عجلة النار
الإهداء
إلى . .
الراحل أبي ..
كنتُ كقطعةِ رخامٍ بيضاء صافية ..
وحبك كان االأزميل الذي نحت صورة
حياتي الجديدة ، فأبدع هذا الأزميـل
تمثالاً رائعاً .. إذ لولاك .. لولا اهتمامك
ورعايتك .. لبقيت مجرد قطعة رخـام
بيضـاء .. ومـا أكثر الرخـام حولنـا
ومـا أقل التماثيل !
قالت امرأة :
(( كيف لا تكون الحرب مقدسة وقد مات فيها ابني ؟ ))
مدخل رقم ( 1 )
آذار _ 1985
عاصفة الحرب بدأت .. دوي المدافع ، وأزيز الرصاص .. صاح أحدهم من بعيد : انهُ هجوم !
القنابل تنهمر بغزارة وسرعة وعشوائية .. وتفجر عموداً من التراب المشظى أمامي جراء الانفجار .. هكذا يتفجر المكان .. تشعر أن الأرض تنخسف ويرتعش الوجود أمامك بعنف .. وتتقيأ الأرض .. تقذف ما بداخلها .. كلّ هذا يحدث بسرعة لا تستوعبها .. تنقلب الموازين في لحظة وبشكل فظيع . سقطت دون وعي ، وتهنا في غياهب جبٍ عميق !
وبعد أن انتهت المعركة كما ظننا .. باغتونا فجراً وطوقونا .. وقع أقدامهم هو الذي أعادني إلى وعيي من جديد .. لا سبيل لمقاومتهم لأنهم أكثر منا . جمعونا نحن الأسرى وصفونا وأوثقوا أيدينا من الخلف .. كانوا يتكلمون الفارسية .. لم نفهم شيئاً مما يدور بينهم .. اقتادونا إلى مسافةٍ قريبة .
وجوههم منكمشة ، حزينة ، حاقدة ، وعيونهم غائرة في محاجر محاطة بالسواد المزرق .. بزاتهم العسكرية رثة ، بائسة .
يخيم الموت بجناحيه علينا .. كُنا خمسة .. طلبَ آمر المجموعة من أحدهم أن يربط عيوننا .. كنتُ الثاني على اليمين .. بدأ بصديقي .. باتساع عينيّ فتحتهما قبل أن تربطا .. فهذهِ المرة الأخيرة التي أرى بهما نور الحياة .
قال صديقي :
_ يبدو انهم سيعدموننا .
وصدق .. وصاح فيهم الآمر :
_ " شليك كُن " .
بدأ الرمي .. شعرت بأني أُصبت من أول إطلاقة .. فوقعت .. ولم أُحرك ساكناً .. امتزجت الألوان أمامي وغرقت في طية موج الغياب !
مدخل رقم ( 2 )
المستشفى العسكري في بغداد
آذار _ 1995
يدخل الممرض في غرفة رقم ( 7 ) المشغولة منذ عشر سنوات من قبل الضابط المجند راغب عبد السلام ليبدل له المصل كلما احتاج جسمه لذلك . يفاجأ بأن الحياة بدأت تسري في عروقه .. يخرج مسرعاً .. ينادي الأطباء باندهاش :
_ لقد استفاق ، استفاق أخيراً !
يسمع الدكتور خالد .. يترك ما في يديه ، ويسرع متقدماً نحو آخر غرفة في الممر . كان يتمتم مع نفسه : الحمد لله .. الحمد لله .
تبعهُ الدكتور مزاحم وبعدهُ الدكتور رائد .. فحصهُ الدكتور خالد .. وقاس ضغطه .. التفت إلى الدكتور مزاحم :
_ فعلاً استفاق .. انتهت الـ ( Coma ) * . الحمد لله .. لا بد أن نتصل بأهلهِ .. حتماً سيفرحون بذلك كثيراً ، فقد عاد ابنهم إلى الحياة ثانيةً !
فتح عينيه ببطء .. نظراته تلتفت يميناً ويساراً .. أينَ هو ؟ .. مَن هؤلاء ؟ .. انهُ لا يدرك شيئاً !
* ( Coma ) . الغيبوبة . حالة علمية طبية يتعرض لها الإنسان تجعله يغيب عن الوعي لمدة غير محددة قد تطول أو تقصر .
(( الجزء الأول ))
_ 1 _
ستار كثيف من الغشاوة متكوّن أمامي .. ليسَ باستطاعتي النفاذ منه .. فقط هي صورة مشوشة تومض .. وكأني غارق في دوامة مفاجئة .. فتحتُ عينيّ .. أشباح حولي .. ليستْ لديّ القدرة على تمييز أحدهم .. أغلقتهما ثانيةً . أسمع أصواتاً تتحدث ، ما يشبه الصخب ، لكنها مبهمة .. ما هذا ؟ أينَ أنا ؟!
وفجأةً شعرتُ بكفين تحتضنان ذراعيّ وتنتقلان إلى رأسي ، إلى شعري .. وشعرتُ بشفاهٍ تُقبل فمي وخديّ وعينيّ .. تلثم كلّ وجهي . أفتح عينيّ .. أحاول جاهداً أن أتذكر شيئاً ، أي شيء .. لكن لا جدوى ! فأغلقهما ، سمعتُ أول كلمة بوضوح " راغب " .
أُركز على هذا اللفظ ، قد يفتح لي شقاً صغيراً أستطيع أن أنفذ منه إلى الوعي .. وأسمعها مرة أخرى :
_ راغب .. راغب حبيبي .. راغب .
سمعتها هذه المرة بشجن .. وتداخل صوت آخر :
_ أرجوك بهدوء .. دعهُ الآن !
فتحتُ عينيّ لأتبين .. ثبتت نظراتي على وجهٍ قبالتي .. شيء ما يشدني إليه .. شعرتُ منه بأن الوعي قد قدح .. رأيت ما يلمع كضوءِ سراجٍ صغير .. بدأ النور يزداد .. يزداد .. يتسع أكثر في ذاكرتي ، فنطقت بصعوبة : _ مصطفى .
_ نعم .. نعم .. أنا مصطفى .. أخوك .. أرجوك .. قُمْ يا راغب .. قم .. لا تغب ثانيةً في اللاوعي ، فأنا بحاجةٍ إليك .
وأجهشَ بالبكاء على صدري .. شعرتُ بِمَن يسحبهُ .. وسمعتُ صوتاً يُهدئه .
حاولت أن أنهض .. ووجدتُ مَن يساعدني في ذلك .. جلست في تلك اللحظة أحسست وكأن الأرض تخسف بي ، ولا أدري أية دهاليز مظلمة تسحبني .. وغرقت في دوامة جديدة .. أغمضتُ عينيّ مرة أخرى قد أستطيع التركيز أكثر .. وأفتحهما .. يقابلني وجهه .. ما أن رأيتُ دموعه ، حتى شعرتُ بأني أريد أن أندفع إليه ، أن آخذه بين ذراعيّ وأُقبل رأسه .. تقدم نحوي .. وحضنني بقوة .. لا أعرف كم استغرقنا في ذلك .. كل مَنْ حولنا كان يبكي .. بدأت أسمع بوضوح .. وأستوعب شيئاً فشيئاً .
الغرفة مليئة ، مزدحمة بالناس .. ومن أرديتهم البيضاء عرفت أني في مستشفى .. وتقدم أحدهم نحونا .. يبدو بأنهُ أكبرهم سناً .. هنأني أولاً .. وقبلني في جبيني .. وهنأ أخي .. ووجه كلامه لمصطفى :
_ الحمد لله .. انتهت الحالة .. وسيبقى راغب معنا لأيام إلى أن تستقر حالته الصحية .. وبعدها سيغادرنا ..
وربت على كتفي .. وواصل كلامه مُمازحاً :
_ ومع ألف سلامة !
_ 2 _
أجريت لي فحوصات عديدة وتحليلات وجدوا أنها ضرورية مع اهتمام غير عادي من الكادر الطبي في المستشفى ، كنتُ أُعامل بحفاوة وعناية مركزة وخاصةً من قِبل الأطباء .
في مساء اليوم الثالث ، دخلَ عليّ الدكتور خالد .. فنهضت قليلاً .. جلس على طرف سريري .. وقال بطيبة :
_ لم آتِ لمعاينتك .. بل لأتحدث معك .
فقلت :
_ أهلاً وسهلاً بك .. وفي أي وقت .
_ ما الذي تتذكرهُ بالضبط ؟
_ لا أدري .. صور معينة تومض في فكري ، تبرق للحظة وتغيب .
_ وما هي ؟
_ صور أُمي .. وأُختي حنان .. خطيبتي وفاء .. صديقي عامر .. وأصفاها صورة أُمي ، وحنان أختي .
_ وبعد ؟
_ لا شيء .. ما هناك يا دكتور .. لماذا أنا هنا ؟؟
_ ألديك استعداد للسماع ؟
_ سماع ماذا ؟
_ حكاية الضابط المجند " راغب عبد السلام " !
حين قال " الضابط المجند " تذكرت لحظة الهجوم .. بدأت الصورة بنقطة ، واتسعت .. كبرت أمامي .. صورة النار .. وأزيز الرصاص .. وانفجار القنابل .. وصوت آمر المجموعة وهو يصرخ " شليك كُن " . واختفت الصورة . فصرخت بشكل لا إرادي :
_ لا .. لا .. لا أُريد السماع .
وأغيب في اللاوعي !
في الصباح استيقظت متأخراً .. تأثير المخدر مازال مسيطراً على تفكيري وجسدي .. ويكفي إحساسي بالاستيقاظ لأن تتشكل ألف علامة استفهام في مخيلتي وألف تعجب أخرى تزاحمها .. لكن لا جواب !
بعدها وجدتُ أخي مصطفى جالساً بقربي .. ينظر إليّ ملياً :
_ هل أنت بخير ؟
_ لا أدري !
استعدلت .. حاولتُ أن أنهض لأذهب إلى الحمام .. فتهاوت قواي .. أسندني مصطفى .. فوضعتُ رأسي على كتفه .. وبكيت .. قلت بألم :
_ ماذا حصل ؟
_ لم يحصل أي شيء !
أمرٌ واحد يلح ويتعمق في نفسي ولا أجرؤ _ حتى _ أن أسأل عنه .. كنتُ مستغرباً من كل شيء حولي .. وقبل أن أُبينه بادرني :
_ راغب .. أُريد أن أُوضح لك بأن الزيارة ممنوعة عنك إلى أن تستقر حالتك .. فلا تسألني عن أحد الآن .. اصبر قليلاً وستراهم . جميعهم بانتظارك بعد أيام في البيت ، بالإضافة إلى شخصين آخرين انضما لعائلتنا .. زوجتي فاتن .. وابني راغب .
_ " راغب " ؟!
_ راغب .. عمره سبع سنوات .. ولدٌ لطيف .. أتعرف بأنهُ يشبهك .
_ ومتى تزوجت ومتى رزقت بولد .. ومتى كبر ؟؟؟ ماذا هناك ؟!
