قصة قصيرة....... كُليزار أنور
الابتسامة الدبلوماسية
تلفني موجة هادئة من الأمل الخفي منبعثة من تلك الرسائل التي بين يديّ.. رسائل أنيقة، عذبة، وهادفة أيضاً. وأي كاتب قراؤه هم أصدقاؤه الحقيقيون، هم مرآة نجاحه، فبالكلمة وحدها باستطاعتنا احتواء العالم بأكمله إن كانت صادقة ووضعت في مكانها.. والمتعة الفنية والحقيقية أن تثير إدراك القارئ.. ومتى ما وصلت إلى هذهِ النتيجة، فمعناه إنك قد حققت النجاح.
كلمات الإعجاب التي تكتبها لي أشاعت في كياني الدفء.. أشعلتْ فيَّ شيئاً جميلاً كانَ قد خمد في داخلي منذ زمن.. ماذا فعلتْ بي؟!
نحتُ لها تمثالاً في خيالي وجلستُ أتعبد في محرابهِ. وأتساءل: كيف استطاعت أن تشاغلني وأن تسحبني بذكاء إلى عالمها.. ورغم أني لم أتعرف عليها شخصياً إلاّ اني أحببتها وبصدق.. وفي كلماتها رأيت كل أحلامي ونسجتُ منها ستائر وردية.
ولكن، الرسائل انقطعت !
كقارب بدون شراع، هكذا كانَ حبي بلا أملٍ ورجاء. لا أدري ما معنى أن تهفوا قلوبنا لأُناسٍ لم نرهم من قبل ! ثمة شيء يشدني إليها.. أيكون فكرها، أم لغتها، أم إحساسها.. ربما كل هذهِ الأشياء مجتمعةً في نموذجها كـ(امرأة فكر).
دائماً الأشياء الغريبة تثير الشاعر.. وهو الذي يخلقها حتى وإن كانت غير موجودة.. بدأتُ أبحث عنها.. وكيفَ لي أن أبحث عنها وأنا لا أعرف حتى عنوانها.. كل ما أعرفهُ عنها.. اسمها الذي تدونهُ في ذيل الورقة.. وبدأتُ برحلة البحث عنها.. وكلما صادفتني فتاة تحمل اسمها أستقصي وراءها _بدون كلل أو ملل_ وفي النهاية أكتشف بأنها ليستْ مَن أبحث عنها.. وأبدأ رحلتي من جديد.. ولكن، إلى متى؟ فها قد مرت سنتان ولم أصل إليها!
تملكني حبٌ عظيم لم أستطع مقاومته.. خدمتني هذهِ الفتاة دون أن أدري.. وشعرتُ بأن تجربتي الشعرية قد نضجتْ وأكثر من ذي قبل.. وكل كتاباتي موجهة إليها.. أشكو منها لها.. وعبثاً ما أُحاول جذبها إلى شاطئي. لماذا نحلم ونرغب في الذي لا يجيء؟!
وجاءني ردها.. وحددت يوماً لزيارتي.. لم أكن أُصدق.. وبين لحظةٍ وأُخرى أسحب رسالتها من جيبي لأتأكد بأن ما أنا فيه ليسَ حلماً!
أندفع للقائها ملهوفاً.. أجري بسرعة لعلَ أقدامي تستطيع أن تلحق بأشواقي.. لكن، دون جدوى! سبقتها بالحضور.. تقدمتْ.. كان معها طفل.. أكيد انهُ أخوها الصغير _قلتُ في نفسي_ لِما بينهما من شبهٍ كبير.
لها محيا فاتن.. جلست وشبكتْ يداها على حقيبتها التي تتفق مع أناقتها.. وجهٌ حالم وعينان دافئتان.. وشعرها المنساب على جبينها قد صنع إطاراً رائعاً لهذا الوجه البريء.. ولكن ملامحها لا تفصح عن أي شوق.. وخُيل إليّ ان وقتاً طويلاً مَرّ قبلَ أن نتكلم.. وتمهيداً للحوار طرحتُ عليها سؤالاً تقليدياً:
_ كيفَ الحال ؟
فردت بابتسامة ضعيفة وباهتة.. وبدأتُ بالكلام.. حدثتها عن أشياء كثيرة.. عن الكتابة، عن الشعر، وعن الحب.. هذا الإحساس النبيل الذي يصنع المعجزات.. وأكملتْ هي بصوتٍ عميق دافئ تسرب بيسر لداخلي.. أتأمل رقة كلماتها وهي تتحدث عن شعري وفلسفتي وإعجابها الشديد بما أكتبه وتابعتها لِما أنشر.. وآخر جملة قالتها:
_ عندما تلتقي الفلسفة بالحب يولد الشعر .
_ كيفَ لا أكون فيلسوفاً وشاعراً _يا سيدتي_ ومداد قلمي (حبك)!
عيناها قد تسمرتا في نقطةٍ من الفضاء وأنا أُوضح لها ما أنا فيه وما فعلتهُ بي رسائلها وكلماتها الرقيقة.. ويرتفع حاجباها دهشةً.. لم ترد في البداية، بل وجدتها مصغية.. وكل ما كانت تفعلهُ هو الرد بابتسامةٍ دبلوماسية كانت تخفي خلفها رفضها الذي فهمتهُ.. رأيتُ في نظرتها الاعتذار لي قبل أن تنطق بذلك الصوت الخفيض المليء بالبراءة:
_ إن الحب شيء والإعجاب شيء آخر .
قالت ذلك بصدق ، ثم استدارت إليّ وتابعت :
_ أنا متزوجة.. وأُم .
شدَّت على كلمتها الأخيرة (أُم) وكأنها تُثبتها في الوجود.. الخيبة تُثقلني ويغرق جسدي في عرقٍ غزير.. حاولتُ أن أرد إلاّ أن كلماتي خرجت أنيناً.
اكتنفتنا غمرة من الصمت.. لم يكن لديّ ما أقولهُ أمام ما تفاجأت به. وابتسمتْ بألم وهي تشاهد ارتباكي.. حنيتُ برأسي معتذراً، فيبدو بأني كنتُ سجيناً وراء قضبان من الأوهام شكلتُها بنفسي!
www.postpoems.com/members/gulizaranwar