زجاج الوقت.. رواية لها هويتها الخاصة
كُليزار أنور
"زجاج الوقت" رواية للقاصة العراقية هدية حسين. رواية مشحونة المعاني والدلالات.. بالغة التكثيف. تمرغ مدادها في الألم والعذاب قبل أن ينتقل بالحروف على جسد الورق.. أحداثها تسير بخط بياني متناسق – رغم اختلاف أصواتها – يحسه القارئ وكيف تتطور الحكاية ومجرياتها وتداعياتها بانسيابية هادئة، فالقاص والروائي الذكي هو الذي يستخلص من الواقع ما يريد.. وإذا لم تدخل من نفق التخيل، فلن تسمى عملاً أدبياً.
تتكون الرواية من سبعة أجزاء.. لم تبوب رقمياً، بل كل جزء يبدأ بجملة مختارة بدقة وعناية وفهم لكتّاب معروفين (عبد الرزاق الربيعي، فرانسواز ساغان، ايزابيل الليندي، شكسبير، نازك الملائكة، أليس ووكر، وديع سعادة) أعطتها دلالة العناوين.
يبدأ الجزء الأول فيها براوٍ يمهد لسرد حكاية يصفها لنا – مقدما – بأنها ضرب من الخيال.. ويعدنا برواية جزءٍ منها لأنه لا يملك مفاتيحها الكاملة، وسيترك لـِ(حذام) زمام الأمور بسرد الحكاية، فهي الوحيدة التي تعرف ما جرى! مدخل قوي يبعث في النفس عنصر الدهشة ويغري القارئ بمتابعة الحكاية.. وتتجلى خيوطها، فالراوي امرأة اسمها (هداية) يفاجئها الوقت ذات نهار نيساني برجلٍ يقف قبالتها في شرفة منزلها.. رجلٍ يقول لها بأنه غادر هذا الزمن قبل أن يشبع منه، وبأنه كان يحبها في بداية القرن الماضي.. إذاً.. الوقت يتساقط ويتناثر زجاجاً من حولنا.. هل هو حلم أم كابوس.. ومتى ستستيقظ؟؟؟ وبعد أن تدعوه للجلوس يخبرها بأن اسمه (يونس) وبأنه وقف ذات يوم تحت نافذة غرفتها، فرآه أخوها.. أشبعه ضرباً.. واضطر إلى مغادرة القرية بناءً على قرار شيخ العشيرة التي ينتمي إليها. بدأت تتموج معه كأنها في حلم.. تتخيل ما يتحدث به إليها.. واستطاع أن يسحبها إلى عالمٍ لا يستقر على شيء. وتدعوه للنوم في غرفة أخيها الذي مات منذ سنوات، والتي كانت تسميها.. غرفة النهاية.
الجزء الثاني ترويه حذام ابنة أخيها تتحدث بكل صدق عن عائلتها.. والدها، عمها، زوجة أبيها.. وعن عمتها – محور الحكاية – وعن معاملة والدها القاسية لها.. وعن زواجها وطلاقها ومثابرتها على الدراسة وتخرجها من كلية الآداب عام 1975.. وعن محاولات عمتها في كتابة القصة القصيرة وكيف انها نشرت أغلبها في الصحف والمجلات وأثارت اهتمام النقاد في حينها.. لكن لسببٍ ما تجهله أهملت هذا الجانب وتحول اهتمامها إلى النباتات التي أنفقت عليها الكثير من المال والوقت.. إلى جانب شغفها بالقراءة وشراء الكتب.. وقد فاجأتها ذات يوم بكتابة رواية " ولم تخبرني عن موضوع روايتها، لكنها اكتفت بالقول بأنها ستقتص من الذين أساءوا إليها وتلاعبوا بمصيرها." ص33.
لقد ماتت أمها بحُمى النفاس، فاحتضنتها عمتها بمحبة فائضة إلى درجة أن تتوهم بأنها أنجبتها من رجلٍ مجهول.. وبأن الله عوضها بها عن كل ما مر في حياتها من خسارات. ربتها بعز ودلال.. وغمرتها بحنانها.. وكلما ازداد طولها كبرت عاطفتها نحوها ونمت أحلامها.. وكانت فعلاً الملاك الذي يحرس خطواتها. وتوصف لنا حذام أول حب مر في حياتها.. وهذا السيل العرم من العواطف الجياشة والكلمات الشاعرية.. نبحر معها في أمواج متلاطمة من الدفء العذب يكاد يسري إلى قلوبنا من فرط حساسيته الرقيقة. "كان بيدها كتاب.. سألتها عنه لأشغلها عني: - ما هذا؟ - رواية جديدة لكاتبة مغمورة تُدعى هدية حسين. ناولتني إياها. - "بنت الخان"؟ ولكنها ليست جديدة تماماً.. لاحظي سنة اصدارها؟ - كل كتاب لم أقرءه سابقاً هو جديد بالنسبة لي.. خصوصاً إذا كان رواية."ص51.