وشعرت بأنه يحاول أن يُداري خطأً وقع فيه دون أن يدري ، فأجاب بابتسامة :
_ اني أمزح معك .. أصدقتْ ؟!
_ 3 _
بقيت كلمات مصطفى تراود مخيلتي .. تغيب لتظهر .. ولأول مرة بدأت أستعيد صورته .. لقد تغيرت .. أو هكذا يبدو لي .. وفي زحمة الأفكار .. دخل عليّ الدكتور خالد ثانيةً ليقطعها .. وما أن أطبق الباب حتى التفت نحوي وابتسم :
_ سنسهر معاً الليلة .. هل تسمح ؟
لم أنطق .. أجبت بابتسامة .. ربما خوفاً .. لكن ، الخوف من ماذا وأي شيء ؟!
_ أتعرف منذ متى وأنا أعرفك ؟!
أردت أن أقول له : _ منذ أيام طبعاً ، فأكمل قبل أن أرد عليه :
_ منذ ست سنوات .
_ وأين ؟
_ هنا .. وفي هذه الغرفة .
سأحكي لك حكايتك .. وما عليك إلاّ أن تصغي إليّ لتتبين أمرك بعدها ، وليكون باستطاعتك الخروج من هذه الدوامة التي تشكلت حولك .
صمت قليلاً .. وأخرجَ سيكارة من العلبة .. وأشعلها .. ثم سحبَ نفساً عميقاً منها ، نهض من الكرسي ومشى ببطء نحو النافذة .. وواصل حديثه بنبرةٍ حزينة :
_ سأحكي لك حكاية هي أغرب من الخيال لكل مَن يسمعها .. لكنها حدثت فعلاً وأصبحت أمراً واقعاً .. وكم من الواقع يضاهي _ حتى _ الخيال ؟!
لم يلتفت ، استمر بالسرد :
_ قبل عشر سنوات من الآن وبعد هجوم عنيف وقعتَ أسيراً مع مَنْ بقي من أفراد كتيبتك .. كنتم خمسة .. وبدلاً من أن يأخذونكم معهم أمر الآمر بإعدامكم .. هكذا وبكل قسوة .. وكأنكم طيور قد اصطادها ! وخلافاً لكل الأعراف والدساتير .. يطلق الرصاص .. والخمسة يسقطون .. وأنت معهم .. لكنك ، ومن حُسنِ حظك لم تمت .. بل حتى أن الرصاصة لم تصبك !
ويتركونكم في العراء ويغادرون بلا رحمة ولا إنسانية .. ويأتي الجيش العراقي لعملية الإخلاء ويجدونك حياً بينهم ، لكنك لا تعي من الحياة شيئاً .. تُنقل إلى الخلفيات .. ومن بعدها إلى هنا ! كُنتَ حالة نادرة جداً فأخذتَ حيزاً كبيراً من الاهتمام . والذي تولى علاجك أول الأمر الدكتور فوزي رحمه الله .. الدكتور فوزي كان أباً لسبع بنات وولد واحد .. اسمهُ حيدر . وهذا الولد كان من ضمن الخمسة الذين أُعدموا وأنت معهم .. يا للصدفة ويا للقدر الذي جمعكما ! ابنه استشهد وأنت حي .. حي بالروح فقط .. حاول معك .. وبكل طرق العلاج .. ولم يفد ! .. فقد دخلت الغيبوبة ( Coma ) كما تُسمى طبياً وعلمياً . وتبقى في المستشفى ويتولى الدكتور فوزي رعايتك .. وكأن الله عوضه بك غياب ابنه الوحيد . ولولا القدر الذي وقع بهذا الشكل لَما بقيتَ على قيد الحياة !
كنتُ أصغي باستغراب لأتوصل إلى نتيجة لِما أنا فيه .. تقدم نحوي .. جلس بجانبي ومدّ يده إلى وجهي .. تحت عينيّ بالضبط ليمسحَ بأنامله دموعاً فرت من مقلتيّ دون أن أدري . وأكمل :
_ وبعد أن انتهت الحرب ..
لم أدعه يكمل حين سمعت هذه الكلمات .. قاطعتهُ بفرحٍ لا يوصف :
_ وهل انتهت ؟ ومتى ؟!
_ نعم انتهت يا راغب .. فمهما طالت الحرب لابد أن تنتهي في يومٍ ما . انتهت بتاريخ جميل جداً .. 8 / 8 / 1988 . كان يوماً غالياً وعزيزاً حُفر بأحرف الأمان والعز في قلوب العراقيين أجمع !
دماء السعادة سرت في شراييني .. نسيت حزني وألمي وغرابة ما أسمع وقلت له : أكمل . استمتاعاً .. وكأني شهريار يسمع بإصغاء لِما ترويه شهرزاد من حكايا ألف ليلةٍ وليلة !
_ عدنا من الجبهة بعد أن انتهت الحرب .. وباشرتُ هنا في أواخر آذار 1989 . ومن أول يوم عرفت حكايتك معه .. رواها لي الدكتور فوزي وبكامل تفاصيلها .. أثرتَ اهتمامي كحالة نادرة .. وبدأت أتابعك من خلاله . كان يحبك وبدرجة لا توصف .. لا يسمع لأحدٍ غيره أن يرعاك .. بنفسه يغير لك زجاجات المصل ، وكل ما تحتاجه من رعاية طبية وبدنية .. وكثيراً ، كثيراً ما ضبطتهُ وهو يناجيك .. يكلمك .. ويبكي على صدرك .
أي حبٍ جعله الله في قلبه تجاهك .. وكم مرة قالها لي : _ لو مت راغب أمانة في رقبتك.
صمت برهة ثم واصل بنبرةٍ هادئة :
_ قلب المؤمن دليله .. هكذا يقولون .. هل كان يعلم بأنهُ سيفارقنا ؟! بعد سنةٍ من انتقالي إلى هنا تعرضَ الدكتور فوزي لحادث سيارة .. وافاه الأجل ومات ! يومها _ ولأول مرة _ شعرت بثقل الأمانة ! تمثلت أمامي جملته آلاف المرات " لو مت راغب أمانة في رقبتك " .
وانتقل ذلك الحب إلى قلبي وكأن الله أماته في قلب وأحياه في آخر ! وبدأت أرعاك جدياً وكأنك وليدي !
أتعرف يوم أفقت .. أول مكان قصدته بعد أن غادرتك .. مثواه .. نعم مثواه ! ذهبتُ إليه لأبشره .. وقفت أمام شاهدة قبره .. قلت له وكأني أراه أمامي :
_ راغب استفاق من غيبوبته .. فاق !
أتصدقني لو قلت لك بأني سمعتهُ وشاهدته يهلل فرحاً : " لقد عاد حيدر ، عاد حيدر " !
كان واثقاً بأنك ستعود .. ستعود يوماً ما إلى الحياة !
هذه المرة وجدتُ الدموع في عينيه هو .. فنهضت ولم تخر قواي .. بل وقفت بصلابة .. تحركت .. تراجع إلى الخلف .. مشيت بهدوء نحوه ، فأشر لي بيده .. تقدم .. تعال .. وكأنه أُم فرحة بمشية طفلها لأول مرة ! ووصلت إليه .. حضنني بقوة .. وبكينا !
_ 4 _
غادرت المستشفى بعد أيام مع أخي وابن عمي عدنان .. لأبدأ الحياة بعمرٍ جديد .. ركبت السيارة بجانب مصطفى ..
كنتُ أنظر من النافذة متعجباً كبدوي يحل بالمدينة لأول مرة ! كل شيء قد تغير .. المباني .. الشوارع .. كل شيء .. وحتى الناس بملابسهم وتسريحاتهم الجديدة .. نظرت إلى أخي .. قَصَة شعره مدفوعة إلى الوراء .. ابتسمت مع نفسي .. وفجأة باغتني بقوله :
_ فلنتنزه قليلاً ، ألم تَشُقْكَ بغداد ؟
سعدت لأن المعالم الرئيسية في بغداد لم تتغير .. والتغيير حصل في التفاصيل الصغيرة فقط .. وكُنا وصلنا حينها إلى ساحة التحرير ( نصب الحرية ) قلب بغداد _ كما أظن _ قلت له :
_ درّ بنا حول الساحة .
وفي كلّ دورة كنت أرى جواد سليم يلوح لي بيده !
_ لنعد إلى البيت .. فلي شوق كبير لأمي ولحنان .. فمازحني قائلاً :
_ فقط . وأكمل :
_ نحن في الطريق إليه .
فقلت باستغراب :
_ هذا الطريق لا يؤدي إلى منطقتنا .
_ لقد انتقلنا إلى زيونة _ حي الضباط .
_ لماذا ؟
لم يجبني .. وأوقف السيارة أمام بيتٍ كبير ذي بوابةٍ سوداء ! دخلت البيت .. عيناي تمسحان المكان تبحثان عن أمي بين الحضور .. تمنيت أن أجدها لأرتمي بين أحضانها .. استقبلتني سيدة جميلة بحفاوة .. عرفتُ فيما بعد بأنها زوجة أخي . شعرتهُ موحشاً .. صحراء وتهت فيها .. تقدمَ نحوي طفلٌ رائع ، قبلني بقوة كأنه يعرفني منذ سنين .. لم أسأل أينَ هم .. لأني كنت أتوقع أن أراهم أمامي .. وخاب ظني ! فقال ابن عمي ليضفي على الجو بعض المرح ، وربما لأنه شعر بما أفكر به :
_ زوجة عمي عند ابنة عمي في البصرة وستعود قريباً .
_ أيعقل ؟!
_ حقك .. فأنت لا تدري بأن حنان قد تزوجت في البصرة وأنها الآن تستقبل مولودها الأول .
لم أُصدق ما يقولهُ رغم محاولته في أن يكون طبيعياً بكلامه .
قضينا الوقت إلى المساء معاً .. تناولنا عشاءنا واستحممت .. ولا أدري لِمَ شعرت بالغربة !
دلني مصطفى إلى غرفتي .. لم يكن فيها أي شيء مما تركته سوى صورتي المعلقة في صدر الغرفة . السرير ليسَ بذاك السرير ولا الستائر ولا الشراشف .. وأحسست بأني دخلت غرفة فندق وليسَ غرفتي ! ربما شَعر مصطفى بما راودني فقال :
_ لأتركك تستريح ..
فقلت بغضب :
_ ألا يكفي اني استرحت عشر سنين .. مصطفى .. بيتنا ينقصهُ ثلاثة .. وأهم ثلاثة .. أُمي .. حنان .. وفاء .. لا تتصور بأني اقتنعت بالتمثيلية التي أعدها عدنان .
لم يرد .. بقي صامتاً مثل تمثال نُصب في زمن الأبدية . فأكملت :
_ ما الأمر ؟ .. أرجوك مصطفى .. لا تزد من عذابي .. أنت لا تعرف بأن صورتك يؤطرها إطار أسود رغم السعادة التي تحاول أن تظهرها .. عيناك حزينتان .. مليئتان بالدموع ومنذ أول لحظة رأيتك فيها .. وكأنهما مرساة غرقت فيهما ألف سفينة !
