قصة قصيرة....... كُليزار أنور
حب و رعب
عندما استيقظت لم أجده ، فقد غادر إلى عمله.. رغم انه قد أُعلن _ليلة أمس_ حالة الطوارئ في المدينة. يعجبني التزامهُ وأحترمهُ إلى أبعد حد. ازدادت سرعة دقات قلبي.. انهُ الخوف عليه.
فتحتُ الانترنيت.. وجدتهُ أمامي على (الماسنجر):
_ كيفك حياتي ؟
_ لماذا ذهبت.. ألم يعلنوها عطلة ؟
_ (هههههههه .. عطلة الك). كل عام وانتِ الحب.
كتبتُ لهُ و رد عليّ بحديثٍ عادي، لكنهُ حميمي جداً. واستأذنتهُ لأفتحَ بريدي. وصلتني إيميلات كثيرة من أمريكا و ألمانيا و هولندا و من مصر و سوريا و اليمن.. كلها إيميلات إعجاب بكتاباتي. فتحتُ موقع (إيلاف) الإلكتروني، فوجدتُ الحوار الذي أجرتهُ معي قبلَ أيام، وقد عنونوه باسم (الكاتب العراقي لم تهزمهُ الحروب)!
لم تهزمهُ.. ولن تهزمهُ ، فالحرب قدر قد كُتبَ على جبينِ أحلامنا إلى الأبد. لو يعلمون.. أية معاناة نعيشها.. وأي رعب أشعرُ به الآن وهو هناك في مقرِ عملهِ في أخطر مكان من المدينة.
انتهى الدوام ، ولم يأتِ ! اتصل بعد الثانية ظهراً:
_ لقد أُغلقت الجسور .. لن أستطيع أن أعود إلى البيت .. سأبقى هنا الليلة.
رددت بغضب:
_ لا أعرف إلى أين سيقودنا التزامك هذا .
ضحك، ثم أردف:
_ (ديري بالك على نفسك). مع السلامة.
وغادر. دخلت المطبخ كي أُهيئ طعام الفطور .
رن موبايلي بعد ساعتين.. انهُ هو:
_ أين أنتِ ؟
_ في المطبخ .
_ هل انتهيتِ ؟
_ بقيَ القليل .
كان الالتزام شيء من طبعه ، بل جزء من سلوكه . ضحكَ من أعماق قلبه في مرح.. وتكلم معي بحديث لأول مرة يحدثني به. استغربت خروجه عن المألوف:
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ ما هذا ؟ ماذا تقول بالله عليك !
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ أرجوك ، فنحن صيام .
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ ألستَ صائماً ؟
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ ويحك ! إننا في رمضان!
_ دعيني أقل ما لم أقلهُ لكِ ذات يوم.
_ الأكل على النار .. دعني أذهب.
_ سأُكلمكِ بعد الفطور.
كنتُ مستغربة جداً وسعيدة جداً. هل هي الحرب تجعلهُ يلغي التزامهُ معي، فهل الحرب تفك القيود والمشاعر والأحاسيس؟؟! أم الخوف من أن يباغتنا الموت في لحظةٍ نجدها غير مناسبة ، فهناك الكثير الكثير الذي لم نقلهُ ولم نفعلهُ. أَم يا تُرى هو تحديٍ للقدر وانتصار نريد أن نحققهُ، فحينَ نواجه الشدائد.. يعني بأننا نحاول أن ننتصر عليها بحسنا الإنساني.
لم أعرف كيفَ فطرت، وكيفَ صليت ، وكيف أكملتُ عملي المنزلي. كنتُ أذكر الله في نفسي، قد تطمئن.. لا حول الله.. لي ربٌ يحميه.
اتصلتُ بهِ على موبايله، لكنهُ مغلق.. لم يكن مغلقاً ، بل شحنهُ قد انتهى. اتصلتُ به على الهاتف الأرضي:
_ مرحباً. كيفَ الوضع ؟
_ سيئ جداً .
_ هل فطرت ؟
_ نعم . وأنتِ ؟
_ نعم . أينَ ستنام ؟
_ على الأريكة .
_ الدنيا بَرد .
_ توجد مدفأة .
وبينما كنا نتحدث سمعت دوي اطلاقات نارية وانفجارات قوية وقريبة جداً.
_ يبدو بأنها (علقتْ). اذهبي سأتصل (بعدين).
مَنْ سيعيد دقات قلبي إلى وضعها الطبيعي. لم تبقَ آية لم أقرأها في نفسي.. قد تحفظهُ. يا إله .. أي رعبٍ نحنُ فيه.. وأية حروبٍ غُرسنا في تربتها إلى الأبد! أُحاول أن أتشاغل.. أُدير قنوات الأخبار (الجزيرة، العربية، أبو ظبي). ما لهذا الخوف يجثمُ على صدري كجدرانٍ ثقيلة. واتصلت مرة أُخرى. نفختُ في توتر، فلم يبقَ من رصيد هاتفي سوى دولارين ونصف:
_ كيفَ الوضع الآن ؟
صمتَ قليلاً ، ثم قالَ بسخرية حزينة:
_ بيني وبينكِ .. خفتُ كثيراً .
رددتُ مخففة عنه :
_ حقك ، فنحنُ بَشر يا عزيزي.. والضعف الإنساني طبيعة وليسَ عيباً.
_ حاولت أن أتصل، لكني لم أفلح .
_ ماذا هناك ؟
_ لا تعرفين مَن يهاجم مَن.. هل هم الأمريكان، أَم المقاومة، أم الإرهابين؟؟؟ ما عدنا نعرف!
_ إني قلقة جداً .
_ انهُ قدرنا .. ومن العبث أن يحاول المرء مقاومة القدر.
_ أكاد أبكي خوفاً عليك .
وكي يُخرجني من جو الحرب والحزن، غير الموضوع.
_ أسمعتِ آخر أُغنية لعاصي الحلاني و كارول صقر؟
_ رأيتها قبلَ قليل في قناة (روتانا).
_ إنها جميلة جداً.. سأُغنيها لكِ:
((قولي قولي جاي … بعَيّد أنا
حكيلي حكيلي حكاي بغَني أنا
حتى عمري يطول.. ألبي عني يقول
غيرك مش معقول حبوا أنــا)).
_ لن أستطيع أن أنام الليلة . أشعر بالبيتِ خاوٍ وبارد من حولي.. هل هي أنفاسك التي كانت تملؤه بالدفء.
_ يا ليتكِ كنتِ معي هنا .
_ في الجحيم الذي أنتَ فيه ؟
_ لكانت أعظم ليلة (ليلة حب و رعب)!
_ أهذا هو وقت الحب؟!
_ ما علينا.. ماذا تلبسين الآن ؟
_ ثوبي الذي غادرتني بهِ صباحاً.
_ لم تبدليه .
_ إلى أن تعود.
_ " .. .. .. .. .. .. .. .. " .
_ إننا في رمضان.
_ ألم نفطر ؟
_ لم تكلمني مثلما كلمتني اليوم بالذات.
رد بهدوء و ببساطة وكأنهُ يلقي حملاً:
_ أتعرفين.. اليوم شعرت بأنه من الممكن _في عز هذه الحرب اللعينة_ أن ننتهي فجأةً، فالموت يطوقنا من كل الجهات.. وأنا لم أقل لكِ كل شيء بعد. كم أتمنى أن تكوني الآن بجواري، فهناك أشياء كثيرة أُريد أن أبوح لكِ بها.
_ ما أكثر ما لم أقلهُ لكَ أنا أيضاً. أتعرف.. إنها أجمل ليلة لي معك.
أي شلال من الكلام العذب غمرني به.. شلال انهمر من سقفِ ليلةٍ ساخنة بالرصاص والبارود والقذائف والرعب والخوف.
وفجأةً.. انقطع الخط .. توووت.. توووت.. توووت.. .. انتهى الرصيد.
ملاحظة: ما بين الأقواس الصغيرة كلام لا يُكتب ولا يُقال، لكنهُ يُفهم بدون سؤال!
www.postpoems.com/members/gulizaranwar