قصة قصيرة....... كُليزار أنور
ويبقى الوفاء
أضع يدي على جبينه لأتحسس حرارته.. إنها عالية جداً.. طفلٌ غارق في بحرٍ من الحمى.. أرفع نظري إلى أبويه لأستفسر عن حالته.. كلانا جفل حين التقت عيوننا.. لم أستطع الإفلات ثانيةً من عينيها.. إنها هي.. تيجان! الدهشة تعقد لساني وأسقط كأوراق الشجر في دوامة الذهول.
أية مفاجأة قذفتها لي السماء في هذا الصباح.. زلزلت ركود الزمن حولي.. المشاعر تلتهب في دواخلي ويخفق القلب بإيقاع غير طبيعي.. رأيت نظرة الدهشة بين دمع أحداقها.. كانت شبه منهارة.. علامات الخوف والألم قد ارتسمت بصورة واضحة على ملامحها.. تبكي بحرقة على طفلها.. ورغم ذلك تبدو في غاية الروعة.. حتى وهي محطمة. قالت والدموع تخنق كلماتها:
_ منذ الأمس حرارته عالية.. لا أدري لماذا !
_ بسيطة إن شاء الله .. إنهُ عارض بسيط يحدث لكل الأطفال في هذا الموسم.. اطمئني سيدتي .
وما أن سمعت كلمات الاطمئنان مني حتى اكتست قسمات وجهها ظلال الفرح والرضا.. ومسحت دموعها بأطرافِ أناملها.. ولأكسر جمود التوتر الذي خيمَ فوقنا توجهت بسؤالي لها:
_ ما اسم الحلو ؟
كل ألوان الطيف تعاقبت على وجه تيجان.. تراجعت النظرات في عينيها والتفتت إلى زوجها بنظرة مسترقة مخطوفة كأنما تدعوه أن يتكلم هو.. فرد زوجها ليخلق جواً سريعاً من الألفة:
_ اسمه.. رغيد، يا دكتور .
حاولتُ أن أبتسم.. لكن الابتسامة لم تطاوعني.. لا لشيء.. سوى لدهشتي واستغرابي.. وأدركتُ حينها معنى نظرتها لزوجها. ماذا أقول؟ وكيف أصف لحظاتي هذه؟ فهناك أشياء تحدث لنا لا تستطيع كل كلمات الكون أن تُعبر عنها.. لم أستطع أن أُخبئ نظرات الامتنان.. كدتُ أن أقول لها.. "أنا أيضاً لم أنسَ".. لكني لم أقل.. بقيت صامتاً.. ونظراتي تكرر امتناني العميق لوفائها.. لا أدري كيف أُداري وأُقاوم هذا الإحراج الذي وضعنا القدر في دوامته؟ منعتني الجرأة أن أنظر إليها مرة أخرى.. حسبتُ أني سأكون كاللص أمام زوجها.. انحنيتُ نحو رغيد وطبعتُ قبلة حارة صادقة على جبينه.. قبلة تعني كل معاني الشكر والعرفان لوالدته، والتفتُ إلى الممرضة واصفاً لها العلاج الواجب إعطاؤه للطفل .
طمأنتهم على صحته، مكرراً لهم بأن حالته بسيطة جداً ولا تستدعي الخوف والقلق.. ومضيتُ عنهم دون إرادةٍ مني. وبدلاً عن أن أدخل غرفتي دخلتُ غرفة المدير.. انتفضت.. حين وجدتُ المدير خلف مكتبه يقول لي:
_ أهلاً دكتور رغيد.. تفضل !
لم أستطع الرد.. امتلأتُ خجلاً.. وعدتُ أدراجي. ركبتُ سيارتي وغادرتُ المستشفى.. أخذت عجلات السيارة تنهب الطرقات.. أجوب الشوارع بلا هدي.. إلى أين؟ لا أدري! كمن يسقط على كوكبٍ لا يعرف عنه أي شيء!
اهتزاز الصليب المتدلي من عنق المرآة أثار انتباهي .. وكأنهُ يذكرني بعمق مأساتي.. تُصلبُ عليه لحظات الواقع كما صُلبت عليه من قبل حكاية عمري.
_ انهُ هديتي لكِ _ صليب صغير يتدلى من سلسلةٍ ذهبية _ احتفظي بهِ كحرزٍ يحميكِ .
ما أن رأتهُ حتى انتفضت باندهاشٍ غريب ! حينها رأيتُ في عينيها نهاية كل شيء.. خيمَ فوقنا الصمت.. لم نتفوه بكلمة.. اجتاحتنا غمامة أسى أمطرت في قلبيّنا حزناً وألماً.. فما اكتشفناه اليوم كان وقعهُ كالضربة القاضية علينا.. لحظات الفراق الإجباري تدنو ولا نستطيع أن نفعل إزاءها أي شيء! أي شيء!
فيض من الألم يداهمني.. صرختُ في داخلي دون صوت.. تحطمت كقطعةِ زجاج تسقط على الأرض.. وشعرتُ بما يشبه وخز زجاج محطم يمزق أحشائي.. لحظتها تأكدت بأن العالم الجميل الذي رسمتهُ لنفسي وحلمتُ أن أعيش فيه قد انهار.. انهارَ تماماً.. والنور الذي تصورت بأنهُ سيضيء لي العمر كله قد انطفأ. لماذا يا ربي؟ الفتاة الوحيدة التي أحبها القلب! الصليب وضع نقطة النهاية في سطر الحب.
افترقنا بدون موعد ودون أن يكون بيننا وداع.. حبي لها بقي " عُذرياً " لم يتجاوز نظرة العين وخفقة الفؤاد.. احترمتُ موقفها وابتعدت.. لكن القلب لم يبتعد! الفراق كان الباب الوحيد الذي رأيناه مفتوحاً أمامنا.. فدخلناه!
ومع الأيام انطفأت أكثر الوجوه التي كنت أعرفها.. ذابت ملامحها وتناسخت مع وجوه أخرى.. إلاّ هي.. بقي طيفها في ذاكرتي يتحدى الفراق والنسيان والزمن.. رحلت عني.. وبقيت معي! تصورت بأن حياتي ستتوقف ولا أستطيع أن أُواكب الأيام من بعدها.. لكن عجلة الحياة كانت في دورانها الطبيعي.. وانقضت الأيام مسرعة.. هكذا انقضت.. فالحياة لا تتوقف عند نقطة.
أعود للحظات الواقع.. فوجئت بأني قد ذهبتُ بعيداً.. تخطيتُ حدود المدينة بكثير.. استدرتُ بسيارتي وسلكتُ طريق منزلي. سحبتُ السلسلة من عنق المرآة.. وقلت لنفسي:
هناك عنق آخر يستحق أن أُطوقه بها.. عنق ابنتي تيجان !