قلت كلماتي بكل ما في قلبي من ألم وحزن .. وما أن توقفت حتى اندفع نحوي .. احتضنني بقوة وبكى .. بكاؤه كان دليلاً واضحاً بأن ما يخبئه عني أمرٌ خطير !
وشاح أسود غطى جسد ليلتي الأولى في بيتي ، فأي عمر جديد يستقبلني !
_ 5 _
كل شيء هادئ .. إلاّ الفكر .. لم أستطع أن أُحدد مساره إلى الآن .. القلق أكبر مني ، كنت أتصور حين أعود إلى البيت وأدخل غرفتي سأجد معظم أشيائي القديمة .. وسيغمرني شعور بالارتياح كمن له ماضٍ وعاد إليه .. لكني حين عدت لم أجد سوى مستقبل لا أعرف كيفَ سيخط مصيري !
استلقيت على سريري لآخذ لنفسي بعض الراحة من جراء كل ما حدث وسيحدث لي .. ما أن أغمضتُ عينيّ حتى التقيتها .. التقيت ذاك الوجه المختبئ في عمق ذاكرتي .. صدى صوتها يناديني من بعيد .. راغب .. راغب .. أشعر به .. صوتٌ أعرفهُ .. انهُ قريب مني .. يفوق كل الأصوات .. أركض نحوه لعلني أُدركه .. وأصل إليها .. أُمي .. أجدها كما تركتها .. جميلة ، حنونة ، طيبة ، تبرق عيناها بالحنان ، وتتحرك الشفتان بابتسامة .. ألقيت رأسي المتعب على كتفها فطوقتني بذراعيّها وضمتني إلى صدرها بقوة .. ومر وقت طويل وهي ممسكة بي وكأنها خائفة عليّ .. فغمرني الأمان .
ويتمزق نسيج الحلم !
أرى آثار الرياح في الخارج من اهتزاز الستائر .. أمضي نحو النافذة .. أفتحها .. الخيوط التي كانت قبل قليل سوداء تتحول إلى خيوط بلون الرماد .. أوشكَ الفجر أن يبزغ . ترتاح جبهتي على حديد النافذة .. صعقني أول الأمر .. كان بارداً .. لكني لم أبعدها قد تستطيع هذه البرودة أن تطفئ النار المتقدة داخلي !
ترتسم في الوعي صورة من شريط أيام أصبحت قديمة تمر في الذهن بسرعة الحلم .. ابتسامتها كانت حمائم بيضاً تحوم في البيت وتضيء كل أركانه !
فأينَ هي الآن لتضيء لي العمر الجديد الذي بدأ !
* * *
استيقظتُ متأخراً .. غرفتي مضيئة بنور الضحى .. نهضت متكاسلاً .. اتجهت نحو النافذة .. سحبتُ الستار ، شجرة التين قمتها تخطت نافذتي .. ما أن فتحتُ النافذة حتى داهمتني رائحة طيبة أشاعت في جو الغرفة رائحة ورق التين .. ما أزكاها .. رائحة لا توصف تجعلك تسحب الهواء كله في داخلك .. قد تشبع الروح .. والروح لا تشبع !
سمعت طرقة خفيفة على الباب ودخل راغب وقد وضع يديه خلفه كأنه يخفي شيئاً عني .. تقدمت نحوه لأُقبله .. وظهر ما كان يخفيه .. قطة صغيرة تموء بصوتٍ جميل .. فقلت :
_ الله كم هي جميلة .
أجاب بخجل :
_ اسمها خضراء .
فقلت له بملاطفة :
_ لكنها بيضاء ؟
فلم يرد ..
_ ولماذا أسميتها خضراء ؟
_ صديقتي في المدرسة اسمها .. .. ..
أظنه خجل أن يكمل .
_ عرفت السر .
ونطت القطة من بين يديه ، فدخل مصطفى وبدأ يؤنب ابنه ، فتدخلت :
_ دعه .. فللأطفال إحساس بالأشياء يفوق عقول البالغين بمسافات .
فأخذ قطته وخرج . عيناه كانتا غارقتين في بحرٍ من الحزن الصامت .. أمواجه كانت مرسومة على جبينه بوضوح غريب .. فقال :
_ أ أزعجك راغب ؟
_ لا بالعكس .
_ راغب .. حولَ جو عائلتنا المأساوي إلى جو مليء بالأمل .. أُمي أسمته ( راغب ) ، فحين عرفت بأن ( فاتن ) حامل لم تسعها الدنيا فرحاً وقالت بشكل لا إرادي : " إن شاء الله لو كان ولداً نسميه راغباً " . كانت تتمنى وتدعو ليل نهار وفي كل صلاة لها أن نُرزق بصبي لتسميه راغباً !
كان يتكلم بصوتٍ خافت أقرب ما يكون إلى الهمس .. وفي عينيه نظرة مَن يحمل سراً ولا يريد البوح به .. حدقتُ فيه قائلاً :
_ وأينَ هي الآن ؟
أراد أن يغيّر الموضوع ثانيةً ، فقال :
_ ألا تفطر ؟
_ ليسَ قبل أن أعرف .
ولمحت في عينيه ما ينذر بالسوء .
_ لا أعرف من أين ألتقط خيط البداية .
أدار ظهره نحوي وبنبرة دامعة :
_ صاروخٌ واحد كان كفيلاً بإحالة البيت ومَن فيه إلى أنقاض وغبار ونار .. وأُمي كانت الوحيدة في البيت .
الصدمة كانت أكبر من أن أحتمل .. فانفجرتُ باكياً .. التفت وحضنني .. بركان من الألم انهمر بيننا .. جراح تفتقت في أعماقي .. ونَزتْ بالدماء !
_ 6 _
_ صواريخ كروز هي التي دمرت بيتنا .. وقتلت أُمي .. منزلنا كان من بين الدور التي تضررت كثيراً .. كان من الصعب أن أُعمرهُ مرة أخرى ، وأعيش فيه بعد غيابها ، فانتقلنا إلى هذا البيت .
تنتابني هواجس حزينة .. وأهز رأسي استنكاراً لِما أسمعه . أخاف النظر إليه ، فملامحه مازالت تُنبئ بفواجع أخرى ، وأسأله بتوتر وقلق مخافة جوابه :
_ وحنان .. أينَ هي الآن ؟
يحدق بعيداً باستغراق غاضب ، مشتت وبعينين مثقلتين بالحزن وبتنهد يجاوب :
_ حنان سافرت بعد استشهاد أمي بسنة ، تزوجت من مغترب عراقي يعيش في ألمانيا .. إنها تتصل دائماً .. ولا تُقصر معنا ، ولأُصدقك القول .. بأننا نعيش برفاهية بفضل ما ترسلهُ لنا .
اندفع الدم بقوة إلى رأسي ، وغشيت عينيّ سحابة سوداء ، فبدا كل شيء قاتماً أمامي .. كنتُ أسمعه وهو يواصل دون أن أراه .
_ لم أعترض على قرارها حين وافقت على الزواج منه .. فهذه هي حياتها .. لكنني ، عندما ودعتها شعرت بموتها وبأني فقدتها كما فقدت أمي .
وتوقف برهة .. تأوه بوجع ، ثم واصل كلامه بصوت أعلى :
_ أما وفاء ..
وتوقف ثانيةً لَما ذكر اسمها .. أحسستُ بقلبي يدق بعنف في صدري وأكاد أسمع دقاته هديراً في أذني ، وواصل بعدها :
_ أما وفاء .. فيكفي أن أقول لك .. أمح هذا الاسم نهائياً من ذاكرتك ، فقد تزوجت بعد أن فقدت الأمل بعودتك إلى الحياة !
تتشظى مرآة النفس وتتكسر إلى آلاف القطع وتتبعثر على أيام عمر لا أعرف كيف بدأ وكيف سينتهي .. واحاول بقدر الإمكان تجميع شظايا المرآة المكسورة .. لكن لا أستطيع ، فالصدمات التي أتلقاها قوية .. قوية جداً .
لماذا عدت ، فقط الموت والخيانة والغربة تحيط بي ! ولا أدري كيف ولِمَ قَدحَ هذا التساؤل في ذاكرتي .. فقلت بصوت يرعشه الانفعال :
_ أية صواريخ كروز .. ومتى و .. .. ..
لم أستطع أن أُكمل .. فجاوبني :
_ حقك .. فأنت لا تعرف .. الحرب العراقية الإيرانية انتهت عام 1988 .. لتبدأ حرب أخرى أقوى وأشرس عام 1991 .. سأُحدثك عنها لاحقاً .. ومازلنا نعيش في دوامتها إلى الآن .
جبل الجليد ينهار أمامي ويتحول إلى بحر حزن .. كنتُ عاجزاً عن العوم فيه .. وشعرت بأني أغرق !
_ 7 _
في عصر ذلك اليوم طلبتُ من مصطفى أن يأخذني إلى هناك .. إلى حيث كان بيتنا .. لم نتكلم طول الطريق ، وبقدر شوقي لرؤية بغداد إلاّ اني كنتُ لا أرى أي شيء .. فكري كله مشغول بما ينتظرني وكيف سأُواجه ذلك البيت الدافئ العامر الذي تحول إلى أنقاض .. وهل بإمكاني التعرف عليه ؟؟ شارع يقودنا إلى شارع .. وما أن دخلنا أحد الفروع حتى واجهتني يافطة كبيرة مكتوب عليها " أسواق الرباط " هذه الأسواق كانت كفيلة أن تجعل قلبي يقف عن النبض لثوان . وبدأت أعد .. بيت ، بيتان ، ثلاثة .. والرابع .. أنقاض . أغمضتُ عينيّ .. لا أريد أن أرى .. انقباض غريب جثم على قلبي .. انفجر القلب _ ثانيةً _ بالحزن كالبركان .
نزلَ مصطفى من السيارة قبلي . اقتربت من المكان بخطوات مرتجفة .. وقفت لحظات دون حراك .. لحظات تمشي بتثاقل .. شعرت بجفاف شديد في حلقي وكأن كومة من تراب السجائر رُميت فيه .
مَنْ يستطيع أن يمحو ذلك المساء من ذاكرتي .. وهي تقف وسط الباب تودعني .. لا أدري كم مرة قبلتني .. مازالت تلك الملامح عالقة بذهني بكامل تفاصيلها .. ملامح مثقلة بالحزن لفراقي .. هل كانت تعلم انها آخر مرة أراها .. كيف لا .. وهي أُم .. وقلب الأُم دليلها . سَكبت الماء خلفي .. وبقيت واقفة .. وكلما التفت .. أجده تلوح لي بيدها .
ليسَ بمقدورنا _ دائماً _ نسيان آخر لحظات الوداع .. وكأن القلب يلتقط لها صوراً .. ويحتفظ بها في أرشيف الذاكرة !
اقترب مني مصطفى .. وربتَ على كتفي .. طلبَ مني أن أقرأ سورة الفاتحة على روحها الطاهرة . وبعد أن انتهيت قال :
_ هذه هي الحرب يا راغب .. أي بمعنى آخر .. أن تعيش الموت .. تراقبهُ وهو يخطف كل ما هو عزيز .
