أش ليبه دش.. إفضاء سردي

إش ليبه دش.. إفضاء سردي

كُليزار أنور

زيد الشهيد قاص عراقي له باع طويل في كتابة القصة القصيرة. بكالوريوس آداب (لغة انكليزية) جامعة بغداد/ 1983.أصدر ثلاث مجاميع قصصية (مدينة الحجر/ 1994 و حكايات عن الغرف المغلقة/2003 و فضاءات التيه/2004) وروايتان (سبت يا ثلاثاء/ 2006 و فراسخ لآهات تنتظر/ 2008) ومجموعة شعرية (أمي والسراويل/2003) ومجاميع منشورة في مواقع الكترونية.

ثمان قصص نحتتها الذاكرة.. يسردها القلب بحميمية وفاءً وإخلاصاً لمكان وزمان عاش فيه المؤلف، وينوه لذلك في المقدمة. ولدت هذه القصص (أبو طير، تضرعات واعدة، أحبك (ICH LIEBE DICH) ، احتراقات صامتة، تحت غيمة النسيان، عبير الحلم، مساء الاحتراقات) مع وصوله إلى اليمن وعمله في سلك التدريس للفترة من (1994 – 1997). سرد هادئ مثل الحكايات التي تُحكى ليالي الشتاء حول مدفأة بيت دافئ بالألفة والمحبة.

القصص كلها تعزف على وتر واحد.. حكايات حاكتها الذاكرة وألبسها القاص ثوب الواقع. نصغي باعجاب لصمت النص، فللصمت صوت. العنوان بحد ذاته لغز.. ندقق في الأحرف.. ماذا يعني؟ نفتح البوابة لنقرأ القصص ولنصل لحل لغز العنوان.

أبو طير

شاء القدر أن يُنَسب لمدرسة قرية (ذيبين) أحتفى به اهل القرية وكأنه هبط عليهم من كوكبٍ سمعوا به ولم يروه. حكى له شيخ القرية حكاية توارثوها منذ تسعة قرون.. حكاية رجل فاضل بنى لهم جامعاً في وسط القرية، وفي يوم وجدوه مقتولاً على قارعة الطريق. دفنوه أهل ذيبين وبنوا له ضريحاً. وصار قبره مزاراً. ومنذ يوم دفنه وقف طير فوق المنارة يطلق صوتاً متواصلاً –كلما وصل غريب للقرية- تارة تسمعه يسقسق كالعصفور وتارة يغرد كعندليب.

تضرعات واعدة

وصف جميل لطبيعة قرية ذيبين التي تقع بين جبلين شاهقين هما (كحل) و (الذروة). تأخر المطر على القرية.. شحبت الوجوه واستكانت النفوس.. جفت الأرض واصفرت الوريقات وذوت. دعوا كثيراً وذبحوا ثوراً وما هطل. " أوقدت الجدة حورية النار تحت القدر فاشتعل الحطب. وضعت الدقيق ثم سكبت الماء وانهمكت تدور بالمحواش الذي تمسكه بينما التفَّ الصبية حولها، تحكي لهم: " لا يأتي شيء يا أولاد دون ما يقابله. لا يمكن الأخذ من الحياة ما لم تعط، وهذا الحنش الضخم هو الوسيط الذي نبتغيه ليخاطب تلك الغيوم حتى تحنُّ علينا فتمنحنا الغيث. لهذا نحن نعمل العصيدة هذه فنهبها له لأجل وساطته." ص 27. وغدت (حورية) –حتى بعد موتها- شخصية متوهجة في ذاكرة أهالي ذيبين. كل شيء يمضي مع الزمن.. وتبقى الحكايا تُعاد وفي كل اعادة إضافة والإضافة تكبر يوم بعد آخر لتصل لدرجة الأسطورة.. والأسطورة موروثاً تتناقله الأجيال.

