قراءة في مجموعة.. غياب لا مرئي

غياب لا مرئي.. حكايات بمستوى القصة

كُليزار أنور

الحرب، الموت، الضياع.. هي أهم السمات الرئيسية في البناء التعبيري لقصص المجموعة.. كل الشخصيات مضطهدة.. لا تعيش حياة طبيعية، لا تحقق ذاتها ووجودها، فالأرض معدة بعناصرها وهي التي نتجت الشخصيات هذه. أغلب القصص كُتبت بعد عام 2003.. أي بعد سقوط النظام العراقي.. واستطاع القاص سالم حميد أن يعبر عن أفكاره الخاصة إزاء كل ما حصل.. وأسهمت هذه الفترة بشكل محدد في صياغة الحكايات وعرض أزماتها بشيء من التركيز.

قصص رسمت خرائطها بوضوح تام.. والخرائط انعكاس عملي لِما نفكر به نحن كُتاب القصة والرواية المعاصرة.. معاناتها لم تأتِ من الفراغ.. بل أتت من خلال العيش في المأساة والمشاركة في إبداعها. ولا أدري ما الذي جعل الكاتب يقسم المجموعة إلى قسمين: تسعة قصص في قسمها الأول وسبعة في الثاني؟ ربما.. حاجة في نفس يعقوب! قصص حددت هدفها بسهولة، قال كل مايريد قوله بدون ترميز.. قصصه تتنفس في جو ديمقراطي تُهيء له حرية التفكير والتعبير والاكتشاف بدون أدنى خوف.

 العلامة

حكاية نحات وصل إلى قصر السلطان بفنه وذكائه.. وقضى عليه.. بالحيلة! نحت تمثالاً كبيرا له وأخذه بنفسه إلى السلطان، واتفق مع تلاميذه أن يحملوا المشاعل ويصعدوا الجبل هم وأهل القريةعند رؤيتهم النار. ووصل إلى السلطان بعدما اجتاز كل حواجز الحراس.. وأقنع السلطان بأنه ليس بتمثال له، بل.. انه تعويذة لخلوده.. وأقنعه بحرق التمثال فوق سطح القصر في منتصف الليلة عندما يغيب القمر. "بدا الجبل من بعيد، مثل زنجي في رقصة التضحية تحت أقدام الآلهة، وكان فتيل الضوء الصغير الذي يتألق في هامته كأنها ريشة باز ذهبية تلهو بها الريح، وتبدو المشاعل التي تلتف حول خاصرته كأقراص ذهبية تومض وتهتز مع حركة عجيزته الماجنة." ص 15. إنها ثورة الشعب عندما يريد القضاء على الطغيان، لكن هذا الشعب بحاجة لقدوة ذكية وصلت بفنها إلى ما أرادت، فكم من فنانٍ جريءٍ بيننا؟!

 المفتاح

إدانة للمقابر الجماعية التي آوت كل مَن خرج من بيته ولم يعد! بعد السقوط هرع كل مَن له غائب إلى دائرة المخابرات ليبحث في أضابيرها عن أدلة أو مقابر لأُناس غيبوا في سجون الظلام. وتفاجأ حين قرأ إحدى عناوين هذه الأضابير(ملف المخبر السري بلاسم علي ناصر) أي سبب دفعه للتخلص من شقيقه؟ واليوم يبحث عن رفاته! يحمل الرفات في تابوت ويأخذه إلى بيته.. وسط التعاويذ والبخور يُحضر لروح أخيه.. ويحضر! ويسأله عن سر موته؟ ويكون الجواب: سر موته أيضاً! ويوافق. في الصباح طلب النجدة من أهله.. وما أن فتح فمه حتى تقيأ سوائل مرة، فعرف انه سيتعذب مثل أخيه حتى الموت!

 بريد أهل الكهف

المعاناة مع التمثل الذهني تخلق انفصاماً نفسياً حاداً ينجم عنها قصة في غاية الشك كنزعة سلبية نتجتها الظروف.

 إله الحرب

حتى الآثار.. وشم الأجداد على الارض وصلتها ألسنة الحرب.. قذفت بحممها نحو مدنٍ ماتت منذ قرون. قدره جعل منه منقب آثار، لم يمت في كل المعارك التي شارك بها، ولم يصدق بأن نبوءة العراف سوف تتحقق كما قال له: ستموت وبسلاح حربي وبين مقبرتين قديمة وأخرى جديدة في أرضٍ وعرة. صرخة صديقه شرخت فرح المفاجأة بالعثور على تمثال إله الحرب: انتبه.. تحت قدمك لغم!

 سفينة الآخرة

حكاية حلم أو حقيقة مر بها بحار خلال الحرب العراقية الايرانية عندما استهدفت سفينتهم بالصواريخ.. لا يعرف ماذا حل برفاقه.. وجد نفسه وحيداً في قارب نجاة.. واجه البحر لوحده .. كتب مذكراته على نقود ورقية لآخر لحظة من حياته.. ولفظه البحر.. التقطته سفينة.. والمذكرات كشفت سر حكايته.

 صلاة الغائب

قصة جميلة ومتقنة الصياغة تبدأ وتنتهي من خلال شخصيتين وحدث. مزارع استغل طيبة وتخلف أهل قريته، فحدثهم عن منام: " جاءه رجل يرتدي ثياباً خضر، وله جبين أبيض عريض ينث نوراً أخضر يبهر العيون، وأمره أن يتوسط حقله، في منتصف الليل، وفي غياب القمر، ويحفر حتى يستخرج حجراً أخضرمدفوناً هناك، ففعل الشيخ ما أمر به سراً واستخرج حجراً محفوراً عليه علامات ورموز، وفي الصباح زف البشرى لأهل القرية، ونحروا في المكان الذبائح والقرابين، وعفرت النسوة اللائي لم يلدن أطفالاً بعد، ثيابهنّ بتراب الحفر. وبدأ البناء." ص 90. وكبر طفل من أهل القرية ودرس الهندسة وعندما عاد إلى قريته متسلحاً بالعلم، لم يستوعب الحكاية من أصلها. راوده شعور طاغٍ برؤية الصخرة التي وضعها المزارع سابقاً والشيخ حالياً في صندوق داخل شباك الضريح.. وبعد سنتين مات الشيخ، فصرخ فيهم المهندس ..وهدأ نحيب النساء.. صلى بهم صلاة الغائب .. وبعد المأتم بأيام أعلن لهم بأن الشيخ المبجل قد زاره في المنام وقال له بصوت رائق: عليك أن تفتح الصندوق في يوم الجمعة، أمام زوار المرقد وأهل القرية وفي وضح النهار!

 غياب لا مرئي

امرأة غادرها زوجها.. اختار طريق الغربة ورحل.. لم تنسه بقيت تعيش في جنازة الحب الضائع.. كل يوم تخطئ وتضع كوب شايه وكأنه ما زال موجوداً، ولم يغادر قط.

 حين يكتمل القمر

حكاية رسامة تنتظر نصيبها من الدنيا.. تقف بذهول شارد أمام قماش اللوحة.. ترسم بحراً وموجاً وشاطئ عذاب، وعندما يضيق بها الأمر تدخل إلى اللوحة وتتخذ مكاناً بين الصخور تجلس في فسحة رملية تتناوب على غسلها الأمواج.. تبقى ساكنة تحدق في اللاشيء. وعندما يفاجئها صوت رعد أو غروب شمس تستعيد توازنها.. تخرج من لوحتها.. ثم تذهب لتنام!

 "غياب لامرئي" مجموعة قصصية للكاتب سالم حميد/ صادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ 2007.

View gulizaranwar's Full Portfolio