صمت لحظة .. بريق حزين غطى عينيه السوداوين .. وأكمل :
_ تَذَكر انها ليست الوحيدة التي دفعت حياتها ثمناً غالياً من أجل الوطن !
العيون ملأى بالدموع .. استدرت عفوياً نحو السماء .
وكعنقود ضوء بقي وجه أمي معلقاً في فضاء روحي !
_ 8 _
في الصباح الباكر أخذتني الدروب إلى المقبرة .. ووصلت .. يتسربل فضاء المكان برائحة الشجر .. أتنفس عبقها .. وبشكل لا إرادي أخذت الدموع تجري في أخاديد وجهي عندما رأيت شاهدة قبرها .. انهارت قواي ، فجثوت على ركبتيّ .. أغمضتُ عينيّ فلم أتحمل أن أرى رمزاً لأُمي .. سلمت وأنا مغمض العينين .. ولا أدري .. شعرتُ وكأنها ردت على سلامي .. ووجدتها تقبل نحوي .. تحتضنني وتبكي .. أجهشت بالبكاء على صدرها .. وأحسستُ بأني عدتُ صغيراً ، فمهما كبرنا فنحن بحاجة إلى صدور أمهاتنا ، بحاجة أن نبكي بصدق .. كنتُ أدرك أن ما أراه وما أًحسهُ هو _ مجرد _ أطياف خيال .. لكن كيفَ يكون هذا الخيال بهذه القوة من الإحساس ، لا أعلم !
أردتُ أن أبقى هكذا . أن لا أفتح عينيّ لأني لا أُريد أن أرى كومة من الرمل والحجر بديلاً عن أُمي .. خيال يسكنني أفضل من واقع لا يهون عليّ .
لم أشعر بوجودي إلاّ وصوت مصطفى بقربي :
_ راغب .. راغب .. انهض بالله عليك . كُن رجلاً ، تماسك بعض الشيء .
فتحتُ عينيّ .. أسندت رأسي على كتفه .. حضنته وبكينا .
الشقاء أرخى سدوله الكئيبة على قلبي وجلله بالسواد ، والعالم كله اختصر بالنسبة لي بأخي مصطفى ، وقبر أُمي . بدأت أذهب إلى هناك كل يوم تقريباً بعد العصر ، أُرتب القبر ، أرشهُ بالماء .. وأجلس لأقرأ لها القرآن وكأنها تسمعني ولا أُفكر بالرجوع إلاّ بعد أن يلتف المكان بغلالة الغروب .
كنتُ أشعر بارتياح كبير وأنا معها .. مع خيالها .. وبينما كنت منهمكاً في أحد الأيام بزراعة بعض بويصلات النرجس على القبر ، سمعت صوتاً ناعماً يصافح أُذني .. استدرت عفوياً .. واجهني وجه بريء ، صافٍ .. وقالت بصوتٍ خجل :
_ " إنا لله و إنا إليه راجعون " ، لستَ الوحيد المفجوع في هذه الدنيا .. لو نظرت قليلاً حولك ستجد الكثير ممن يحملون نفس ألمك .. أنا كذلك .. وهذه أُمي جارة أُمك .
غادرتني الكلمات باقتحامها الطيب هذا .. مباغتتها هذه لم تتح لي _ حتى _ أن أرد .. وأخرجت من حقيبتها حزمة من عيدان البخور وعلبة كبريت .. أوقدت رؤسها وغرستها على القبر .
غرقت عيناها بالدموع .. ومضت مبتعدة .
_ 9 _
استيقظت باكراً .. فتحتُ النافذة .. كانت الطبيعة منهمكة في رسم لوحتها الصباحية .. أخذتْ نظراتي تتداخل في أوراق شجرة التين الممتدة خارج شباك غرفتي .. لا أعرف كيف رأتني قطة راغب .. بعد لحظات سمعت مواءها خلف الباب .. فتحتهُ .. بدأت تتمسح برجليّ .. فرفعتها .. قفزت من بين يدي ، قطة بيضاء مبقعة بدوائر سود متناثرة في البياض الناصع .. كم هي جميلة .. ألفتني بعد أسبوع من المغازلة والاستدراج .. ووجدت من السهل أن نستدرج الآخرين نحو الحب !
تك .. تك .. تكات الساعة أعادت على مسامعي حكاية بعيدة . صديقي تهاوى قبلي ، أتذكر هذا وكأنه حلم .. وذاك الوجه الفارسي لن أنساه أبداً .. أُحاول تجميع الصور لأتذكر ما حدث ، لكن عبثاً .. فالذكرى لا تستوعب ، وبندول الذاكرة توقف .. تعطل في تلك اللحظة وغاص كل شيء في قرارِ بحرٍ معتم !
ولا أعرف كيف جذبني المذياع .. أتجه إليه .. أُدير مؤشره يميناً وشمالاً باحثاً عن إذاعة بغداد .. وبلا استئذان يدخل صوت فيروز إلى الأذن ودون جواز يسافر إلى القلب ويقيم هناك ، استلقيت على السرير وأغمضتُ عينيّ لأستمتع بصوتها الملائكي .
سمعتُ طرقاً خفيفاً على الباب .. فتحتُ عينيّ واجهني وجه مصطفى .. وجه مُشرق بابتسامة هادئة .. استعدلت وامتدت يدي إلى المذياع لأخفض صوته .
_ لا .. دعها تشدُ ، طالما استطاعت أن تُخرجك من ذاك الجو .
بانت لمحة فرح في نبرة صوته .. تقدم نحوي وجلسَ بقربي . وجه طيب يفيض عن قلبٍ طيب .. له عينان ذكيتان ورثهما عن أُمي . تعلقت بفمهِ وعينيه .
_ على صوتها استيقظت .. وربما لا تتصور مدى سعادتي ، فهذه أول مرة تُشغل المذياع.
وشعرتُ بمودته الكبيرة لي من ضغط يديهِ على يدي ، وندى عينيه .. وفي هذه الأثناء دخلَ راغب ، اندهش عندما وجدَ قطته على سريري .. وقال بصوت خافت وهو يحاول أن يبتسم :
_ خضراء هنا ؟!
عينان زرقاوان ، صافيتان ، تلمع في كلٍ منهما نجمة .. وبنظرة متسائلة ، غضبى نهره مصطفى :
_ لماذا أتيت ورائي .. ومتى استيقظت ؟؟
فأجاب بعناد :
_ جئت لِعَمي .
اقتربَ مني .. أحاط بذراعه الصغيرة رقبتي .. وواصل حديثه ليشتكي لي منه :
_ انهُ يرفض أن آتي إليك ، وينهرني دائماً .
_ عمك مُتعَب ويحتاج إلى الراحة .
أمررت أناملي في شعره المصفف السرح ، وقبلت جبينه ، وقلت بنظرة شرود :
_ أما يكفي اني استرحت عشر سنين ، دعه فلديه حساب معي يريد أن يُصفيه .. ألا ترى خيانة حبيبته خضراء ؟!
فضحك لكلامي .. وتحركَ واثقاً من نفسه نحو قطته ، إذ يعلم انه يجيد ما يفعله !
_ 10 _
بعد يومين ذهبت إلى المقبرة ، وجدتُ باقة من زهور السوسن فوق قبر أُمي .. نظرتُ إلى القبر المجاور .. رأيتُ نفس الباقة .. قلت لنفسي .. حتماً هي .. شعرتُ بالامتنان لتلك الفتاة . وبدأت كلما أذهب إلى هناك .. أُمني النفس علّني أراها .. لأشكرها على الأقل .. لكني لا أرى سوى ورد السوسن .. فكرت لِمَ لا أتعامل معها بنفس الطريقة .. وأخذت باقتين من ورد النرجس واحدة لأُمي والأخرى لوالدتها .. وهكذا حتى اني يئست من أن تجمعنا الصدفة ثانيةً !
_ مساء الخير .
التفت .. وجدتها أمامي .. ابتسمت لي .. نظرتُ إليها باشتياق .. وين التقت عيوننا ، أخفضت رأسها بسرعة . وجه طفولي مليء بالبراءة وبشرة بيضاء شديدة الشفافية .. نحولها الهادئ ذكرني بأُختي حنان . ثبتت عيناها في الأرض واحمر وجهها خجلاً :
_ أ إلى هذه الدرجة أنت حزين .. لا تستطيع _ حتى _ رد ابتسامة فتاة ؟
_ أعذريني .. فأنتِ لا تعرفين كمية الحزن التي تملؤني .
ولأُغير الموضوع قلت لها :
_ شكراً للزهور . وأكملت : _ منذ متى وأنتِ هنا . فأنا لم أجدك حين أتيت .
_ وصلت قبل قليل .. وأنا آتي كل خميس .
_ وأنا كل يوم تقريباً .
_ منذ متى ؟ وقالت باستغراب : _ القبر موجود قبل .. .. .. ولم تُكمل ، فجاوبتها :
_ لم أعلم إلاّ مؤخراً .
_ هل كنتَ مسافراً ؟
_ تقريباً .
_ أينَ كُنت ؟
قالتها بفضول بريء . كل شيء فيها ينطق بالثقة .
_ لا أدري في اللازمان واللامكان .. ربما هكذا .
_ لا أفهم .. كيف ؟!
نطقت هذه الـ ( كيف ) بابتسامة متسائلة ، وقرأت في ابتسامتها صدقاً لا يتطرق الزيف إليه . الشمس توشك أن تغادرنا بين ستائر الشفق لتتوارى خلف الأفق . وحولت نظري من السماء إليها :
_ لقد حلَ المساء .. ألا نغادر ؟
_ هل هذا تهرب ؟
_ لا .. لكن ، حكايتي غريبة بعض الشيء ولا تستوعب بكلمات مختصرة .
_ لكَ ما تريد .. أتسمح أن أوصلك .. معي سيارة .
لم أُمانع .. واتجهت معها نحو سيارتها .. كانت سوبر حمراء !
_ 11 _
رن جرس الهاتف .. رنينه في هذه اللحظة من هذا المساء الغارق بالصمت ملأ المكان بالصخب .. وما أجمل الصخب حين يغتال الصمت .. لا أدري .. شعرتُ بهاجس لم أتبين حقيقته .. فامتدت يدي بلهفة إلى السماعة .. وأرد :
_ ألو .
ويأتيني صوت من بعيد .. غائر في البعد .. يأتي بشعاع هادئ مثل شعاع ساعة الشروق.
_ ألو .. أنا حنان .
رجفة باردة سرتْ في كياني .. أما صوتي ، فقد انذبح لحظتها . غمرتنا لحظة صمت مفاجئة ليست معتادة .. خنقتنا العبرات ، فأخذت فاتن _ زوجة أخي _ السماعة من يدي .. ويبدو بأن هي أيضاً لم تستطع أن تتكلم ، فالذي تحدثت معه كان عصام زوج حنان .. قال : بأنها انهارت عندما سمعت صوتي ، كنتُ مشتاقاً جداً لسماع صوتها ، فالأخت أُم ثانية ! تصورتُ ماضيها كله حين أغمضتُ عينيّ ، كمن يلتفت إلى الوراء فيبصر نقطة ضوء بعيدة قادمة من زاوية مظلمة . حنان .. اختنا الوحيدة المدللة .
