مفخخة

Folder: 
قصص قصيرة

قصة قصيرة....... كُليزار أنور

 

مُفخَخَة*


 في لحظةٍ حاسمة قررت أن أضع حداً لِما أنا فيه.. تراكمات ترسبت في داخلي يوماً بعد آخر، كزلزال يريد أن يتحرر من الحمم التي تمور في أعماقه.
ركبتُ سيارتي ذات صباح مبهم المعالم.. وضعتُ ذاك الشريط الذي يحرقني ويحولني لرماد.. رحماكِ فيروز.. موسيقى الرحابنة تئن وأئن معها. الشوارع مغسولة بمطر الليلة الماضية.. السيارة تلهث وهي تصعد الطريق إلى هناك.. تقودني لذلك المكان الذي خسرتُ نفسي فيه.. نزلت من السيارة.. السكينة تغشى المكان.. وقفت على حافة المنحدر، منحدر شاهق.. أنظر من فوق نحو الوادي العميق.. غابة كثيفة من الشجر ممدودة الأفياء ويخترق الوادي درب عميق.
هنا فاتحني.. كم كنتُ ضعيفاً.. صديقي الذي قابلتهُ بعد ضياع دام عشر سنوات. اتصل بي فجأةً والتقينا بعد أيام. بنظارته الطبية الأنيقة يقف أمامي.. كنتُ أكن لهُ احتراماً عميقاً يصل حدود الحب. كان ابن منطقتي وزميل دراستي في الإعدادية والكلية، فقال بفرح وهو يحتضنني:
- أتعرف لم أنسك.. دائماً يلمع وجهك في ذاكرتي وينطفئ.. إلى أن قصدتك اليوم . قبل فترة وصلت العراق. 
ضحكة صغيرة ترتسم على شفتيّ وأقول له :
- للعمل.. أم لزيارة الأهل ؟
- الاثنين.
ما تزال ذكرى زمالته تحمل معها توهجاً دافئاً في قلبي.. كان وما زال يتمتع بسحرٍ أخاذ وبتصميم بالغ، باستطاعته أن يلهم المحبة.. كان لطيف المعشر، واسع الادراك، وغير ممل أبداً. مالَ نحوي وهمس في أُذني:
- لقد اخترتك _أنت بالذات_ لتعمل معي .
- وماذا سأعمل ؟
 رد بصوت متزن:
 - أنا سأقول لك في وقتها .
 - أعتبر ثقتك هذه مكافأة كبيرة لي .
 - الزمن كفيل بحلِ المشاكل.. أليسَ هو نفسه (الزمن) الذي أوجدها؟!
 - لا أعرف كيف أشكرك .
أغدق عليّ بالهدايا التي ادعى بأنهُ جلبها لي من الخارج.. فرحتُ كثيراً (بالموبايل) الذي أهداني إياه، كم كنتُ بحاجةٍ لهُ. لم أُفكر بأنهُ مجرد طُعم.. ولماذا سوء الظن، فقد كُنا صديقين حميمين  في الكلية.. هو ترك الدراسة في المرحلة الثانية وغادر.. أما أنا بقيت وتخرجت.. وماذا جنيت؟ لا شيء سوى البطالة والخيبة! أذرع الطرقات وأتسلى في المقاهي لأعود مساءً لأخواتي المسكينات.
وجدتها نجدة من السماء، فسألتهُ يوماً :
- وماذا بعد هذه الهدايا ؟
التفت مبتسماً :
 -لا تنسى.. أنت صديقي القديم .
 نظرت إليه ملء عينيّ وكأني أُؤكد عليه :
- لكنك افترقت عني سنين طويلة ولم تتذكرني حتى برسالة قصيرة.
فأردف دون أن يعطيني مجالاً للشك:
- حالتي المادية وقتها لم تكن جيدة.. وأول ما تحسنت فكرت فيك.. والأقربون أولى بالمعروف.
تعوذت في داخلي: يا ربي لِمَ سوء الظن.. ربما كذلك. انتبه لشرودي، فقال:
 - لا تفكر.. أنصحك.. عش حياتك يا عزيزي .. ودع أخواتك يعشنّ.. من حقك وحقهم التفكير بمستقبلكم في بلدٍ لا مستقبل به.
الأيام مرت بسرعة مدهشة.. والتقينا من جديد بعد اتفاق. بِبحة جميلة، مليئة بجاذبية غامضة قال:
- سآخذك إلى مكانٍ جميل .
عجلات السيارة تنهب الطرقات . خرجنا حدود المدينة.. وصلنا لطرفها الغربي.. نزلنا من السيارة. تداخلت الألوان المتدرجة على صفحة السماء. أضاءت عيناه بودٍ قديم.. عيناه صافيتان، ذكيتان، صريحتان، لكن بدا يتضح فيهما بعض الخبث.
 - أتعرف ما نوع عملك معي ؟
 - لا طبعاً .
 - عمل بسيط مجرد سيارات سنتركها هنا وهناك .
قالها وهو ينظر في عينيّ تماماً . نظرت إليه بقلق وسألت بخوف:
- ماذا ؟!
وتتكسر كل الأغصان المورقة في قلبي، ودون أن يتركني أشك في كلامه أضاف:
- انهُ عمل وطني .. إننا نقاوم الاحتلال .
ولَما رأى الدهشة في وجهي قال برخاوة يريد أن تمتص توتري:
- إن لم تفعلها سيفعلها مئة غيرك، لكنك أحوَج.. واخترتك لأنك صديقي، ولأني متأكد بأنك بحاجة ماسة لمجرد أن تعيش كإنسان.
 مضينا تحت الأشجار الصامتة كأنها شهود، واضعاً يديه في جيوب سترته الجلدية.. وقال دون أن يحوّل نظره عن شجرة الزيتون:
- انظر حولك.. كم سيارة مفخخة تنفجر كل يوم وكم عبوة ناسفة.
نظر إليّ بحيرة، ثم عاد ينظر إلى الشجرة.. نظرته تنتظر جوابي:
- لكن الضحايا ليسوا من الأمريكان في كل مرة.. الضحايا _دائماً وأغلبهم_ أُناس أبرياء من بلدنا.
مسحَ شعره بصورة آلية. وقال بصوت خافت، وهو يحاول أن يبتسم:
 - انهُ قدرهم أن ينتهي أجلهم هكذا.
 - ومَن السبب؟
تظاهر وكأنه لم يسمع ، ثم أدار وجهه ببطء:
- دع الأمر للمقادير!
السماء بهتت زرقتها.. إلاّ أن فيضاً من أشعة الشمس ما زال مليئ  بها. أتفرس فيه.. ما حول عينيه قد تجعد وتحول إلى لون داكن . يخلو وجهه من أي تعبير وكأنه لا يفكر بشيء. وكي أتحاشى النظر إليه كنتُ أنظر إلى السماء أو للسيارة أو حتى للعشب الذي نمشي عليه. لم أتفوه بكلمة.. كل الكلمات جمدت في حلقي ، قشعريرة مرت في جسدي وكأنها موجة برد تجتاحني فجأةً.. لم أقل شيئاً، مددت يدي بصعوبة لأفتح باب السيارة وأجلس. وركب هو أيضاً. نحتنا الصمت تمثالاً أمامنا لنعود إلى المدينة. أوصلني للبيت. ومضى دون أن ينطق حرفاً واحداً.  
 نور آخر المساء يبعث في داخلي أحاسيس غريبة لا أفهمها. هل استطاع أن يقنعني.. أن يرخي فكري وعقلي؟؟ تكدست في أعماقي جدران مهدومة. الشقاء أرخى سدوله الكئيبة على قلبي وجلله بالسواد. وهبط الليل.. ليل ثقيل وموحش. ضباب الحلم يتكاثف، فأغرق في حزني.. حتى الحزن فقدَ معناه! الدمع يثمر في أهداب هدأة ليلتي هذه. أُخبئ بين جنبيّ أمراً موجعاً، ليسَ باستطاعتي البوح به.. النار تأكل صدري.. مَن يطفئها؟!
 أسندتُ رأسي إلى النافذة.. أنظر إلى نقطةٍ ما من خلف الزجاج.. يبدو الليل كخيمةٍ سوداء قاتمة. الريح تعوي في الخارج . ياه.. كم تأخر الفجر. صوت سقوط المطر في أُذنيّ كأنهُ شلال خرز يتدفق. من ضمير الذاكرة ينبثق صوت عميق وتتدافع مشاعر الغضب في نفسي، فنطقت لا إرادياً: لا.
 موجة نسيم مرت من أمامي، تحمل لي معها صوتاً من بعيد.. آه.. انهُ صوتٌ قريب.. صوتٌ لا أتمالك نفسي أمامهُ.. وتراءت لي عاتبة حزينة.. غمرني خجل وأسف عميقان.
 وفجأةً انفتح العالم أمام عينيّ حدائق نور و ورود.. انهُ صوت أُمي أعادني للواقع. أركب السيارة ثانيةً .. أعود للوراء.. بأقصى سرعة أنطلق.. تجاوزت المنحدر.. وبدل أن تسقط في الوادي ارتفعت بي وكأنها طائرة أقلعت من مدرجها.. أنظر من الأعلى.. أشجار ذاك الوادي تبدو صغيرة وكأنها حشائش.. وواجهتني غيمة كبيرة.. قلت في نفسي .. ستخترقها، لكنها ارتفعت أكثر لتستقر عليها، لم أكن أنا مَن يقود السيارة، بل هي التي تقود نفسها.. نزلتْ.. أقدامي تغوص.. وكأنه ثلج.. أرى أُمي من بعيد.. تتدحرج دمعة على خدها .. تمسحها بهدوء.. وتأخذ بيدي.. نمشي خطوات في أرض القطن هذهِ.. نصل إلى ما قبل الحافة.. تُشير لي أن أنظر إلى تحت.. ونظرت.. كانت هناك سيارة _ما زالت_ تحترق في أسفل الوادي!


1. فازت بجائزة مسابقة إذاعة ( bbc) عام 2006.

2. فازت بالجائزة الأولى على المنطقة الشمالية في مسابقة الإبداع الأدبي عام 2008.

www.postpoems.com/members/gulizaranwar

 

View gulizaranwar's Full Portfolio
tags: