في آخر يوم
كُليزار أنور
بركان من الدهشة يتفجر في وجهي وتتوقف نظراتي على الاسم المدون على الكتاب.. أسحبهُ ببطء من على الرف وأقرأ غير مُصدق.. رانيا عزيز.. للمرة الأولى أحسست بأن ضربات قلبي يمكن أن تُسمع عن بُعد.. دفعتُ الثمن لصاحب المكتبة المشغول مع زبون آخر، ومضيت دون أن آخذ الباقي. أتكون هي بالفعل؟ أم مجرد تشابه أسماء! لم أكن مستغرباً.. فأنا أعرف كم هي مثقفة.. ولكنهُ وقع المفاجأة. فقدتُ القدرة على استيعاب ما يحدث لي ومعي.. لا أعرف إلى أين سأمضي.. كنتُ مضطرباً بعض الشيء وقلبي يخفق بشدة.. شعرتُ بتعبٍ شديد.. فقدماي تعجزان عن حملي.. عبرتُ إلى الجهة الأخرى من الشارع وسلكتُ طريق النهر.. لماذا؟ لا أدري! جلستُ على مقعدٍ حجري وفتحتُ الكتاب.. ومن أول عبارة عرفت بأنها هي لا غيرها.. بدأت والبدء تحول إلى استمرار.. كنتُ أتتبع كلماتها بأنفاس مبهورة.. تتصاعد لتصل الذروة وتهوي.. ألهث بهدوء وأنا أقرأ.. وأُواصل.. عيناي تسبق الكلمات.. ففي نفسي حاجة للاستمرار لأعرف إلى ماذا ستنهينا حكايتها. وفرغتُ منها.. لم تكن لها نهاية.. وضعتها مفتوحة.. لم تنهها! إذاً لماذا أنهتها معي قبل خمس سنوات؟!
_ ليمضِ كل منا في سبيله.
كانت كلماتها الأخيرة هذه باباً تغلقهُ بوجهي.. ولحظتها تفجرت كل الشرايين الموصلة إلى القلب من ذلك الجرح الذي سببته لي.. فماذا ترتجي من امرأة تقول لك وبصريح العبارة " أنت بخير و أنا بسلامة ". ما أسبابها؟ ما دوافعها؟ لم أعرفها! ولم أسألها! فربما في حياتها إنسان آخر.. وهل يفهم من كلامها غير ذلك. وحاولت أن أنس .. ولكن هيهات.. فهناك أشخاص ليست لدينا القدرة على نسيانهم مهما فعلوا بنا!
من آلاف الأسماء اختارت اسم " مروان " اسمي .. مواصفاته كمواصفاتي وبأدق التفاصيل.. حتى البداية وضعتها كما حدثت بالضبط وكما التقينا أول مرة.. كلانا وقف أمام أمينة المكتبة وطلب العنوان نفسه " هكذا تكلم زرادشت " لنيتشه، فقالت الأمينة:
_ مع الأسف لدينا نسخة واحدة .. أحدكما يأخذها؟
نظرت نحوي.. تراءى لي في عينيها رجاء حنون:
_ خذيه أنتِ أولاً وأنا بعدك .
فشكرتني ووعدتني بأنها لن تؤخره.. أبهرتني ملامحها الفاتنة لِما فيها من براءة صافية وشفافية عذبة.. وأسرتني ببريق تلك العينين الضاحكتين.. فأروع ما في الحياة أن تقابل امرأة عيونها تبتسم.. بالإضافة إلى أنها تقرأ لنيتشه!
أطوق الكتاب بيدي وأنظر إلى النهر الجاري.. ويجري نهر آخر في ذاكرتي.. وأسبح ضد التيار لأعود إلى المنبع.. وبما انها مثقفة وتحب الكتب فجعلتها سبباً للتقرب منها.. وامتدت بيننا صداقة فكرية.. فالذي يعجبني من المرأة جمالها وثقافتها.. وهذا ما وجدتهُ في رانيا.. فتاة تملك الشباب والجمال والوعي.. كم هو نادر هذا النموذج في حياتنا.. ومعها شعرت بأني التقيتُ بحُلمي.. وأوقد وجودها في قلبي شعلة أظنها لن تنطفئ.. ورغم ميلها نحوي إلاّ اني كنتُ أشك بمحبتها.. لأنها.. كالحلم.. وهل من الممكن أن تصبح الأحلام حقيقةً بين ليلةٍ وضحاها؟ ومرت على علاقتنا البريئة سنة.. تقول: " كنتُ بارداً معها وهذا البرود هو الذي اضطرها لكي تضع هي نقطة النهاية في سطر الحب.. فمتى كان الحب مجرد لقاءات وكتب وأفكار على الطريق .. فالحب أكبر وأقدس من ذلك ". معها حق.. ولكن ما لم تعرفه بأنها كانت تعني لي كل شيء.. واني كنتُ أعدل عن رأيي كلما هممتُ بمصارحتها خوفاً من أن تصدني وأخسرها إلى الأبد.. وخسرتها!
النسيم يحمل لي رائحة النهر.. كلما خلوتُ بنفسي.. أسترجع تلك الصور العالقة في ذهني والتي لم تبرحها ولن تبرحها.. تجذبني تلك الأيام التي لم يستطع أن يلفها رداء النسيان.. وبقيت كلماتها الأخيرة تنزف من ذلك الجرح.. مرت سنون وتلك الكلمات تتصارع بين عقلي وقلبي.. كانت رفضاً مؤكداً لي.. وكجراح لا تندمل بقيت نابضة بداخلي! ولم أجد سوى الدراسات العليا أملاً بالنجاة من بحر ذلك العذاب الذي وضعتني فيه.. وعندما فرغتُ منها لم أجد سوى الغربة باباً جديداً لأهرب به من حبها الذي لم يزل إلى الآن يخنقني!
تمتد يدي إلى جيبي.. جواز وبطاقة سفر إلى ألمانيا.. تذكرني بموعد المغادرة غداً.. وضعتُ البطاقة والجواز في الكتاب الذي عصر قلبي.. نظرتُ إلى السماء.. لم يبق من الشمس إلاّ حمرة داكنة في طرف الأفق الغربي.. دمعت عيناي وانهمرت في صمتٍ أبدي!
لا يعلم سوى الله كيف قضيتُ ليلتي الأخيرة في ديار الوطن.. فمطر الأسئلة الذي انهال عليّ لم يدعني أنام لحظة واحدة.. ألف لماذا تتزاحم في مخيلتي ولا جواب! وفي الصباح أخذتني الدروب نحوها.. تأملتها من بعيد.. كانت تتكلم مع أحدهم.. لم يتغير فيها أي شيء.. كما هي جميلة .
_ مرحباً .
_ أهلاً .
تلك " الأهلاً " كانت تحمل كل الحرارة والدفء المتوثب في قلبها.. وتداخلت مع ملامحها إمارات الشوق فنطقت اسمي بموسيقية:
_ مروان !
مددتُ لها يدي، فصافحتني ودعتني للجلوس.. عينان تلتمعان بالسعادة.. ابتسامتها الصادقة احتضنتني بكل ما فيها من وفاء.. لحظات سحرية لا نهاية لرقتها.. فكيف أصفها بكلمات؟!
_ عجباً مجيئك ؟!
_ لأسأل عنكِ .
_ بعد خمس سنوات ؟
_ …………………
_ لا أُصدق .. لا بد أن هناك شيئاً آخر ؟
_ نعم .. روايتكِ .
_ روايتي !
_ بالأمس فقط قرأتها .. كانت حكايتنا ؟
_ ……………
_ اني متأسف .. وأعتذر عما سببته لكِ من عذاب.. لكن..
_ لا يهم ، فالمهم إنك قد عدت .
_ عودتي جاءت بعد فوات الأوان يا رانيا.. التقينا من جديد ولكن في مفترق طرق.. سأرحل بعد ساعات.. وهذه بطاقتي وجواز سفري.
قلتها بصوتٍ ضعيف.. ضعيف جداً.. وكأنها تأتي من أعماق نفسي البعيدة.. اختفت ظلال الشوق وحلت باللحظات نفسها ظلال القلق والحيرة.. الضباب الأصفر زحف إلى تلك البشرة البيضاء والشحوب بدا واضحاً على محياها.. وكلبوةٍ جريحة التمعت عيناها بغشاوةٍ خفيفة من الدموع وهي تنظر إلى ما في يدي.. رفعت إليّ عينيها.. بكل ذلك العمق والسحر والسعة ولأول مرة أرى هذا الضياء رغم الظلمة التي أحطتُ بها حياتها.. استطاعت أن تسيطر على الموقف.. لم تنطق.. وأشاحت بوجهها صوب النافذة محاولةً بذلك أن تخفي ارتباكاً مفاجئاً طرأ عليها.. وقالت دون أن تلتفت:
_ لماذا أتيت إذاً ؟
_ أرسلني القدر.. لأغلق ذلك الباب الذي تركتِه مفتوحاً للقراء.
_ ………………
_ تكلمي ؟
_ ماذا أتكلم.. فقد أوصلتني إلى حدود تفصلنا وإلى الأبد.
كنتُ خائر القوى.. وأحاول قدر الإمكان أن أخفي ذلك.. رأيتُ الدموع في عينيها.. للمرة الثانية أخسرها ولا أستطيع الحراك .. كم أبدو قاسياً وضعيفاً.. لا أستطيع أن أفعل أي شيء.. ففي المرة الأولى تركتها خوفاً من أن تكون مرتبطة بآخر _ مجرد وهم و شك _ واليوم أتركها لأختار السفر.. طريق الهرب إلى المجهول! وأغمضتُ عينيّ لكي أمنع دمعة متحيرة تريد أن ………… ونزلت رغماً عني. جرحتها بقسوة.. وتذوقت دمعها، ومضيت!