الصندوق الأسود وعاء الأفكار الجديدة أَم جدليتها الحيوية المعاصرة؟
الذات المرهفة تدوّن سيرة الأمل.
محمد الأحمد
أَين نحنُ من أسئلة الرواية الذكية... عندما يبتكرها المبدع ضمن نسق روائي متماسك يحوي على عمود حكائي مشوق لتروي تجربة أديبة (كاتبة) لها صوتها الخاص.. أشبه بمذكرات ليست شخصية إنها تأمُّل في حياتها وحياة من حولها الذين اشتركت معهم في قيم الإتفاق والاختلاف (كلُّ من القيم لا ينضوي تحت البنية بل يشكّل جوهرها، وقد فشلت كل المحاولات التي قصدت إلى إخراج القيم من الأدب وسوف تفشل لان القيمة هي جوهر الأدب، ولا يمكن فصل الدراسة الأدبية عن النقد الذي هو عبارة عن حكم تقويمي ).. فأعلنت رواية (الصندوق الأسود ) أسئلتها الحقيقية، وبقيت شاخصة تتفاعل مع متلقيها بجرأة صادمة، وتحضر إليه في عصر معلوماتي يرتفع كل يوم بانتقالاته التقنية، وما كان السؤال الأول الذي لا ينطفئ.. لِمَ سميت الرواية بـ(الصندوق الأسود)؟، ان لم يكن في فضاء النص أية طائرة طارت؟ فهل هو صندوق الحاسبة التقني وهو يحوي أعظم ما حققته التكنولوجيا؟ أم رحم المرأة؟ أم الإقصاء الجنسوي للمرأة، وحجرها في أقصى زاوية من زوايا الظلام الاجتماعي؟ أسئلة الكاتبة الذاتية ككيان مستقل له ثقله الموضوعي المحض أم ثقله بما تشكل معه اجتماعيا. كيانٌ له أسئلته المحضة عبر نص يمنحها خصوصيتها لرواية تؤسس مساراً عقلانياً مع كل ما يحيط بها ككاتبة تتمحور قضاياها الإنسانية بمحور تفرعات همومها وأحلامها. أم أسئلة الإنسان بكل مشاغله وإشكالاته.
تلك الرواية التي تتقاطع بالسيرة الذاتية، والخيال الذي تصنعه ككاتبة لها بصمتها وموقفها الجلي بالإبداع.. (إن المفاهيم السائدة في الفكر الغربي تنطلق من مقدمة منطقية هي نموذج الذكورة الميالة إلى التزاوج مع النقيض (الأنثي)، في حين تستخدم النظرية النسوية الإطارين الفينومينولوجي والتحليل النفسي لبيان كيف يشكل هذا النموذج للذات تجسيد الأنثى طبقا للنظام الرمزي الذكوري ).. جدلية الأفكار الجديدة ضمن معطيات عصر يحضر بكل عنفوانه التكنولوجي، تعرضها الرواية عبر أحداث متتابعة من صالة العمليات في المشفى إلى دفتر المذكرات الخاصة بالحرب..
تسير أحداث رواية الصندوق الأسود.. تدويناً للذات المرهفة التي تريد أن تكون ذاتاً حاوية لكيان آخر، كيانا تتوقه المرأة، لتكمل به حياتها، أو لتتواصل عبرها، تزرع كياناً في رحمها لأجل (الولادة) وفي مخيلتها لأجل (الكتابة) ممارسة للحرية، (فالكتابة والحلم كما جاء على الغلاف الأخير من الرواية) وولادة الحرية أو لنقل إيجادها.
تحوي (الصندوق الأسود) الخليط الفني المتجانس، المتعادل موضوعياً عبر رواية فيها جرأة تخرق المألوف بحسٍّ عالٍّ، كموضوع مهم -ولأول مرة- حيث تتطرق الرواية العربية النسوية إلى أسرار بايولوجية، محضة، لتعطي لقارئها خفايا عملية الإخصاب الصناعي بين زوجة مثقفة، وشريكها الذي لم تشكو من تفاوت معه في تقبل واقع عرضت فيه عبرهما مسيرة حقبتين تاريخيتين ما قبل وبعد احتلال العراق، ومن عدة أماكن. (بلد السواد) وما تفاوت بين الحقبتين اللتين مازال العراقي يثقله منهما هما عظيما وبالغاً. كما ترى (كريستيفا) بان الثقافة أو الأغراض الثقافية هي التي توفر الفضاء الذي يعبر الخيال عن نفسه، فتُدرج الرواية معلومات علمية دقيقة لمسيرة تلك المحاولة التي تحدت بها جيلاً من الروائيات العربيات، وخاصة الروائيات اللواتي تصيدن الكشف في العري والشهوة التي تثير الغرائز، وتستبعد المنطق الروائي في إسقاطات جنسية صريحة أو رمزية، حيث همهن التوغل في المحضور، والممنوع، في اغلب نتاج الروائيات العربيات، وما عادت الروائية (كليزار أنور) راضية عن الكشف الدقيق لما يجري في غرف النوم بحجة الجرأة. (حوار مع الكاتبة )، وأيضاً (الرواية ماعادت تُكتب وتُقرأ لمجرد المتعة الحسية وقضاء الوقت والتسلية بل انطلق الروائي إلى آفاق واسعة فتحت المجال للحوار الثقافي والفلسفي والإنساني داخل المجتمع، وأوجد هذا علاقة جيدة بين الكاتب الرواي والمتلقي القارئ- ص152) تكتب عن الكتابة الحقيقية عندما تُبدي رأيها التقني بنصوص أقرانها الكتّاب المعاصرين وخاصةً الروائيات العربيات.