أعطتني السماعة ثانية ، وأتاني صوتها دافئاً حنوناً مبللاً بالدمع . انقبض قلبي بشدة ، فلقد هزتني رنة الحزن .. ولا إرادياً سألتها :
_ هل أنتِ سعيدة يا حنان ؟
_ نعم سعيدة مع زوجي .. وهو يحبني ويحترمني كثيراً .. انهُ يفهمني ويُؤَمِّن لي كل شيء ، فهو سندي والشخص الوحيد الذي أجدهُ أمامي . لكن ، مع هذا هناك لمحة ألم تؤطر كل سروري . الغربة قاسية يا راغب .
قالتها ببطء .. وقد أصبح صوتها أكثر عمقاً من ذي قبل .. وأكملت :
_ عندما اتصل بي مصطفى وأخبرني بعودتك .. لا أدري ماذا أقول : شعَ في داخلي أمل عجيب من ذاك الموقد الذي خِفَت منذ زمنٍ بعيد . لا تعلم سعادتي .. لكن في نفس الوقت أحسستُ ان عزائي في أُمي قد تجدد منذ ذلك اليوم .. وفي كثير من الأحيان .. حين يرن جرس الباب .. يُخيل لي .. انها هي .. وما أن أفتح الباب .. سأراها أمامي ..
شعرتُ بأنفاسها تتسارع .. وبَكتْ .
وأتاني صوت عالي النبرة _ حتماً هو زوجها عصام _ كانت الطيبة واضحة في نبرته عندما تكلم معي ، سألني عن صحتي وسلامتي .. وبأنهم سيأتون إلى العراق في زيارةٍ لأجلي .
وانقطع الخط … !
_ 12 _
بدأت حياتي تنبض بها .. ليسَ بيدي .. صورتها تقتحم تفكيري بعنوة .. ماذا فعلت بي هذه الفتاة ؟! وبشكل لا إرادي عددت على أصابعي ما تبقى من أيام الأسبوع .. ثلاثاء .. أربعاء .. وخميس ، بقي يومان إذاً !
وأتى الخميس بكل مافيه من سحر ! استيقظتُ باكراً لأرتشف سكينة الفجر .. ضوء الشمس يتوامض مع أوراق شجرة التين خلف النافذة . بقيت في سريري .. خفقات قلبي كانت تتجاوب مع دقات الساعة ، بقيت هكذا إلى أن استيقظ مصطفى ، فنزلت من غرفتي .. تناولنا الفطور سوية وخرج هو .
حلقت ذقني .. وبعدها انشغلت بسقي الحديقة وقطع الأوراق التالفة من نباتات الأصص بمقصٍ صغير .. نظرة الدهشة كانت واضحة في عيون فاتن .. وكأية امرأة .. لم تقاوم فضولها وسألتني باستغراب :
_ ألن تذهب اليوم إلى المقبرة ؟
_ بلى .
وعاد مصطفى وتناولنا الغداء .. ونمت قليلاً .. إلى الخامسة تقريباً واستيقظت .. أخذتُ ( دوشاً ) وخرجت إلى هناك ..
المكان عابق بروائح زهر الدفلى .. كنتُ أنتظر مجيئها بلهفة . وجاءت .. لوحت لي بيدها من بعيد .. واتجهت إلى قبر والدتها .. قرأت سورة الفاتحة أمام قدميها ووضعت الزهور عند الرأس ، وأوقدت البخور وجلست قليلاً .. ثم نهضت ، أقبلت نحوي على مهل ، وهي تخطو في هدوء .. وجه مستدير ، ممتلئ ، أبيض البشرة يشوبه احمرار .. وجه ينضح بالنور .. صافٍ كقطرةِ الندى ، يؤطرهُ شعر أسود ينسدل بحرية على كتفيها .. وبابتسامة خجلة قالت :
_ متى أتيت ؟
_ أوه .. منذ ساعة .
جلست قبالتي .. وأخرجت من حقيبتها عيدان البخور .. وأوقدتها .. فانتشرت رائحة البخور كالعطر في أرجاء المكان . بريقها الناعم يتجلى لي .. ينفذ إلى روحي .. أُحدق في عينيها بلهفة .. ربما شعرت بذلك فقالت :
_ تهربت من الإجابة في تلك المرة ؟
في لهجتها نبرات تأسرني .. لم أرد ، فأكملت :
_ أتعرف بأنَ وجهكَ حزين ؟
_ جداً .
_ والحزن يمنح الصدق .
_ ربما لن تتصوري ما سأقوله لكِ ؟
_ لماذا ؟
_ لأنهُ شيء لا يستوعبه العقل بسهولة .
_ شوقتني .. حقيقةً !
_ عندما أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع بالذات .. يصعب عليّ أن أعثر على الكلمات المناسبة . لا أتذكر بالضبط ، فالصور التي بقيت في ذاكرتي مضطربة .
وتركتُ لنفسي عناء الاسترسال .. ترفرف الصور أمامي .. ترفرف مثل طيور سابحة في السماء . حكيت لها كل ما حدث أو بالأحرى كل ما حدثوني به عن ما حصل لي .
وجدتها مصغية لي بكل جوارحها .. بل ذائبة في صمت مذهل ، زادها هذا الذهول رونقاً وجمالاً ، فأكملت :
_ أخلاني رجالنا .. أخلوني كما يُخلى القتلى والجرحى ، وضمدوني في الطريق ، ولم أكن قتيلاً أو جريحاً .. بل كنتُ الاثنين معاً .. ميتاً بين الأحياء .. وحياً بين الأموات !
كانت تنظر إليّ بعينيها السوداوين ، وقد كساهما ندى غريب .. تتأملني في صمت .. وحين استقرت عينيّ في عينيها .. اكتسى وجهها بلون الدم .. وأرخت جفنيها .. فقلت :
_ ألم أقل لكِ بأن قصتي لا تستوعب بسرعة ؟
_ هناك الكثير من الحقائق ما يتجاوز حتى الخيال !
أصبحت السماء رمادية .. وبعدها اسود الشفق . البرق يمزق صفحة السماء بضربات خاطفة لامعة ، وبدأت الريح تعصف بقوة ، رغم إننا في فصل الصيف .. فبادرت :
_ لنغادر !
_ 13 _
بعد يومين ذهبت إلى المستشفى لزيارة الدكتور خالد .. رحبَ بي كثيراً كعادتهِ في استقبالي ، والكادر الطبي معه .. وكنتُ أشعر بأنهم يعرفونني أكثر مما أعرفهم .. كانوا يتعاملون معي بحفاوة كبيرة .. وخاصةً الدكتور خالد .. كان يتصل بنا دائماً في البيت ، وفي بعض الأحيان يومياً .. يسأل عن صحتي .. ويطمئن من خلال مصطفى عن تدرج حالتي النفسية .. ولكي لا أبدو مُقصراً أمام اهتمامهم هذا كنت بين مدة وأخرى أزورهم ، وعلى الأقل عرفاناً بالجميل .
وحين عدتُ استقبلتني فاتن عند الباب .. وقالت بهدوء :
_ لديك زوار .
_ زوار ؟!
استغربت ، فكل الأقارب والمعارف والأصدقاء قد زاروني .. وأكثر من مرة .. والدكتور خالد .. قبل قليل كنتُ معهُ .. مَنْ يكون إذاً ؟! كل هذا راودني وخطر في بالي .
كالقدر ظهرت أمامي .. وربما توقف الزمن في تلك اللحظة .. وقفتُ حيثُ أنا دون حراك ما أن رأيتها .. اضطربت دقات القلب وبدأت تتسارع في نبضٍ غير اعتيادي ، بالرغم من حرارة الجو إلاّ اني شعرتُ بقشعريرة من البرد تجتاحني .. نهضت هي .. واتجهت نحوي . وجه شاحب وشفتين ذابلتين .. مدت كفها .. تصافحنا في لحظة ذهول .. طال بيننا الصمت ، ثم جاء صوتها :
_ كيف حالك ؟
بدأتْ بهذا السؤال التقليدي جداً ، قد يكون فاتحة للكلام ، وليذيب جبل الجليد الذي نُصب .. فأجبت :
_ الحمد لله بخير .
رفعت رأسها .. لمحتُ في عينيها حزناً غامضاً تحاول أن تواريه خلف ابتسامة هادئة .. عينان متعبتان و وجه مغسول بالندم ورغم هذا كانت في منتهى الأناقة التي عهدتها .. ثبتت عيناها في الأرض ، وقالت من خلال ابتسامتها الحزينة :
_ سلامات .. إن شاء الله .
لم أرد .. بتلعثم أكملت :
_ لا أعرف كيفَ أبدأ وماذا أقول لك ..
ومثل وتر مشدود أصبح الصمت حاداً بيننا .. ففي عينيها مسحة من الحزن لا تُخطئها العين ، تكسو وجهها بشكل غريب .. تابعتُ تغيرات ملامحها .. كانت تجاهد لتسيطر على الموقف .. عندما رفعت رأسها ، أضاءَ وجهها بإشعاعٍ خافت لابتسامة شاحبة .. ابتسامة عرفت من خلالها ما أرادت أن تقوله دون كلمات !
لقائي بوفاء اليوم أيقظَ ذكرياتي من سباتها .. استجمعتُ كل ماضيها معي في التفاتة واحدة .. لا أنكر .. شدني حنين طاغٍ .. وبصوتٍ عميق حزين قالت :
_ لم يكن لديّ أمل في وقتها .. وخفت أن لا تعود .. وما أقسى أن تكون وحيداً !
_ أرجوكِ لا تُبرري لي ..
وقبلَ أن أنتظر جوابها .. أكملت :
_ مهما كانت تبريراتك ، فلن تكون بالنسبة لي سوى مشجب ، تحاولين أن تعلقي عليه أخطاء غدركِ وخيانتكِ .
_ تزوجت .. لأني .. كأية امرأة .. أرادت أن تمارس حقها في الأمومة .. وأنت تعرف كم كنتُ أحب الأطفال ، وتزوجت يا راغب بأول رجل طرقَ باب قلبي بعدك .. سنين وأنا معهُ ، ولم أنجب لحد الآن .. وهذا أكبر عقاب لي ! لا تعرف تعاستي .. فأنا شبه ضائعة في عاصفةٍ مجنونة من الحزن !
أحسستُ بالغضب من حديثها ، وبعد أن أنهت آخر كلمة من جملتها قاطعتها قبلَ أن تبدأ بجملةٍ أخرى :
_ أنتِ رميتِ نفسكِ فيها .. ويعلم الله .. لا أقول هذا شماتة .
