قصة قصيرة....... كُليزار أنور
لقاء على جناح الموت
حادثة أخرى تدخل من باب الطوارئ.. يا ليل كم تحمل لنا على أكتافك من حوادث _قلتها لنفسي_ حادث سيارة على الطريق العام.. جريح.. فاقد الوعي. أتقدم نحوه مسرعة.. جفل القلب حين لمحتُ وجهه من خلال دمائه.. دفنتُ وجهي بين يديّ.. أيمكن أن يكون هو؟ وليد! وكيف لي أن أنسى الوجه الوحيد الذي احتواه قلبي.. بدأت دموعي تنهمر رغماً عني.. رؤيته هذه الليلة وبهذا الشكل كانت بالنسبة لي مفاجأة لم أتوقعها.. وكأنها أتت من خارج المألوف والمتوقع. خطواتي ارتبكت .. أصابني دوار شديد من هول المفاجأة.. لكني تماسكت بعض الشيء.. أيعقل! بعد أكوام من السنين يتجه مركبه نحو شواطئ أيامي محمولاً على أمواج الموت؟ لا أُصدق! أقدامي ترتجف.. اضطراب غريب يعتريني.. رعشة من الخوف تسري في جسدي.. تسمرت في مكاني لحظة وكأنها أعوام.. مُسحة الحزن والخوف التي ظهرت في عيوني لم تخفَ على أحد.. زميلي الدكتور ثامر أول مَن لحظها.
دفع بعربته نحو غرفة العناية المركزة.. وبدأ باهتمام بالغ يعاينه إكراماً لي.. وطلبَ من المعاون الطبي أن يفحص فصيلة دمه ليعلم إلى أيها تنتمي:
_ انهُ ينزف.. لابد أن يعوض بالدم إن لم يتوقف.
_ فصيلة دمه ( B+ ) وأنا سأمنحهُ دمي إن احتاج إلى ذلك .
نظر إليّ الدكتور ثامر وابتسم بدهشة وأظنه علم ماذا قلتُ له.. فرد وهو يربت على كتفي:
_ اطمئني دكتورة وصال.. انه بخير.. ليست إلاّ كدمات بسيطة.
بنفسي علقت زجاجات المصل وثبتها على ذراعه.. فقدتُ توازني كطبيبة.. ولم أشعر بالارتياح إلاّ بعد أن أكد لي الدكتور ثامر بأنهُ سيعود إلى وعيه بعد ساعات.. وخرجَ ليُعاين جريحاً آخر قذفه الليل على شواطئ المستشفى.
النزف قد توقف.. مسحتُ آثار الدماء على وجهه ويديه.. جلست على حافة السرير مسلوبة القوى لا أملك سوى ترديد آيات من القرآن.. صليت من أجله في نفسي، لعلَ صلاتي تبرئ بعض جروحه. الساعات تمضي ثقيلة بدقائقها وثوانيها.. مضيتُ نحو النافذة أنظر من خلالها.. الليل في الخارج موغل في الصمت وقد لف الوجود بوشاحهِ الأسود.. ضياء الفجر لم ينبثق بعد.. الظلام يغلف كل شيء.. حتى نفسي.. كنتُ أرتعش في داخلي مترقبة ما يحكمهُ القدر لي هذه الليلة!
أعود إليه.. أتأمله من جديد.. رؤيته اليوم أيقظت النار المتأججة تحت سطحٍ من رماد الأيام .. نسمات حنان تهبُ من ماضٍ ظننته قد أصبح بعيداً.. تسطع أمام عينيّ حركاته وصورته.. أتذكر آخر مرة التقينا .. كلماته الأخيرة مازالت محفورة على جدران الذاكرة لم تستطع أن تمحوها يد الفرقة ولم تحرقها نار البعاد. هنالك لحظات وكلمات في عمر الإنسان تبقى لامعة تبرق في مدار أفكاره إلى الأبد.. ليسَ بمقدور الزمن مهما طال أن يمحو معالمها ولا أن يطفئ بريقها. تلوح الذكريات في أُفق الخيال البعيد.. تقترب.. وأعوم في بحرها فتنتعش الروح بحلاوة الذكرى.. وأسمع الهمس يأتيني من أعماق الذاكرة:
_ ستطوينا صحراء النسيان.. ولا أظننا سنلتقي من جديد.
_ ألستِ مؤمنة بأن الأرض كروية؟
_ نعم .
_ إذاً.. كوني على يقين بأننا سنلتقي في يومٍ ما.
كلمة الأهل كانت أقوى من حبنا.. كلمتهم كانت نقطة الفصل بيننا. وبمنجل فراقنا حصد قلبي الحزن والألم.. لم يعرفوا بأنهُ كل دنياي، فغلفت حياتي من بعده بستار أسود.. وأغرقتُ نفسي في بحر العمل لأنسى واقع الفراق الأليم.. ضاعت كل مفاهيم الزمن عندي منذ ابتعادي عنه.. مازال حبه قائماً في قلبي وأحلامي وأفكاري.. لم يستطع غيره أن يحرك نبض القلب .. فبقيتُ رهينة في حصن ذكرياته.
أسمع الآه منه.. أعود إليه.. فيغفو ثانيةً في اللاوعي.. أمسح بقطعةِ شاش قطرات عرق بارد ينزفها جبينه.. ساعة اللقاء هذه محت بلحظة كل أيام البعد.. لكن أي لقاء هذا؟ وجلست على طرف سريره أُحاكي جسداً لا يعي شيئاً من الوجود.
_ ذابت أيامنا كما تذوب الشمعة في صحن الزمن.. والتقينا من جديد.. كما قلت يا وليد.. لم أستطع أن أنساك.. حبك كان صادقاً مجدولاً بنسيج الروح.. كنت ومازلت بالنسبة لي الجدار الذي ينتهي العالم عنده.
لمحتُ شيئاً يلمع تحت ياقة قميصه.. سلسلة ذهبية.. أتكون تلك التي أهديتها له في يوم تخرجه؟ أيكون محتفظاً بها إلى الآن؟ أسحبها ببطء شديد.. نعم هي _ سلسلة ذهبية يتدلى منها مصحف ذهبي صغير _ تتجلى حقيقة واضحة أمامي "الحب لا يموت حتى ولو افترق المحبون".
أنظر إلى بنصر يدي اليمنى.. انه خاتمه الذي أهداني إياه في عيد ميلادي العشرين.. أديره في بنصري كلما تذكرته.. وتدور معه الذكريات نحو الماضي:
_ انه خاتم محبتي.. هذا عهدي لكِ.. ولكل عهد وعد.. أليسَ كذلك يا وصال؟
وكانت سلسلتي وعدي له!
وجهه هادئ كما تعودته دائماً.. أتأمله ، لم يتغير منه أي شيء سوى خيوط فضية قد تسللت إلى شعره.. بدأت العافية تسري في عروقه فتنعشها لحظة بعد لحظة.. الدماء عادت إلى ملامحه فارتسمت على وجهه إشعاعات نور تبشر بالخلاص.. شعرت بالارتياح.. فتح عينيه ببطء.. عندئذٍ أشرقت الدنيا أمامي.. أحسستُ بشروق شمسٍ دافئة في سماء قلبي.. ابتسمتُ له بحنان فأشرقت ابتسامته اللامعة.. ابتسامة أعادت نبضات قلبي إلى طبيعتها.
كنت متصورة بأن عقد الحب قد انفرط إلى الأبد.. واليوم أراه أمامي يطوق عنقي من جديد.. كل ما هنالك.. اني ضيعته بعض السنين!