بطلات (كليزار أنور)، تأثثن برواية عمودها العفة لتبحر بها، وباقتدار، عكس التيار لتعطي رواية متميزة، ناجحة، مشوقة، جديرة بالتمعن، وتبتعد بعملها الفني تمام الابتعاد عن أية محاولة لتسطيح العقل في ظل اجتماعي يُثمن ويتفاخر بحزمة قيم الذكورية، الفروسية، المستحيلة المنتمية للأزمنة المنقرضة حضارياً، والمنتمية للعبودية الغارقة في إقصاء شريكة الرجل، بل وتهميشها.
(الصندوق الأسود) تتخذ مفهوماً إبداعياً جديّاً مع مفهوم الرواية، لذلك خصت في فصل منها تعاملها مع الرواية العربية المعاصرة وأخذت تقرأ البعض منها، فليس المهم أن نبتكر فكرة ما، ولكن المهم إننا نستطيع أن نتعامل معها ونصنع منها نقطة انطلاق لفكرة أخرى، فكرة منها تتكامل وتتعامل مع ما هو عصري ومنطقي ضمن عمل يقولون عنه معاصراً، فالفكرة الروائية الجيدة من اليوم تعلن قطيعة مع الماضي، منتمية للحاضر، ولأنها فكرة مكونة، جامعة للأفكار الماضية، ومضيفة إليها رؤية اليوم. فكرة تستطيع ان توجد ذاتها كفكرة بين الأفكار الحاضرة نحو الغد. فكرة مباشرة لا تبقى حجيزة زمن سابق، وتجهز بأنها بنت عصرها التكنولوجي، وتنطلق إلى الغد بلا عودة للوراء.. نحتاج إلى إعادة كتابة المنظومة العربية المتحررة من عبودية الفرض الصحراوي، وان لا تبقى محجوزة ضمن الأفكار المثبتة بركيزة الماضي.. تتحرر منه، وتحرر ذاتها- لأنه لا يتحمل فكرة أن يكون جهازا كالكومبيوتر مثلا- حاضرا فيه. روايتها (أسئلة الكاتبة) رهان على ضيق ما سمح به للمرأة، (منطق غريب أم هي سوء عدالة في الميراث، فالبنت ترث الثلث بينما الولد يرث الكل!!- الرواية- ص9) فتجهر بالمحظور لأنها تراه هو الأوسع لما تريد به أن تحيا حياتها ككاتبة، والتي تؤرقها أكثر وتحتل الحيز الأكبر من مساحة إبداعها، فتتماهى بأسئلة العفة الأولى، حيث تدرجت النضوج، وصارت الرواية الحلم تتحقق بأبطال من الحياة، لهم كل شيء، ولهم التفاخر بأنوثة الأنثى بعطائها وخصوبتها، ورجولة الرجل بعطائه وفحولته وفق مصطلح الجندر (gender ).. (قد لا تعني هذه المفردة جنس أنثى أو ذكر وفق التشريح البيولوجي.. ولا توجد لها مرادف في اللغة العربية، ولكنها اقرب الى كلمة نوع لتشير إلى سلوك النوع الإنساني من مذكر او مؤنث..) امتدت مفاهيمه على اغلب صفحات الرواية.. فكانت الساردة العارفة بموقعها الجنساني، الإنساني، الاجتماعي، التفاعلي (المحنة تعلم فن السرد.. تجعله يبوح بأسراره وتفاصيل حياته الدقيقة كما أفعل أنا.. ليسَ لشيء سوى تحرير النفس من هم المحنة- الرواية ص 148).. انطلقت الروائية بسرد عارف، شفيف، جزل المعنى، كثير المقاصد، محرر من الزوائد السردية كأنه ينطلق بخط مستقيم إلى هدفه لأجل أن لا يملّ القارئ الذي تجتذبه في عالم اليوم ملايين القنوات الثقافية.. فحققت لنفسها تحدٍّ آخر سوف يجعلها يسيرة القراءة في عالم يزخر بصراعات التكنولوجيا الخاطفة.
الأحد، 20 آذار، 2011
* نُشرت في جريدة (الزمان) العدد (3854) في 24/ 3/ 2011. طبعة لندن.