كم نحنُ بحاجة لإنسان صديق يسمعنا .. وعندما لا نجدهُ ، نلجأ إلى النفس ! مونولوج صاخب لامرأة وحيدة .. جعلت من نفسها صديقة لها _ تثرثر بكل شيء وأي شيء _ لتحرر نفسها من طوق الوحدة الذي يحاصرها . (( بعد أن غابت أُمي قالت جدتي لأبي : انها ذهبت لِشأنها مع عابر سبيل ! فشقيت بعدها ، لسوء حظي اني أشبه أمي كثيراً )) ص 7 . الوحدة بدأت بفقدان الأم ، ثم الأخ الصغير الذي غادر اثر حمى عصفت بجسدهِ الوردي (( قيل انها حمى الاشتياق لثدي الأم )) ص 8 . استعارت نفسها أولاً ، ومن ثم المذيع _ الذي استعارته _ من جهاز التلفاز ، إلى درجة أن تتخيله يقرأ لها وحدها نشرة الأخبار ! الثرثرة تقودها إلى الوهم .. والوهم لا يخلق سوى الخسارات ! بحرارة ولهفة وثقة أخذ يلثم قضبان شباك ( الإمام ) الفضية كي يكون شفيعاً لهُ بتحريرهِ من همومه الكثيرة التي يحملها فوق كتفيه المتعبتين . يدور .. يصلي .. يردد كل ما حفظه من آيات وأدعية مستنجداً بصاحب الشباك الفضي راجياً شفاعته في أهل بيته وقريته ، فالمحصول قد ضاع .. وابنه الصغير لم يشفَ بعد .. وابنه رجب ذهب جندياً (( الله الحافظ ، إنهم يعودون أحياناً .. نعم الجنود مَن غيرهم ، بلا أقدام يمشون عليها ، أو عيون يرون بها ، وربما بلا رؤوس.)) ص 16 . ويعلق على القضبان الفضية خرقة خضراء صغيرة وصية من ابنتهِ .. أن ترزق بصبي كي لا يتزوج زوجها عليها . ويُقبّل القضبان مستغيثاً ومعتذراً ، فقد كثرت طلباته . وقبلَ أن يغادر يهمس بوجل وحياء وكأنه سر غير قابل للإعلان (( دخيلك يا صاحب الغوث ، تتشفع _ للسمرة _ أظنني لم أُحدثك عنها _ جاموستنا _ المبرقشة . انها حامل بتوأم ، أخبرنا مفتش الصحة ، هي كل ما نملك وبعدها سيكون الجوع . )) ص 17 قدرنا أن نكون في زمنٍ يباع فيه كل شيء ! حتى الذاكرة ما عادت تُطيقها . استغربَ صاحب العربة ، لكنهُ اضطر صاغراً أمام إغراء المبلغ . وتُرافقه من شارع إلى شارع وهو ينادي : ذاكرة للبيع ! وتُقلب من يدٍ إلى يد ، ولا أحد يرضى بشرائها ، فالكل عندهم منها . وتعود عندما لم تجد مشترياً واحداً . ذاكرة هي أشبه بالعصا القديمة لأفكار بالية لا تتناسب مع متطلبات عصرٍ يضطرنا أن نركع إذا استوجب الأمر . (( لا . انتفضت ذاكرتي تصرخ بي : - أي هراء .. نركع. نمزق محاضر أحلامنا السرية .. نغتال تظاهرات الدم . أيمكن أن ننسى عصافير الأيام الهاربة من أقفاص الأسر . أنسيَ كل شيء . أنسيَ دمك الساخن المنفعل المأسور بين الأقفاص البعيدة )) ص 26 . هل يحق لنا أن نلغي ميراث الذاكرة ؟! قدرة سردية ممتازة .. تسترسل بصدق لتحكي عن هواجس امرأة أخذت الحرب منها ما كانت تخاف عليه ( زوجها وأطفالها ) . في الحرب تتشابه الأحزان ! وهذا الكرسي استخدمتهُ كرمز لمأساة امرأة أُخرى جلست عليه قبلها سبقتها في اللوعة ! تلاعب ذكي بالمفردات . لدى القاصّة إمكانية فذة بحياكة الأفكار الذكية . تحكي الكثير _ حتى ما لا يقال _ من ثم تستره بقناع خفي يسمى ( القصة ) ! ميت يعلن العصيان ويجلس خارج قبره ! مشكلته انهُ دفن في قبر غيره . فاجأتهُ الحرب ذات أحد .. لم يفر من قدره . وهل تعني الحرب سوى الموت ؟ وماذا في ذلك ، فالكل سيموت ! (( لم يسبق لي الاعتراض . أنا رجل مؤمن بالقدر ، لكني مؤمن بالقانون أيضاَ ، انهُ ينص على أن أمتلك بيت آخرتي . القانون يمنع الالتباس نحن الآن معاً اسمهُ وجسدي )) ص 74 . لم يعد يحتمل . كتب لافتة طبعها على أشرعة الريح مستغيثاً .. انهُ يطالب _ فقط _ بمن يبكيه .. أُمهُ وعصافيره الثلاثة . يؤلمهُ كل هذا الدمع الذي ليسَ من حقهِ ، بل لصاحب الاسم المرسوم على شاهدة القبر ! " عصيان متأخر " . فكرة رائعة لقصةٍ رائعة ! أجمل قصص المجموعة _ بنظري _ هل هو تحيّز للقطط ؟ ربما ، فكلانا يحبها ! سرد ممتع وجميل وشيّق يأخذنا بدون قيود لغوية إلى حيث ما أرادت الكاتبة أن تصل ونصل إليه ! " حتى " . برقية سريعة مفادها : لا أحد يسلم من الحرب .. حتى القطط .. هذهِ الحيوانات الأليفة والجميلة جداً . انها يوميات حرب سُجلت بحياد وموضوعية ، فلا مجال للخيال هنا ، لأن الكل عاش تفاصيلها . بدأت في بغداد ليلة 16 – 17 / كانون الثاني إلى 1 / آذار . طغى عليها الأسلوب الصحفي أكثر من القصصي . وقد عرفتها _ القاصّة _ في المقدمة كمادة صحفية . حكاية أرملة وابنتها في طقوس الغياب الذي فرضته الحرب عليهما . تتربصهما عيون امرأة أُخرى من نافذتها المطلة على بيتها ، جعلت من نوم الأرملة وانطفاء مصباح غرفتها توقيتاً لإسقاطها من الذهن . وبعد الليلة الأخيرة .. حدث شيء مربك في الشارع الذي تسكن . قالوا بأنها : اختفت أو هربت أو انتحرت ، لكن ابنتها تقول : أضاءت ! (( لم تظئ الأرملة نور نافذتها بعد تلك الليلة ، ليبقى متقداً في ذاكرتي ينبئني انني أنا الأُخرى أنتظر ليلة تمام أشواقي حين يحولنا الحب إلى ملائكة ساطعة حزينة . )) ص 114 . * * * وبعد قراءتي لآخر لوحة .. وقبلَ أن أُغادر المعرض .. أرغب بتسجيل إعجابي بعمق وبلاغة ما قرأت . أُثمن انحياز القاصّة للمرأة ، انحيازها لأنوثتها وصدق مشاعرها تجاه هذا السر الغامض في عينيّ الرجل الذي سيبقى يغريه التوقف عند شاطئها محاولاً _ منذ الأزل _ باكتشاف المجهول ! * " خطوط متقاطعة " . مجموعة قصصية للقاصّة ذكرى محمد نادر .. صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد / 2000 . www.postpoems.com/members/gulizaranwar |