قصة قصيرة....... كُليزار أنور
شاطئ الضباب
خمس رسائل وصلت إلى الآن تحمل عنوان بيتنا الجديد معنونة باسم: هديل عبد السلام. سألتُ الجيران عنها.. لا أحد يدري إلى أينَ مضوا. من دواعي الصدف أن يكون اسمي أيضاً "هديل". لكن، هديل طارق!
الرسالة الخامسة مازالت في يدي.. ترى ماذا تحتوي؟ فضول قوي يدفعني لفتحها، واحاول أن أتجاهل ذلك.. فأُشغل نفسي كي أنسى أمرها. أتجه نحو النافذة .. أفتحها.. المدينة قد تدثرت بمعطف الليل.. والسماء ازدانت بكل نجومها.. ترمي عيوني بنظراتها في فراغ لا قرار له.. أسمع همساً فطرياً صافياً يشوب الوجود، فما أجمل أن نسمع همسات الطبيعة.. نسمات رقيقة تهب من جهة اليمين.. إنها مشبعة برائحة القداح.. أتنفسها بعمق.. هذا الجو الشاعري يغريني أكثر بفتح الرسالة _قلت في نفسي_ وماذا في ذلك؟ ربما فيها أمر يستحق المساعدة. وبهذا التبرير اللامعقول فتحتُ الرسالة.. رسالة تلتهب بحرارة الحب.. أية لغة جميلة وأية مشاعر صافية وأي شوق يفيض منها.. وبدون أن أدري امتدت يدي إلى الرسائل الأُخرى وقرأتها حسب تواريخ وصولها. وبينما كنتُ أقرأ سمعت خفقات قلبي تعلو في السكون، وتداخل مع الروح دفء أليف. فكم كانت كلماته عذبة.. وكم كان حبه صادقاً، نقياً، دافئاً.. كل هذا أثار في قلبي الشجن.. لمست في حديثه كل ما كنتُ أتمنى وأحلم أن أسمعهُ في يومٍ ما.. سرى دفء الرسائل إلى دواخلي.. أذاب الصقيع الذي عشش فيه منذ سنين.. كنتُ أعلم بأنها ليست لي، ومع هذا فقد أوصلتني إلى أُفق السعادة التي أحلم بها.. وشعرتُ بأن الدنيا أضاءت وتحولت إلى نهارٍ مشرق رغم هذا الليل الذي حولي!
رسائله تحكي.. قصة حب.. لو اكتملت لكانت أعظم قصة حب. قصة حدثت في لحظة واحدة.. وكما النار تتقد بشرارة واحدة، فالحب أيضاً يحدث بلحظة واحدة.. وكل ما قد قيل ويقال عن الحب وانهُ يحدث مع الأيام وبمرور الزمن، فلا أظنهُ حباً.. وإنما شيء آخر يسمى "العشرة".
لقاء في مصيف (سولاف).. جمع بين قلبين وفكرين.. وفي آخر يوم أعطتهُ عنوانها كما أراد منها.. وافترقا على أمل أن يلتقيا في المستقبل القريب. عرفتُ من الجيران.. بأن أهل هديل تركوا البلاد بأكملها. أية ظروف دعتهم لذلك؟ لا أحد يدري! حزنت كثيراً لهذهِ النهاية العقيمة، فالمرء نادراً ما يجد الحب الحقيقي.. ورسائله تؤكد بأن ما بينهما كان فعلاً حباً حقيقياً.. لكن، ماذا يفيد؟ فحبهما مات قبل أن يولد!
لا أدري أي دافع جعلني أرد على تلك الرسائل وكأنها كتبت لي.. نسيت أمر هديل عبد السلام تماماً. خيل إليّ اني أراه.. يرنو إليّ بنظراته وكأنها من قلبِ بحرٍ هادئ تتقدم.. يضطرب القلب بأحاسيس لا أعرف كنهها.. ماذا فعلت بي هذهِ الرسائل؟! وبدأتُ أصب على الورق الأصم فيض نفسي التي تتدفق بالحب.
ووصلني الجواب.. ذلك اليوم كان عيداً استثنائياً بالنسبة لي.. أوقد في قلبي كل شموع الفرح.. ومع كل رسالة أتسلمها يتألق ألف فجر ربيعي في حياتي. في بعض الأحيان يداهمني الإحساس بالندم لِمَ أفعل.. فقد دخلتُ مدينة الحب بجواز سفر يحمل اسم غيري! وما لم أُفكر به وأسأل نفسي فيه.. كيفَ ستكون نهاية اللعبة التي ألعبها؟ وهل أنا أخدعهُ أم أخدع نفسي؟!
وانزاح غطاء اللعبة وتحرر البركان وانفجر بما لم أكن أتوقعه.. فالرسالة الأخيرة وضعتني أمام الحقيقة التي لابد أن أُواجهها ومهما كان الثمن.. انهُ يريد أن يتقدم لخطبتي، وسيزورنا مع أهله في الجمعة القادمة.. أي بعد يومين.. لكنهُ.. سيخطب مَنْ؟! شعرتُ بأن ذلك الحلم الجميل _رغم علمي بأنهُ وهم_ انفلت مني كخيط طائرة ورقية ينفلت من اليد.. الخوف بدأ يملأ دربي والقلق ريح قوية تعصف بي.. كل ليلة أحلم بأني أتدحرج على منحدرٍ طويل وأستقر في قعر زاويةٍ صغيرة.. فأستفيق مذعورة. إنَ الرثاء والبكاء على الأطلال لا يجدي.. لأنهُ عادةً يكون بعد فوات الأوان.
الجمعة أتت بكل حقيقتها ووجودها.. هدوءً جارحاً ، مرعباً يغلف سكون البيت. جرس الباب يرن.. رنينه يشرخ صمت الهدوء.. تتصاعد ضربات قلبي وتتناثر على جبيني قطرات من العرق البارد.. أتقدم نحو الباب بخطوات متعثرة.. وأفتحهُ.. يقابلني وجه قد غُسل بالأشواق.. لمعت عيناه في وجهه الهادئ.. وقال مبتسماً:
_ منزل السيد عبد السلام.. أبو هديل؟