قصة قصيرة....... كُليزار أنور
الموعد*
بدأ المطر يهمي.. ناقراً زجاج نافذتي، وكأنهُ يذكرني بموعدي.. وكيف لي أن أنسى؟ فلو أمطرت الدنيا حصى لخرجتُ لموعدها ولو كلفَ ذلك حياتي. ارتديتُ معطفي المطري وخرجتُ من البيت. حينَ أطبقتُ الباب الخارجي للدار سمعتُ صوت أُمي يناديني:
_ إلى أين ستخرج يا وائل في هذا اليوم الماطر؟ هل أخذت معك واقية المطر؟
لم أجبها مواصلاً طريقي.. ماذا أفعل بواقية المطر ولواعج قلبي سيول عرمة أغرقتني العمر كله. بدأت الخطى تأخذني من طريقٍ إلى طريق والناس تسرع راكضة تتقي البلل بالجرائد وواقيات المطر لتعود إلى منازلها.. إلاّ أنا فخطواتي كانت بطيئة، هادئة.. لم أكن مهتماً كالناس بهمي المطر عليّ.. بل وجدتها فرصة لأن أدع العنان لأدمعي أن تأخذ مجراها دون أن أخجل منها.. ففي كل زمان ومكان يخجل الرجل من دموعه.. إنهُ يحاول دائماً أن يداريها بقدر المستطاع.. وللمرة الأولى لم أُدارِ دموعي ككل الرجال.. واختلط حينها دمع الأحداق مع دمع السماء.. فكم السماء رحيمة بنا.
مرت في مخيلتي صور الماضي القريب.. صوراً واضحة متميزة تترجم قصة حب تكلمت بأفصح لسان، بعثت في نفسي أشتاتاً من ذكرياتٍ مضت بمواكب أيامها كحلم. لقد أحببتها بعمق.. حب ملأ القلب وشغل الوجدان.. معها وجدتُ الحب بمثاليته وجماله.. وأمطرت علينا الدنيا ألفة ووئاماً.. إلاّ أن هذهِ الصورة بدأت تغشاها سحب من الظلال وغطتها خيم الأنين.. ساعتها انتحب القلب باكياً واستسلمت الأحداق لفيضان القلب فانهمرت دمعاً ماطراً حارقاً.. ففي مثل هذا اليوم قبل سنة تحطمت سفن آمالي وغرقت.. ولم يبقَ منها سوى ألواح متكسرة تذكرني بقسوة بما حلمتُ به وضاع مني. هكذا رسم القدر لوحتي.. غدر بي وتركني مجروحاً على شواطئ الأيام. تصورت في البداية ان الأيام كفيلة بأن تنسيني آلام قلبي.. لكن ما من أثرٍ للنسيان أستطيع أن أطويه حتى الآن.. وكأنها تمثال نُصب في وجود أيامي إلى الأبد.
وانقطع رذاذ المطر مع وصولي إلى المكان الذي حدده القدر للقائنا. فتحتُ بوابة الحصن الكبير.. لا أحد هناك! تأملتُ المكان شارداً في ملكوت اللاوجود، فإذا بأسيل تمد لي ذراعيها من بعيد.. اتجهت نحوها بشوق سنيني كله.. تأملتها.. كانت مرتدية ثوباً أبيض فضفاضاً، وشعرها الذهبي المنساب كشلال من نور على كتفيها.. وعينان تلوح فيهما سُحب من الحزن والألم.. أردتُ أن أقول لها أشياء كثيرة.. لكنني لم أستطع.. خانني حينها لساني.. أردتُ أن أقول لها.. ان دنياي من بعدها ارتدت ثوباً أسود بوجهي، وبأن كل شيء كان معها فقط رائعاً.. والآن كل ما كان رائعاً أصبح مظلماً ومريراً لأنها ليستْ فيه وليستْ معي.. وألقيت برأسي المتعب على صدرها، وشعرتُ بكفيها الناعمتين ترفع رأسي رويداً رويداً.. ومسحت بأطرافِ أناملها دمعات انسابت على وجنتيّ.. وتمتمت بحنين:
_ ما تصورتك أن تأتي يا وائل.. وفي هذا اليوم الماطر بالذات!
أحطتها بذراعيّ وكأنها جزء مني.. ولا أدري كم استمر ذلك.. وما شعرتُ إلاّ بيد تربت على كتفي.. التفت.. فإذا بشيخٍ مُسن يحاول أن يواسيني في ما أنا فيه، وتمتم بهدوء:
_ إنا لله و إنا إليه راجعون. كلنا لهذهِ الدار يا بني.. انهض وادعُ لها بالرحمة.
كنتُ أنظر إليه مندهشاً كمستيقظ من نومٍ عميق.. وكأني بكلامهِ هذا احاول أن أتمسك بتلابيب الواقع.. فما كنتُ فيه.. لم يكن سوى خيال يتراءى لي.. وأسيل.. لم تكن سوى طيف روح. وأبدى لي الواقع خلاف ما كنتُ أحلم.. نهضت بقلبٍ مكلوم.. ناولني هذا الشيخ بويصلات من النرجس.. وهمس بصوتٍ خافت.. أن أزرعها على قبرها. وكأنهُ لا يريد بحديثه أن يعكر سكون الموتى الأبدي.
وعندما بدأتُ أزرعها.. تلاشت سحب السماء، وأشرقت الشمس رائعة مضيئة.. وهبت نسمات الربيع من نهارٍ شباطي كماساتٍ برية جعلت كل أحزاني تلتمع تحت بريقها.
* "الموعد" أول قصة كتبتها ونشرتها عام 1995.