دراسة نقدية عن قصة " عنقود الكهرمان " للقاصّة كُليزار أنور
التمويه السردي وأنثنة منطقة القصّ
الدكتور: محمد صابر عبيد
" 1 "
أثبت السرد الأنثوي في المشهد القصصي العربي الحديث رؤية جديدة، تسمح بإعادة النظر في تأثيث منطقة القص، على نحو يعيد التوازن إلى المعادلة التي يقتسم ذراعيها المنطق الذكوري المهيمن والمنطق الأنثـوي المصاحب، إذ بدأ يدفع باتجاه مصير متعادل في قيادة دفّة السرد وتحييد المشهد بما يجعل ألوانه أكثر منطـقيـة وعدلاً.
وأخذ منطق السرد يكشف عن إمكانيات مستقلّة في التعبير عن قيمة النسق وحسّاسيّة وظيفته، فهو يقترح موضوعاته ويكسب عناصره سمات خاصّة، ويضخ مكونات نسيجه بقوى لغوية تذهب إلى تشكيـل فضائها السيميائي بمعزل عن تقاليد الميراث، القائمة أساساً على مضاعفة علامات الذكورة وتعزيزها في مقابل إضعاف علامات الأنوثة ومحوها إذا إقتضت الضرورة.
لا شك في أن فحص السرد الأنثوي في نماذجه الحديثة المشتغلة على إعادة إعتبار النسق الأنثـوي ، واقتراحه نموذجاً معبراً تقدمه الكاتبة الأنثى بوصفه سبيلاً لأنثنة منطقة القصّ، غالباً ما يصطدم بعقبة الوعي الناقص للنصوص الأنثوية العاملة في هذا الحقل، إذ يذهب معظمها إلى الاستجابة القصوى غير المنطقية لعقدة الانتقام من هيمنة النسق الذكوري، فتنتج منطقاً سلبياً يخفق في الكشف وإيقاعاً سردياً صاخباً يفسد الفكرة، ويعزل لهفة التلقي، ويسقط النصوص في متاهة وعيها المستغلق الضيّق. لكن ثمة نماذج تعمل بهدوء وتتفاعـل مع رؤى العصر ومنظوماته المتعددة والمتنوعة والمنفتحة، وتقترح إشكاليتها في عرض النسق من دون الايحـاء بقرب قدوم الضجيج وإشعال نار الحرب.
" 2 "
تندرج قصة "عنقود الكهرمان" للقاصّة كُليزار أنور ضمن حقل المسرود الأنثوي التي تشتغل بنحو أو آخر على هذه المساحة، وتنهض في بناء منطقها السردي وتشكيل هيكلها الحكائي على تقنيات التحـول السردي ونظام الوحدات. ولعلّ أوّل هذه التحولات يبدأ من عتبة العنوان، إذ يتدخل في تركيب الوعـي اللغوي للقص، وإحالة فضاءاته السيميائية إلى المناطق التي يتحوّل فيها السرد من وضع إلى آخر. فالعنوان "عنقود الكهرمان " يقترح سلسلة من الاحتمالات، يتعلق قسم منها بكلّ وحدة من وحدتيه على حدة "عنقود/ الكهرمان "، ويتعلق القسم الآخر بانتماء إحداهما إلى الأخرى. لكنه يكتسب أوّل طاقة لتفعيل بعده السيميائي من خلال حديث الرجل الأوّل القادم صحبة رجل وامرأة من كوكب آخر طمعاً في الحصول على الجزء الثاني من رواية " عنقود الكهرمان " التي كانت تنشرها الكاتبة " السارد الذاتي في القصة " في مجلة " اليوم " الأرضية، وتترجم عبر مندوبين خاصّين إلى سكّان هذا الكوكب ، إذ خاطبها :
(( - سيدتي .. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا .. وكنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة " اليوم " روايتكِ " عنقود الكهرمان " ، وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأوّل .. والثاني لم يكمل .. لماذا ؟)).
فالتحول الأول الذي حصل في بنية العنوان، من عنوان خارجي للنص، إلى بؤرة تتمركز حولها كلّ فعاليات السرد ووحداته، يدفع منطقة التلّقي إلى إعادة قراءة العنوان برؤية جديدة، تفيد من الحمولة السيميائية المضافة التي إكتسبها عبر توسيع حدود إشتغاله وإثارة طبقات أخرى فيه. أما التحوّل الثاني الذي يخرج بالعنوان إلى فضاء سيميائي آخر يضاعف كلّ أنشطته وفعالياته ، فيتمثل بالهدية التي يقدّمها الزوّار إلى الكاتبة/ السارد الذاتي، لقاء منحهم الجزء الثاني والثالث من الرواية لنشرهـا لديهم، إذ وضعتها المرأة الزائرة على الطاولة طالبةً منها:
(( - أرجوكِ .. إغلقي الباب . قبلت رجاءها وعدتُ إلى الصالة .. فتحتُ العلبة، فتلألأ ما بداخلها وسطع أمام عينيّ . سحبتُ السلسلة فتدلّى منها " عنقود من الكهرمان"!)).
