يحاول العودة، وتحلم الكاتبة بعودته وهي تراه.. لتنهي بطاقة سفر الحكاية كلها..
لماذا يحدث ذلك؟ وكيف يختفي جمال الأسلوب، ورقة المشاعر، وثقافة كاتبة لم تستطع فهم حبيبها.. كيف؟
الوجه الآخر للقمر
قصة مقنعة.. نلمس خلالها تماسك الكاتبة، وضوح أفكارها، قدرتها على رسم مجسة موحية، والأهم الصفاء الذي تمتلكه..
الوجه الآخر للقمر.. وجه جديد للقاصّة يكتسب من القمر ألقه وجماله..
الشاهد الوحيد
تتحول صورة للوحة الموناليزا إلى شاهد على العدوان الذي أستهدف مدننا وبيوتنا.. وتصبح الابتسامة الشهيرة التي وضعها دافنشي على شفتيّ الموناليزا طريقاً في فهم ما حصل..
كليزار ترسم لنا لوحة جديدة، وتطلب منا قراءة الأحداث عبر ألوان اختارتها بعناية وذوق..
ويبقى الوفاء
قصة موزعة بعناية لتأكيد معنى مألوف.. ثمة وفاء.. لا أحد يشك بذلك.. ولكن الكاتبة مطالبة بإعطاء سبب واحد فقط للنتيجة التي تقودنا إليها.. حبيبان يتقابلان مصادفة في مستشفى.. فتعرف إن الفتاة متزوجة ولها ابن أسمته على اسم حبيبها، والشاب يعمل طبيباً وهو متزوج أيضاً وله ابنة تحمل اسم حبيبته.. هل هو الوفاء؟ وهل يعبر عن الوفاء بإطلاق الأسماء فحسب؟ لماذا انفصلا؟ لولا السرعة كان بمقدور كليزار أن تكون أكثر إقناعاً وهي قادرة على ذلك..

شمس تشرق في الليل
نهاية القصة تذكرني بنهاية القصة الأولى (الفراشة).
كم كان الامتداد قوياً.. أفق مفتوح صاغته أنامل الكاتبة..
لماذا ينهار كل شيء بنداء هاتفي واحد؟
كليزار قائدة طائرة.. ما أن ترى مدرج مطار حتى تحط على الفور.. دون النظر إلى خط الرحلة ومحطات المسافرين.. ثمة من يتمنى النزول في أول محطة.. وثمة مسافر مشاكس يأمل بمرافقة قائدة الطائرة إلى آخر محطة.. إلى آخر قطرة من وقود الطائرة..
المهم أن لا تنحاز القاصّة إلاّ إلى خط رحلتها..
المفكرة
لو كتبت كليزار هذه القصة فقط، لقلت إنها كاتبة.. وكنت آمل حقاً أن تضع مقدمة القصة وقبل بدء التواريخ في نهايتها.. أما تواريخ الأيام فإنها بقيت سائبة، ويمكن أن تغير أي تاريخ دون أن يعني ذلك شيئاً، ويمكن إضافة تواريخ جديدة، هموم، اشراقات، دون أن يؤثر على بناء القصة.. هل المقدمة مسؤولة عن تحويل مجرد مذكرات إلى قصة؟
لا.. الأمر ليس كذلك..
بإمكان الكاتب حذف المقدمة، وحذف التواريخ جميعها.. ليبقى العمل قصة جميلة..
أجراس العودة
فنان يبحث عن الشهرة والجمال والحلم المفقود في باريس.. ولَما يتبخر حلمه وينساب كالرمل بين أصابعه يتذكر حبيبته في الوطن، ويقرر العودة.. ليجد أن الحبيبة أيضاً غادرت موقع حبها وأغلقت باباً سبق وأن غادره الفنان..
هل تكفي جملة يقولها ناقد كي تكون قراراً واجب التنفيذ للفنان؟لو كان الأمر كذلك فقد سبق للفنان أن سمع جملة أقوى من حبيبته ولكنه لم يلتزم بها أو يجعلها قراراً..
السبب بكل بساطة هو فشل التجربة.. فشل الفنان أعاده للبحث عن حبيبته الأولى.. كما أن حبه للشهرة دفعه للمغادرة..
لقاء على جناح الموت
قصة تشترك مع قصة الوفاء بنسيج واحد.. وإذا كنا بحثنا عن السبب في قصة الوفاء، فإننا نجعله في لقاء على جناح الموت، سبباً هزيلاً هو: كلمة الأهل..
هل كان حادث السيارة لوحده كافياً لجعل الفتاة تشعر أن الحب يطوق عنقها من جديد..؟ أم هي السلسة التي وجدتها تحت قميصه..
عمل جميل يحتاج إلى إقناع أكثر..
وكيف يأتي الإقناع؟
انه جهد مضاف مطلوب من القاصّة كليزار أنور.
وهي قادرة على منحه...

*"بئر البنفسج" مجموعة قصصية صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ 1999
*نُشرت الدراسة في مجلة (آفاق عربية) العدد (7-8) الصادر في تموز-آب/2000.

View gulizaranwar's Full Portfolio