لاذت بالصمت .. وأطرقتْ .. والصمتُ أبلغ من الكلام ! أغمضتْ عينيها ببطء ، ورقة متناهية ، وما لبثت أن فتحتهما بالرقة نفسها .. رقتها أذابت دموع المآقي ، فانحدرت قطرات ندى على خدٍ ذابل .. مسحتها بأطرافِ أناملها .. دموعها كادت أن تشعل الحرائق في أعماقي .. كان من الممكن أن أنهارَ أمامها ، لو لم أدر وجهي لحظتها .. قلبي يكاد يبكي وأنا أتظاهر بالكبرياء ، فللكبرياء جدران تعلو إلى فوق كلما تعمقت الجراح إلى تحت !
كادت أن تقول شيئاً ، ولكني قطعتُ الطريق عليها :
_ أعذريني لو قلت لكِ : لم يبقَ من ماضيكِ في داخلي غير أطياف خيالٍ .. ومضى !
ناديت فاتن لتجلسَ معها .. وخرجت من البيت .. ولا أدري إن كنتُ قد أخطأت أَم أصبت بهذا التصرف .
وفاء .. أيتها الندبة العميقة التي حُفرت في قلب العمر !
_ 14 _
تبدو الشمس كجمرة حفرت لها دائرة في سماءٍ زرقاء . غمرتني الذكريات بعذوبتها وأنا أمر بشارع الرشيد .. تذكرت مروان .. رفيق طفولتي ، وزميل دراستي ، وصديق عمري .. كم مشينا هنا ، في هذا الشارع ، تناقشنا ، وتخاصمنا ، وضحكنا .. يا ترى ماذا حلَ به ؟ وأينَ هو الآن ؟ لماذا لم يتصل بي ؟ لماذا لم أسأل مصطفى عنه ؟ أسئلة صامتة تدور وتحفر في عمق فكري .. وقلت في نفسي .. لِمَ لا أذهب إليه ، فكم أنا مشتاقٌ لرؤيته ؟! .. ولا إرادياً لوحت لسيارة أجرة بالتوقف .
تأكدتُ بأنهُ منزلهم ، وبأنهم مازالوا فيه من لون الباب .. وتأكدتُ أكثر عندما لم أجد الجرس ، كان يتضايق من الأجراس ، ويعتبرها نوعاً من الإزعاج .. فلم يكن على بابهم جرس ، ولم يكن في بيتهم هاتف .. حتى انهُ لا يستيقظ على منبه الساعة ! كم كان غريباً ورائعاً .. حبيبي مروان .
طرقتُ الباب الحديدي بنقرات قوية .. وبعد لحظات قصيرة فُتحَ لي .. في الحال عرفتها .. إنها أُمه ، وجه تلوحه سمرة جنوبية حنونة _ أصلهم من البصرة _ لقد تغيرت ملامحها كثيراً .. فقلت :
_ مرحباً خالة .
_ " أهلاً بيك وليدي " .
وبعد أن سألتها عن الصحة والأحوال قلت بحذر :
_ مروان موجود ؟
كل الألوان تعاقبت على وجهها .. وبصوت مخنوق بالعَبرات ردت :
_ " منو حضرتك ابني " ؟!
_ أنا صديقه راغب .. ألا تتذكريني ؟
_ ياه .. كم من السنين مرت . " بعد بيتي راغب " ؟ ادخل .. ادخل ، فقد عاد لي مروان اليوم .
دخلت .. التفت من حولي .. لم يتغير أي شيء فيه .. مازال كما كان ، جلست حيث كُنا نجلس أنا وهو .. وجلَستْ بقربي . وأردفت تقول وكأنها تجيب على تساؤلاتي الصامتة :
_ الروح .. ما أبسطها من هدية تُقدم إلى الأرض !
وفهمت . احتوت يداها يديّ .. حينها أسلمتها لدفئها رغم خشونتها .. وبكيت على صدرها ، وبكت معي ، ثم تابعت حديثها بودٍ عميق واسترسال صادق يشوبه الشجن عن كل ما حصل وإلى أن استشهد في ( حفر الباطن ) . كانت دموعها تجري على خديها دون توقف .. وبأطراف ( فوطتها السوداء ) تمسحها .. وأنهت كلامها :
_ كم كانت ضحايانا .. ففي زمن الحرب .. كل شيء يلقى مصيره .. ليسَ البشر وحدهم ! وحررت بدماءٍ غالية لكنها ليست أغلى من تراب الوطن !
وقلت مضيفاً ، بابتسامة عزاء يائسة :
_ من أينَ لكِ يا خالة كل هذه القوة والقدرة على تبسيط الأمور ؟!
_ علمتنا الدنيا .. وأدبتنا الحرب يا ولدي !
_ 15 _
في هذا الخميس قررت _ مع نفسي _ أن أذهب متأخراً ، ففي كل مرة أحضر قبلها .. غالبت شوقي إليها .. وفعلاً .. وصلتُ بعدها .. ويبدو بأني تأخرت بعض الشيء ، فها هي تُشغل السيارة لتغادر . رفعت يدي مُحيياً .. نزلتْ من السيارة ما أن رأتني .. لمحتُ في عينيها الشوق والحنين .. وقالت بخجل :
_ تأخرتَ اليوم ؟
_ جئتُ صباحاً .. والآن أنا هنا من أجلكِ يا .. .. ..
_ روزين .
_ عاشت ( الأسامي ) يا روزين .
لم أمد يدي .. لكن ابتسامتها الجميلة جعلتني أمدها :
_ أهلاً وسهلاً . وأكملت : _ راغب عبد السلام .
مدت يدها وأجابت :
_ روزين محمد .. خريجة علوم حاسبات ، وأعمل في مجال الكومبيوتر .
_ أما أنا ، فخريج كلية الآداب / قسم اللغة الفرنسية . والباقي تعرفينه .
تتلألأ بشرتها .. بشرة نضرة ، ناعمة ، طرية ، بلورية ، بيضاء .. لها محيا يلفت النظر ، بما فيه من فم يدل على الشجاعة وعينين سوداوين ، عميقتين تحت أهدابهما الطويلة . ودعوتها أن نتمشى قليلاً ، فلم تُمانع . وتمتمتُ _ مع نفسي _ اسمها بشكل مسموع . وسألتها :
_ ما معناه ؟
_ انهُ اسمٌ كردي .. ويعني " درب الحياة " .
_ روزين .. اسم جميل ، لمعنى جميل ، لفتاةٍ جميلة .
تخضب وجهها بحمرة الخجل .. وأطرقت ، ولكي تُداري خجلها .. سألتني :
_ لماذا تأخرت ؟!
_ تعمدتُ ذلك .
ركبنا السيارة .. وأدارت مفتاح التشغيل . هذه ثالث مرة توصلني .. لكنها المرة الأولى التي تضع شريطاً في جهاز التسجيل . وانسابت الموسيقى ، فقلت :
_ أوه .. شوبان .
التفتت نحوي بابتسامة استغراب مشجعة :
_ جيد .. عرفتَهُ .
لم أملك إلاّ أن أبتسم لكلامها ..
_ هل كان اختباراً لي ؟
_ لا .. العفو .. اني أمزح معك .
نظرت إليّ نظرة حانية .. وبدت عيناها وكأنهما عينا طفلة ، بريئة ، مرحة :
_ لأول مرة أراك تبتسم !
لم أرد .. والتزمنا الصمت . إن موسيقاه بالذات تهوي بي إلى البعيد ، تغرق جسدي بخدر ناعم . وانسدلت أمامي ستائر بلون مياه الينابيع .
وفجأةً توقفت السيارة .. كُنا قد وصلنا إلى البيت .. وقبل أن أنزل من سيارتها أعطتني ورقة صغيرة مدوناً عليها رقم هاتف .
_ 16 _
دخلت غرفة المكتب .. كان مصطفى يكتب فأردت أن أخرج كي لا أُضايقه ، فناداني .
_ اعذرني .. لا أُريد أن أقطع سلسلة أفكارك .
_ اني أكتب رسالة . ادخل .
_ إذاً ، ليست قصة جديدة .
_ لا .
_ الحمد لله .. أردت أن آخذ لي كتاباً من المكتبة .
_ وماذا ستختار هذه المرة ؟
_ " خرف البطريرك " لماركيز .
_ أما قرأتهُ في السابق ؟
_ بلى .. لكني أحب أن أقرأه من جديد .. هناك بعض الكتب نقرأها لمرة واحدة فقط ، وأخرى لا تموت أبداً ، كلما قرأناها اكتشفنا فيها ما لم نجده في قراءتنا السابقة .
_ ضع لك برنامجاً للقراءة .
_ هذا ما فعلتهُ بالضبط ..
_ وهل قرأت ما أعطيتك إياه ؟
_ كله .
_ وما هو رأيك ؟
_ يهمك أن تعرف ؟
_ جداً .
_ شيء رائع يا مصطفى .. تركتك قارئاً جيداً .. وعدتُ لأجدكَ كاتباً مرموقاً . منذ متى بدأت ؟
تأوه بحسرة . كل خطوط الحزن تجمعت في وجهه فجأةً .. وأطلّت من عينيه الرماديتين وأهدابه الكثيفة نظرة حزينة .
_ يقول غوته : " إن الآلام العظيمة تلد الأعمال العظيمة " .
وبعد كل ما حصل لنا لم أجد العزاء والسلوى سوى في الكتابة .. فأخذتُ أُدون مذكراتي ، وخواطري ، وكل ما أشعر به تجاه ما يمر بنا .. ووجدت أن كل ما دونته يأخذ صيغة القصة ! فمضيت .
_ حين انتهيت من قراءة مجاميعك .. شعرتُ وكأني عدتُ من رحلةٍ بعيدة .. رحلةٍ لم يكن فيها معي سواك . أعجبتني الرحلة معك .. واستمتعت _ حقيقةً _ فالقراءة متعة قبل كل شيء ! وفي قصصك تتبلور خلاصة فنية ، نقية لكاتب يعرف ما يريده بالضبط . وهذا مهم جداً ! وخاصةً مجموعتك الأخيرة بالذات ، فقد كانت انموذجاً فذاً في القصة القصيرة ، لها ملامح حداثية ، ممتزجة بكلاسيكية قريبة وليست بعيدة .
فقاطعني :
_ لو سمعت هذا الكلام من غيرك لقلت بأنهُ _ حتماً _ يجاملني .
_ ليسَ في الأدب مجاملة .
_ أتعرف بأنك ناقد جيد ؟!
ضحكت ببراءة من رأيه :
_ لا لستُ ناقداً ، بل .. ربما متذوقٌ للأدب .
قال والفرح يملأ صوته وعلامات التعجب تتشكل في كل التفاتة فيه :
_ إنها المرة الأولى التي أسمعك تضحك فيها !
_ ما الأمر أوجهي مُتجهم إلى هذه الدرجة ؟ أنت تقول هذه المرة الأولى التي أراك تضحك فيها . و روزين تقول : هذه المرة الأولى التي أراك تبتسم فيها .
فقاطعني مندهشاً :
_ مَنْ .. مَنْ .. ماذا ذكرت ؟؟
_ روزين .