وهكذا تنتهي القصة بالعنوان مثلما إبتدأت به، وهنا يمكننا أن نلمح تحولاً آخر، فان إبتداء القصّة بـ "عنقود الكهرمان" وانتهائها بـ "عنقود من الكهرمان" يخلق علامة تشير إلى دلالة الاحاطة والتطويق والتماسك، على النحو الذي يعني تموضع وحدات النص ومنظوماته اللغوية داخل شبكة يحيط بها " العنقود " ويضيئها " الكهرمان ".
أما المستوى الآخر من التحوّل فقد حصل في أهم مناطق التوتر السردي في القصة، بحيث أن كـل منطقة توتر تعمل بوصفها بؤرة إنعطاف، تنتقل بمسطرة السرد من نسق تعبيري إلى نسق جديد، ينعطف بسهم اللاتجاه لينفتح على أفق سردي، تتحول إلى حقل اشتغاله كلّ فعاليات السرد ، ويظهر أول تحول من هـذا النوع بعد أول حوار جدّي بين السارد الذاتي " كاتب الرواية في القصة/ البطلة "، وبين الزوّار الغرباء وهم يسعون إلى طمأنتها :
(( - اطمئني، فقد قصدناكِ بخير. لم أجب مؤثرة الصمت.. وأكمل بعدما شعر بأنهُ استطاع أن يهدئني. -سيدتي.. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا.. وكنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة "اليوم" روايتكِ "عنقود الكهرمان" وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأول فقط.. والثاني لم يكمل.. لماذا ؟ - أجئتم في هذا الليل لتسألوني هذا السؤال؟ - نحن لسنا من الأرض. حين قالها أردت أن أصرخ، دقات قلبي تزداد وترتفع.. تقرع في رأسي كناقوس كنيسة قديمة.. ترتجف يداي.. ويجفّ فمي..)).
إذ أن تحقيق هذا الانفصال الفضائي "الزمكاني" بين الراوي وبين ضيوفه أربك تكافؤ النسق السردي وخلخل موازناته، على النحو الذي فرض على شخصية البطلة تهيئة إستعداد مختلف لامكانية التفاعل مع الآخر والاسهام معه في إنتاج السرد. كما يظهر تحوّل ثانٍ يطرح مشكلة تلقّي الرواية التي تنشرها الكاتبة، وتنقل إلى سكّان من غير أهل الأرض عبر هذا الحوار:
((- مانشرته هنا كان ينقل إلى مجلةٍ أخرى لدينا.. وأنا رئيس تحريرها . قاطعته بابتسامة: - وهل تنشرونها بالعربية؟ فابتسم لابتسامتي: - لا.. بلغتنا! وجدتُ نفسي عاجزة عن التعبير بصدق عمّا أشعر به وأريد قوله.. شعرت أن عينيّ إغرورقتا من شدة التأثر لهذا الفرح المفاجئ!.. وذلك الخوف المرعب تبدد إلى فخر وزهو لا يوصفان.. فأكمل: _ لدينا مندوبون في الأرض، وهم يقومون بترجمة الأعمال الجيدة.. وروايتكِ لاقت الاستحسان لدينا.. وبعد أن انقطعت توقفنا نحن أيضاً عن تكملتها.. والغريب.. وصلتنا رسائل كثيرة _ بالآلآف _ تطلب تكملة الجزء الثاني.. ولم ندرِ ماذا نفعل؟! _ أتعرفون.. مرّ على إنقطاعها أكثر من سنة.. ولم يسأل عنها أحد هنا.)).
فالاهمال الذي تعرّضت لهُ الرواية بتوقّف صدورها عند الجزء الأوّل من لدن متلقّيها القريبين مكاناً ولغةً تحوّل إلى اهتمام كبير – ربما مبالغ فيه بعض الشيء – من لدن متلقين بعيدين مكاناً ولغةً، عوّض الخسارة وأصلح الخلل، حيث تتجدد خلايا السرد وتتمظهر حيواته من جديد، لتواصل توغلها في فضاء القصّ والحكي بقابلية أكبر على تثوير بؤرها وتوسيع حدود مشكلتها.