ما الذي تقصده الكاتبة بإدخال اسمها واسم إحدى رواياتها ضمن أحداث هذه الرواية؟ هل هو تعميق للذات الكاتبة أم انه مجرد إضاءة (نيون) حول أحد أعمالها؟ ولا أظنها تحتاج لذلك، فهي كاتبة معروفة ومجتهدة ومتميزة وتعتبر من أنشط الكاتبات – في الوقت الحالي – على الساحة العراقية.. وتواضع منها أن تصف نفسها بالمغمورة.
لم تكن هداية وحدها تروي الجزء الثالث، بل شاطرها (يونس).. عاد مرتدياً ثوب الخيال لينير أرق ليلتها المظلمة.. يروي لها بقية حكايته وكيفية خروجه من قريته – كانت تصغي له بإمعان – وكم سار ليلاً ونهاراً صحاري ووديان.. ولمدة خمسة أيام متتالية إلى أن وصل إلى بستان بعيد.. استضافه وأكرمه حارس البستان (الكردي) وزوجه ابنته (حظوظ) وأعطاه رسالة لصديق يعيش في مدينة أربيل.. وكانت حظوظ فاتحة خير عليه.. استقبله (كاكا هانا) بحب وترحاب وعاش بينهم كواحدٍ منهم "آه يا سيدتي ماذا أقول لكِ عنهم.. الناس هناك بلا أقنعة.. لا دسائس ولا حجْر على الكلام مع النساء.. النساء لهن منزلة وشأن.. ولهن بشرة كبشرة أوراق الورد، يغزلن أشواقهن بلا عُقد.." ص80. ويُرزق بصبيين يُسمي الأول (حسن) والثاني (دلشاد). الرواية اتخذت منذ بدايتها ثنائية الحلم والواقع.. وها هي تتمخض عن ثنائيات أُخرى تحمل أبعاد قومية وحضارية وإنسانية وكأنها غدت جسراً للتواصل بين الكردي والعربي، بين الجبل والسهل.. لتؤكد حقيقة تاريخية بأن العراق كان ولم يزل نبضاً قوياً بوحدة التراب.
حكاية تتداخل مع أخرى وصوت يتداخل مع الآخر.. ثلاث حكايات تتناسق بالسرد الصافي.. الكل تقمص دور شهرزاد (العمة، حذام، يونس) الكل يروي حكايته باستطراد واعي وتداخل جميل دون فتور أو فراغات.. تواصل يغري القارئ بالاستماع إلى النهاية.
ونسمع صوت حذام في الجزء الرابع وهي تهمس لنا انشغال عمتها بمشروع روايتها التي تكتبها.. وكم تغير أسلوب حياتها بعد أن بدأت بها، فيكفي انها وجدت شخصيات أخرى تخرجها من روتين حياتها الممل. وتنفرج الحكاية عن مفاجأة لنكتشف بأن ابنة أخيها اسمها (جنان) وما حذام هذه سوى شخصية من شخصيات الرواية.
ويعودان هداية ويونس في الجزء الخامس بتكملة السرد من حيث انتهوا. نتساءل: مَن الذي أوجد الآخر؟ هل هي التي خلقت شخصيته على الورق.. أم انه هو المحور الذي تدور حوله الأحداث؟؟ ومَن البطل بينهما.. أم الفضل كله يعود لصاحبة الفكرة أساساً.. وهي كاتبة الرواية. استدراج ذكي تتمتع به هدية حسين جعلتنا نتشبث بخيوط طائراتها الورقية في سماء أوهام أبطالها.. تتصيد شغفنا بالاستماع للحكاية.. صوت حذام يحمل مفاجأة جديدة في روايتها للجزء السادس.. لقد أُلقي القبض على عمتها، فقد وجدوا قتيلاً على باب بيتها واتضح انه من رجال الأمن الخاص.. وتضاربت أجوبتها وأُحيلت إلى مستشفى الأمراض العقلية.. وتكشف لنا سراً آخر بأن اسم عمتها (حسيبة فيصل)! وعندما فتشت في قوائم المستشفى عن اسم عمتها.. لم تجده!
وفي الفصل السابع والأخير.. تعود عمتها إلى المنزل جسداً بارداً، هزيلاً، واهناً، متقيحاً.. تتجاوز هذه الحالة بعد أسابيع من العلاج بمساعدة جنان، لكنها لا تتعافى .. وبقيت معتصمة بالصمت لا تريد أن تتحدث نهائياً عن ما حدث لها بالضبط.. وماتت بعد أشهر- لم يفاجئها موتها، فقد كانت ميتة منذ أول يوم رموها فيه عند الباب- ومات سرها معها.
* * *
رواية روت رواية.. وكلتاهما ملغزة بأسرار عالم يسكننا ونعيش فيه.. عالم ينطق بأسئلةٍ تضيع أجوبتها في كثافة ظلمة واقعنا المرير.
* "زجاج الوقت" رواية هدية حسين.. صدرت عن دار نارة للنشر والتوزيع/عمان/2006. www.postpoems.com/members/gulizaranwar