_ الله .. اسم جميل . ومَنْ هي روزين يا راغب ؟!
_ انسَ الأمر الآن ..وسأُحدثك عنها لاحقاً .
_ كما تحب .
نهضَ من مكانهِ .. ووقف أمامي .. انحنى نحوي .. أحاط عنقي بذراعيه :
_ الحياة لا تتوقف أبداً أمام شيء .. لابد لها أن تستمر .. لا الحرب ، لا الغدر ، لا السفر ، ولا حتى الموت يوقفها عن مسارها !
وبعدها .. عانقني بقوة .. عناق تباركهُ الدموع !
_ 17 _
ها هو المساء يحل ، ولم تأتِ .. ما السبب ؟ .. أهناك أمر أشغلها ، أَم هي تعمدت ذلك ؟ آه .. من حواء ! يا إلهي .. لِمَ سوء الظن ، وأبعد هذه الفكرة عن ذهني مثل تفاهةٍ لا تستحق الاهتمام !
عدتُ إلى البيت مشغول الفكر والوجدان ، ودون أن أُكلمَ أحداً . صعدتُ إلى غرفتي .. بقيت قليلاً .. حاولتُ أن أنشغل ، لكن ، دون جدوى .. مجرد عبث ! قلتُ متحدثاً مع نفسي : تمالك مشاعرك !
ونزلت .. تناولنا العشاء .. ولعبت بعض الوقت بـ " الأتاري " مع راغب .. هذا الجهاز الجديد بالنسبة لي . في زماننا لم يكن لهذه اللعبة الفكرية من وجود في حياتنا .. رغم انهُ علمني مبادئها في البداية ، إلاّ إنني .. في كل مرة أخسر ويربح هو .. كنتُ أبدو كالتلميذ الخائب أمامهُ .. وأحسست .. بأنهُ عزَّ عليه ذلك ، فبدأ يلعب بتراجع كي أربح أنا .. ومع هذا خسرت!
نظري وفكري _ كلاهما _ مركزان على الهاتف .. هل أتصل أَم لا ؟ خطوة تقدمني وأخرى تؤخرني . وتشجعت في النهاية .. أدرت القرص .. ورن الجرس .. ورفعت السماعة ، ربما هي : _ ألو .. ألو .
أرجعتُ السماعة إلى مكانها بيد مرتجفة وقلب وجف .. وبمباغتة سألني مصطفى :
_ ما بك ؟ .. لا تبدو طبيعياً ؟!
_ هَه .. لا شيء !
وصعدت ثانيةً إلى غرفتي ، فتبعني مصطفى بعد قليل ، طرق الباب .. كان الطرق ناعماً ، ولكنه عميق ، دخل .. ونظر حوله بعينيه اللامعتين .. اقتربَ مني وقال :
_ يبدو أنه حصلَ أمرٌ ما .. لا أُريد أن أعرفهُ ، ولن أطلب منك أن تحدثني عنها .
_ عن مَنْ ؟
_ عن روزين طبعاً . قل لي : _ لماذا أغلقت الخط بعد اتصالك ؟
_ خجلتْ .
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ، وضغط على يدي مشجعاً ، فأكملتْ :
_ خيط لا مرئي يشدني إليها ، والغريب .. اني كلما ابتعدتُ عنها يمتد ذاك الخيط بمتانة.
_ انهُ الحب يا أخي !
تماسكت أيدينا بصمت .. حاولت أن أقول شيئاً .. و أوقف شفتيّ بإصبعه :
_ يقولون : " اسأل مجرباً ولا تسأل حكيماً " . لذا سأُحدثك عن قصتي مع فاتن .
ابتسمتُ مصغياً دون رد .. صمت للحظة مفكراً بالأمر ، ثم سار نحو النافذة .. ووقف عندها .. كانت مشرعة على مشهد شجرة التين . وشعرتُ به يتوغل في الذكرى ، يغمض عينيه ، ويعود أدراج طريقٍ قد مضى .
_ كنتُ أعرفها وتعرفني ، فهي زميلتي . فتاة هادئة ، بريئة الملامح .. تبدو كطفلة _ كم أُحب هذه الميزة في المرأة _ تتصرف بعفوية صادقة تُشعرك بالفرح ، بالأمان . ما أن تدخل أي مكان حتى يتغير الجو كلياً ، وجودها كفيل بإضفاء كل مظاهر البهجة ، رغم هذا تبدو بعيدة عنا بكل شيء ، والنظرة المأخوذة عنها .. بأنها مغرورة .. لكن ، ما أن تقترب منها حتى تحس بطيبتها وتواضعها و إحساسها المرهف .
القدر _ وحده _ كان له المعول الأكثر عمقاً ، وقلما تلتقي الصدفة مع القدر ، لتخلق بذرة الحب !
كُنا ضمن وفد لحضور إحدى المؤتمرات .. عند الذهاب .. لم أرها نهائياً _ كانت في حافلةٍ أخرى _ وفي طريق العودة جلستْ .. بالصدفة .. في المقعد الذي أمامي .. ويقال : " إذا أردت أن تختبر أحداً ، فاختبره في السفر " . هنا عرفتها ! سنين وأنا معها ، ولم أقترب منها ، ولا هي . كان الطريق طويلاً .. ومن الطبيعي جداً .. أن نتجاذب أطراف الحديث _ على الأقل _ كوننا من نفس الاختصاص ، وهنا شعرت بأن شرارة صغيرة قد أُوقدت داخلي تجاه هذه الفتاة .. هذه الشرارة ولدّت في كياني احتراقاً .. احتراقاً من ذلك النوع الذي إذا شب في مكان .. لا ينطفئ !
الحب لا يفصح عنه بالكلمات .. فالإحساس هو الأساس ، ولو كان بسيطاً ، ولو كان لمحة عابرة .. هو إحساس ! كانت تلك السفرة كفيلة أن توقد جمرة الإحساس هذا !
أعجبني هدوؤها ، وحسن تعاملها ، وكرمها ، واتساع أُفق ثقافتها . وحين أغمضتُ عينيّ .. أحسستُ _ كحلم _ بيديها الرقيقتين تحتضنان فؤادي وتعفرانه بمحبة بريئة !
من هناك كانت البداية .. في تلك الحافلة .. التقى قلب بقلب .. وتصافح فكر بفكر .. وامتزجت أحلامنا !
_ 18 _
استيقظت .. أيقظني رنين جرس الساعة . أحاول أن أستعيد آثار الحلم ، أن أجمع شذراته. أن أسلكها في خيط واحد _ بانتظام _ ما حصل في الحلم ، وجاءت الصور ، فالحلم يعيد نفسه في مسامعي وأمام عينيّ .. ووجدت نفسي مشدوداً إلى ما جرى في الحلم .. أن أستوعب بوضوح كل جزئياته ، ربما لأُفسر المعنى !
وجدتُ نفسي في حقلٍ واسع أخضر مع أُمي .. كانت السماء فوقنا فسيحة كبحيرة .. نظرت إلى الشجرة التي أمامنا .. شجرة كبيرة جميلة تشع من خلال أغصانها سماء زرقاء .. كل شيء من حولنا يبدو مألوفاً وجميلاً . جلستْ بعينين حالمتين تبرق بالسعادة لرؤيتي ، وجلستُ أمامها مثني الركبتين .. ابتسمتْ في وجهي ابتسامة من تعرف كل أخباري .. غمرتني بتحية حنونة ، محبة ، صادقة .. كنتُ مقرراً أن أقول لها أشياء كثيرة ، ولكني لم أحظَ بكلمةٍ واحدةٍ تسعفني لأبدأ معها الحديث ، فتندت عينيّ بالدمع . لمست رأسي برقة .. مررت أصابعها في شعري لتسرحه ، فأسندت رأسي على صدرها .. لحظتها تبددت جحافل اليأس من أمامي ، وشعرتُ بالأمان .
رفعت رأسي بتمهل .. وصلتني من خلال أهدابها السود نظرة طويلة .. نظرة تتحقق ، يلمع فيها الحنان ، تومض بالفرح ، بالأمل .. تندت عيناها وهي تبتسم لي ، وشاعت بهجة صافية في ملامحها الطيبة .. وقدمت لي زهرة حمراء .. أخذتها مستغرباً .. نظرتُ إليها .. وجه يتألق بين أوراقها المخملية ، يومض ثم يخبو مثل نجم يلمع في السماء .. اندهشتْ .. كان وجه روزين !
الأحلام ، ما أجملها وأعذبها تقربنا من أُناسٍ نحبهم ، ولكن ما الفائدة .. انها لا تلبث أن تمحوهم ، وتفرقنا بلحظة ونصحو ، وإذا بالسنين حواجز بيننا .
عرفت بأني لا أستطيع العودة إلى النوم ثانيةً .. فأخذت شريطاً ووضعتهُ في جهاز التسجيل ، وأنصت بخشوع لِما يتلوه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد من سورة مريم .
* * * * *
اتصلت بها في المساء .. وأتاني صوتها هادئاً رقراقاً كنبعٍ عذب :
_ ألو .
_ روزين ؟
_ نعم .. أهلاً راغب .
_ كيف عرفتني ؟
_ من نبرةِ صوتك .
_ جيد ، هذا ذكاء منكِ .
_ ذكاء .. لأني عرفتُ صوتك فَحسب .
_ ما علينا .. لماذا كنتِ غائبة ؟
_ آسفة يا راغب .. صدقني لم يكن بيدي ، انشغلت بعض الشيء .
_ هل ممكن أن أراكِ ؟
_ ممكن ، ولو اني لم أفعلها مع غيرك .
_ متى .. وأين ؟؟
_ كما تحب .
_ على شاطئ دجلة .
_ ولماذا هناك ؟
_ ليكون شاهداً علينا !
_ 19 _
دجلة يشطر المدينة قسمين .. شريط فرح .. موجاته تنساب ببطء .. بدا لي النهر هادئاً .. كنتُ أسمع خرير المياه المنسابة ، وكأنه حديث مشترك عما رآه في الأعالي . أشجار الصفصاف من بعيد كونت سياجاً رائعاً فصلت الأرض عن السماء ، تيار الماء في النهر يأخذ الفكر معه .. تبرق في سماء أفكاري ذكرى ذلك اليوم القاسي ، وما وقع لي فيه ، تتبين الخطوط في الخاطر .. تتوضح .. تتوسع ، لتُنهي الوجود كله في لحظة !
استوقفتني عيناها .. عينان صريحتان ، تبزغ فيهما نجمتان حين تضحك ، شعرها الأسود يتمايل زهواً .. كندى الفجر بدت بيضاء ، رقيقة ، نقية ، صافية .. فتاة تتميز بالدفء والسحر ! وددتُ أن أُصافحها ، فمدت لي يدها .. وجلست بقربي :
_ منذ متى وأنت هنا ؟
_ منذ ساعة تقريباً .
_ ساعة ؟!
_ كنت متعمداً ، لأتأمل دجلة .
_ أتحبهُ إلى هذا الحد ؟
_ أُحب كل ما هو عراقي .. دجلة ، الفرات ، الجبل ، الهور ، مدننا ، ناسها .. كل ما في العراق .