Ich Liebe Dich

اختارها القاص عنواناً لمجموعته.. ربما ليجذب القارئ للغز الأحرف، ولكي يبحث عن المعنى.. والمعنى لا يأتي سهلاً إلاّ بفتح دفتيّ الكتاب والقراءة.. والعنوان يعني (أحبك) بالألماني. هناك مبدأ في الكتابة القصصية يقول: "أخلق الشخصية ودع القصة ترى النور من خلال هذه الشخصية." ويبدو بأن القاص فعل هذا مع شخصياته وخاصةً هذه القصة، فـ(جبران) طالب ثانوية و(لورا) الألمانية ممرضة ضمن الكادر الطبي في مستوصف ذيبين. أدخلهما المؤلف في مدارات قصة حب ليوصل للقراء رسالة مفادها: أن الحب عاطفة إنسانية لا لون لها ولا جنسية.. الحب تواصل حضاري بإمكانه أن يصب ويتمازج ويتضامن في بحر المشاعر البشرية الرائع.

احتراقات صامتة

ننبش في رماد الذكريات بحثاً عن بعض الجمر لينبض الحياة فينا من جديد أملاً باستعادة حب من ماضٍ حتماً لن يعود. فاطمة وخارف قصة حبٍ انتهت بفراقهما، هي تزوجت من عبدالله وهو تزوج بأخرى. باتت أرملة وحيدة وأم لولدين بعد ثلاث سنوات. طلبها للزواج من جديد رغم انه أب لثلاثة أولاد وزوجة لم تُقصر معه. احتراق صامت يجول في دواخلها بين الرفض والقبول. وتُركت القصة مفتوحة لتأويل قارئها كل حسب هواه وما يتمنى . وهذا شيء جميل بحد ذاته عندما يقرر القاص ترك باب النهاية مفتوحاً.

عبير الحلم

قصة ملونة بألوان (روج) الشفاه وتدرجات البنفسج ومعطرة بأريج العشب والورود. وصف بلون القوس قزح.. وكأنك في كرنفال فرح. حكاية صديقين يقعان في حب (عبير) بائعة في محل للعطور وأدوات الزينة. سؤال يطرح نفسه: هي احبت مَن فيهما؟

مساء الاحتراقات

عندما يمضي العمر، وكلما اختلى الانسان مع نفسه في ساعة صفا ينهمر عليه فيض من الذكريات البعيدة. حكاية قاص –هو المؤلف- يضع نفسه في متون القصة "بين لحظةٍ وأختها تلتفت منى زارعةً نظرات تتحرى قسمات وجهي كأنها لم تصدق كوني قاصّاً له قدرة التخيل وصناعة الأحداث ثم سكبها على ورق الكتابة سعياً لخلق عالمٍ يُلهب مخيلة المتلقي ويأخذ به إلى دُنى المتعة والخيال حيث الزرع الناجز والحصاد المُنتظر." ص 70. (منى) حب المراهقة وايام الصبا. ما ظن بانه سيلتقي بها يوما ومصادفةً في إحدى دوائر البريد في صنعاء. يمضيا معاً من جديد وتكتشف بأنه صاحب قصة (عبير الحلم) المنشورة في الصفحة الثقافية في الصحيفة التي معه، وبفضول المرأة المعهود تسأل عن حقيقة القصة. ويأخذها في اليوم التالي إلى محل بيع العطور –مكان أحداث القصة- تشتري من المكتبة القريبة منها ثلاث نسخ من الجريدة "واحدة سأقرأها كقارئة لا تعرف كاتبها. وثانية كقارئة تعيش التفاصيل مع الكاتب. وثالثة أتقمص شخصية بطلة القصة لأسبر صدى الانفعالات والاحتراقات التي تراودها." ص 72. وفي يوم تغيب منى. تضع نقطة النهاية في سطر الحب.. تتأكد بأن عبير ليست شخصية مُختَلقة كما ادعى وإنها مجرد بطلة قصة، لم تستطع ان تُكمل معه الحكاية لأنها طُعِنَت يوماً من زوجها الذي مارس نفس الفعل مع فتاة تعمل معه. قررت أن تبقى هي ايضاً ذكرى طيبة وقصة سيكتبها المؤلف وسينشرها ذات يوم.

بحق كانت أجمل قصص المجموعة كسرد وحكاية وحبكة فنية ونهاية مفتوحة امتزج الخيال بالواقع، فلا تدري أي سطر نُقِلَ من القلب وأي سطر نقل بعربات الخيال!

*"إش ليبه دش" مجموعة قصصية للقاص زيد الشهيد صادرة عن دار تراسيم/ 2008. www.postpoems.com/members/gulizaranwar

View gulizaranwar's Full Portfolio