" 3 "
تسهم في صناعة منطق الكشف السردي في القصّة تقنيات متعددة، تتضافر لغةً ودلالةً ورمزاً لتحسين وضع عناصر القص ومضاعفة قابلياتها على الفعل والتشكيل. ومن هذه التقنيات سحر اللون وما ينطوي عليه من حمولة سيميائية تشتغل دلالياً في أكثر من إتجاه. يتكرر "اللون الأحمر" تكراراً منتجاً يوفّر لاستجابة المتلقي الذهنية والبصرية فرصة للتوغل عميقاً في طبقات القص. ففي المرّة الأولى التي يظهر فيها اللون:
(( نهضت لأقوم بواجب الضيافة على الأقل.. فدعتني السيدة للجلوس! بدأت أنفاسي تضيق وأحسست بانقباض مرعب.. اضطربت عندما حدقتُ في عينيها.. وربما توقف القلب عن النبض في تلك اللحظة. وقفت مندهشة وكأني نسيت كلّ شيء! عيناها تلمعان ببريقٍ أحمر.))
يقدّم تشكيلاً شعرياً خاصاً "عيناها/ تلمعان/ بريق/ أحمر"، يقوم بفرض شبكة من الاحتمالات الدلالية تصبّ جميعها في بؤرة تصعيد دراما السرد، واستفزاز مستقبلات التلقّي بقيمة لونية مباشرة تتوافر على كلّ شروط الإثارة والتعدّد الدلالي. ويظهر مرّة أخرى على نحو أقل إثارة وتحفيزاً واستفزازاً :
(( فتقدمت السيدة نحوي.. وأخرجت علبة حمراء من جيبها.. علبة ما رأيت بجمالها وتصميمها البارع)). إذ يمارس اللون هنا نشاطاً تشكيلياً جمالياً، يحاكي القراءة الأيقونية _ البصريّة أكثر من القراءة الذهنية بدلالة بعض المفردات المكوّنة للمنطق اللوني " جمالها/ تصميمها/ البارع "، وهي تذهب في الشكل أكثر من ذهابها في أي حقل آخر.
وفضلاً عن سحر اللون هذا فان القصة تقترح سحر العدد أيضاً، المتمثل هنا بالعدد "ثلاثة"، وهو يوظف بكامل طاقته الأسطورية والرمزية الميراثية ، ويتكرّر بأشكال متعددة على النحو الآتي :
1 – " يرنّ للمرة الثالثة " . 2 – عدد الزوّار ثلاثة . 3 – العنوان يتكرّر في القصة ثلاث مرّات . 4 – رواية "عنقود الكهرمان" مؤلفة من ثلاثة أجزاء. ولا يخفى ما يشغله العدد " ثلاثة " من مساحة مهمة في رؤيتنا للأشياء ثقافياً وتاريخياً ودينياً، وما يعكسه ذلك من إتجاه اعتقادي وإيماني وتصوّري يتدخل في صلب تفكيرنا ويوجّه جزءً من نشاطاته وجهـة معينة.
" 4 "
لا شك في أن الحضور الأنثوي الماثل في قصة "عنقود الكهرمان" يعيد إنتاج سؤال الأنوثة والذكورة بنحو ما، فالقصة تنهض على سارد ذاتي أنثوي "الراوي"، يعزل الموجود الذكوري المصاحب ويقوّض حضوره تماماً :
(( _ خالد.. خالد.. أحدهم يدق جرس الدار. _ ليسَ هناك أحد.. نامي! غطى رأسه وعاد إلى نومه)).
لينفرد الراوي/ الأنثوي بمواصلة السرد وبناء نسقه الأنثوي، كما يفرد أكبر مساحة ممكنة مـن "المروي" لشخصية الأنثى القادمة مع الرجلين، إذ يعزلان نسبياً وتنفرد المرأة بقيادة دفّة السرد في أكثر مناطق المروي، بحيث يتكافأ هذا العزل مع عزل الرجل "خالد" من قبل الراوي، لتصبح المواجهة السردية بين "الراوي/ الأنثى" الشخصية المركزية في القصة وبين الأنثى القادمة.
لذا تكتسب الموقعة السردية بينهما طابعاً أليفاً، إمعاناً في تكريس منطق الكشف السردي "الأنثوي" لصالح النسق الأنثوي. ويمكن ملاحظة التكرارات التي حظيت بها صورة المرأة" في القصة وهي تولّد إيقاعاً سردياً خاصاً " المرأة سلّمت عليّ أولاً/ بادرت السيّدة/ المرأة وقفت إلى جانبي لتجلس حيث أجلس/ ردّت السيّدة بطيبة/ عيناها تلمعان ببريق أحمر/ قالت بهدوء/ اقتربت السيدة أكثر مني/ وضعت يدها على كتفي/ تقدمت السيدة نحوي/ أخرجت علبة حمراء/ وضعتها على الطاولة/ ابتسمت/ قالت.. .. الخ". غير أن الحضور لم يتقدّم انطلاقاً من عقدة المواجهة بين النسقين، إذ تمكنت القاصّة من تفعيل النسق الأنثوي في القصة، من دون إثارة غبار العقدة وإعادة إشكالها المضطرب إلى الواقع السردي.
السبت، 22 نيسان، 2006