_ يقولون : أن الحرب تُعلم القسوة ، واليوم أدركت كم هم على خطأ !
صمتت لحظات قلائل وهي تصغي إلى زقزقة عصفور فوق غصن شجرة خلفنا ، وأكملت :
_ رغم الحصار .. وآثار الحرب والدمار .. ما زالت بسمة الحياة تتجول في طرقات الوطن !
الوجود من حولنا هادئ .. حتى الأشجار صامتة وكأنها في صلاة !
حدثتها عن حياتي ، عن مصطفى وعائلته ، عن آمالي .. عنها ..
كانت مصغية تماماً لكل ما أتلفظ به ، معتصمة بجبل الصمت ، لم تقاطعني بكلمة .. واحمر وجهها حين قلت :
_ أُحسكِ المرفأ الذي احتضن قاربي الصغير .. صدقيني .. معكِ وجدتُ ان العالم رائع ويستحق كل الحب !
لم تنطق بأي شيء كجواب أو تعقيب ، لكن ملامحها قالت لي دون شك ما كنتُ بحاجة لمعرفته . كان الصمت قانونها المقدس .. وربما هذا سر فتنتي بها !
سألتها فجأةً :
_ ما رأيك ؟
حاولت أن تكسب بعض الوقت ، فأغمضت عينيها نصف اغماضة خجلاً :
_ بخصوص ماذا ؟
قالتها بابتسام ، فأجبت بنبرة لا تخلو من الغضب :
_ بكل ما قلت ؟
فردت وابتسامة ثقة ترتسم شفتيها :
_ الصمت رمز الاكتفاء .. وان الحب إذا ملأ عمقه لم يعد بحاجة إلى البوح !
أنظر إلى دجلة .. إلى مَن اخترتهُ شاهداً على حبي . تمتد المياه إلى الأفق البعيد .. الشمس تحاول أن تغرق في مياهه وكأنها تريد أن تطفئ نيرانها بين أمواجه . لحظة واحترق الضوء .. اشتعلت العتمة .. وغطى الوجود رماد المساء !
_ 20 _
الحب يفجر في قلوبنا جداول الحياة ! نبتت أزهار في قلبي ونمت أشجار وبساتين . ياه .. ماذا يفعل فينا ؟! ما أن يدخل حياتنا ، حتى يزلزل ركودها . الحب .. هذا السر الغامض ، الكامن في أغوار لا قرار لها .. هل أتحدث عنه ؟ وماذا عساي أقول فيه أكثر مما قاله الرسل والفلاسفة ، فالحديث عنه يطول .. ولا .. لن يتعب المعصم من أحمالِ أثقال القلم ، ولكني أراه عاجزاً _ بحق _ عن التعبير عنه بكلمات تضيق بوصفه !
دائماً نقول ان الزمان بخيل .. وها هو اليوم يجود بالكرم الطافح ، وإذا بالحلم الذي تعتقد بأنه مستحيل .. يصبح أمراً واقعاً ! عندما يطرق الحب بابنا تشتعل فينا الرغبة بإخبار كل من حولنا بما جرى لنا .. لم يعد لي صبر .. كان لابد أن أخبر مصطفى .
ليلتها دعوته للعشاء ، وقبل أن نخرج ، رمى لي مفتاح السيارة :
_ أنت ستقودها ؟
جفلت ولم أعترض :
_ لا يهم لدي الاستعداد لقيادة طائرة وليست سيارة !
_ الله .. الله .. أينَ كانت روزين هذه ؟!
كانت المرة الأولى التي أقود فيها السيارة بعد …… !
حين التفت يميناً نحو الشارع الرئيسي .. كان نور القمر يضيء كل شيء .. المباني والسيارات وأشجار النخيل .. سماء ليل بغداد جميلة .. تُبقي العطر الطيب تحتها .. وربما تحفظهُ وتكثفهُ ، وترفض منحه أية حركة هواء يمكن أن تهرب به !
_ لقد أخبرتني عن أشياء كثيرة مؤلمة .. أيعقل لم تحدث أمور غير عادية ؟!
_ لا طبعاً _ دعني أتذكر قليلاً _ ومن أجمل ما حصل _ بنظري _ الأول .. عالمي .. وهو توحيد الألمانيتين في 9 / نوفمبر / 1989 . تصور في هذا اليوم تم انهيار جدار برلين ! وثانيهما .. عربي .. وهو توحيد اليمنين في 22 / أيار / 1990 !
حدق بي عبر زجاج نظارتيه قائلاً بهدوء :
_ لا تتهرب مني .. هل رأيتها اليوم ؟
_ تفتح حبها في قلبي زهرة جميلة .. لا أعرف كيف ! وجهها مسكون بإشراقةٍ أذهلتني ، وتيقنتُ حينها اني أمام إنسانة قدرية تؤمن بالله والقدر أكثر مما توقعته فيها ! لقد بدأت حكايتي معها تأخذ بُعداً إنسانياً لطيفاً ، ألفة مغزولة حولها خيوط من الشاعرية . حدثتها بدقائق حياتي ، وكُلي ثقة بها .. وشعرتُ بارتياحٍ كبير وأنا أتحدث لها ودون حرج . ووجدتُ نفسي أُحبها بجنون مطرٍ شتوي ينهمر حتى آخر قطرة !
ضحك .. ثم قال :
_ رائع .. أن تقرر هكذا .. ومن البداية .
شعره الرمادي الفولاذي .. وعيناه البريئتان وضحكته المرحة الطيبة منحت ليلتنا ألقاً صافياً ، عذباً وكان يدندن مع نفسه كلما صمتنا :
_ " الحب ها الحرفين ، مش أكتر ..
اللي بيطلعوا أد الدني و أكتر
وعَمْ تسألني شو الحب يا أسمر " .
كلما رفعت نظري إليه وجدتهُ يحدق فيّ ملياً ، و سألته :
_ ما الأمر ؟!
_ هي سعادتي بك .. وأحسها تكبر كالطفل .. كل يوم .. لتزداد جمالاً !
و لأُغير الموضوع قلت :
_ ثالوث جميل يؤطر قصصك ( المرأة ، الوطن ، الحب ) . لماذا هذا الثالوث بالذات ؟!
_ القدرة على مخاطبة الإنسان في كل زمان ومكان .. وهذا الشرط الأساسي للكتابة . غرستُ القلم في قلب الحياة لأبحث عن مداد أكتب بها قصصي . بالحب تُنمى المواهب ، وتنضج حتى العبقرية إن كانت موجودة فينا . والحب قضية معاصرة دائماً .. وهو شجرة كل الفصول .. قديم قدم الإلياذة وحديث حداثة آخر قصة في جريدة اليوم !
صمت قليلاً .. وأكمل :
_ ومتى كان الوطن معنىً تجريدياً لم نستطع أن نحسه ؟!
يا أخي العزيز ..
المرأة وطن ..
والوطن حب ..
والحب هو الحياة !
_ 21 _
جلستُ قبالة نافورة يتدفق منها الماء أتأمل حركتها إلى أن تأتي . وشعرت بأنها وصلت ، فشذا عطرها يعلن قدومه ، يشي بحضورها .. التفت _ صدق حدسي _ ابتسمتُ لها ما ان رأيتها. جلستْ . اندفع شعرها الذي له لون الليل إلى الخلف وراء أذنين مزينتين بأقراط ذهبية ..
_ دائماً تصل قبلي ؟
لم أرد كي لا ترتبك خجلاً من ردي .. هل أقول لها انهُ شوقي إليكِ ! قدمت لي دعوة لحضور معرض للفن التشكيلي ، فأخذتها شاكراً .. وقبل أن أقرأها قلت :
_ لا تفاجئيني ؟
_ بماذا ؟
_ بأنكِ فنانة تشكيلية .
_ لا .. لستُ أنا .. انهُ معرض أخي ألند ..
_ ألند .. وماذا يعني ؟
_ انهُ الفجر .
_ جميلةٌ هي أسماؤكم .. روزين و ألند .
_ نحن ثلاثة أخوة فقط .. ألند و بلند و أنا .
_ يبدو بأني سأتعلم الكُردية .. ألند .. الفجر ، و روزين .. درب الحياة ، و
_ و بلند .. يعني الشموخ .
_ أتعرفين بأن لوالدكِ ذوقاً في اختيار الأسماء معنى ولفظاً ؟!
_ هو إنسان ذواق في كل شيء .
ترتسم الثقة على وجهها دون افتعال :
_ عيناك هادئتان ، وادعتان .. بلا قلق أو حزن .
_ مَن قال لكِ هذا ؟
_ عيناك !
_ إذاً .. أنتِ لا تعرفين .. قرأتِ بلغةٍ لا تتقنيها !
أجبتُها مُمازحاً . وشعرتُ فجأةً بمرارةٍ كبيرة تجتاحني :
_ انهُ أمر ساذج أن نقارن بين الحياة وتصورها .
أومأت دون أن تلتفت ، فأكملتُ بحزن :
_ بعد عودتي أحسستُ كمن يسقط على كوكبٍ مقفر ! رأيت كل شيء قد تغير .. القيم ، المبادئ ، المفاهيم ، الناس ، التلفزيون ، وتفاجأت بالتكنولوجيا والتقدم السريع للعصر . أغلب أصدقائي لم يبقوا .. فيهم مَنْ استشهد ، وفيهم مَنْ مات ، وفيهم مَنْ هاجر .. ومَن بقي .. لم يعد كما كان ! حتى خطيبتي تزوجت !
نظرة حائرة تجلت بصورة واضحة في عينيها تساؤلاً ولهفةً :
_ كُنتَ مخطوباً ؟
_ نعم .
تراكمت غيوم الغضب في صدري وقلت بشجن :
_ في زمنٍ صار الحب مالاً وجواهر.. لا قيماً و مُثلاً عُليا !
ابتسمتْ بحزن وهزت رأسها دلالة الإيجاب :
_ صحيح .. نحن في زمنٍ تمزقت فيه المبادئ و الأخلاقيات كرداءٍ بالٍ ، ضاق جداً بالناس ، فتمزق !
_ انها الحرب وما يُثمر منها !
يملأ الحزن قلبي كلما تذكرت .
_ رغم ان الماضي بالنسبة لي قد طواه النسيان .. لكني سأُحدثكِ اليوم عن ما لم أُحدثكِ عنه سابقاً .. فالصراحة _ بنظري _ هي مفتاح التفاهم الوحيد .. ويبدو أن الجميع قد ضيعوه في هذه الأيام أو أضاعوه متعمدين !
فتحتُ أوراق الذكريات في خيالي .. وسرحتُ أُفكر فيها . تكاثفت غيوم الكآبة في أعماقي .. شعرتُ بالبرودة تسري في أوصالي لآخر صورة احتفظ بها القلب .
نظرت إليّ بصمت ، دونما عتب ، ولكن نظرة مليئة بالإحساس المدرك ، العالم بكل شيء. وأحاول أن أجمع ملامح وجهٍ ضاع في ذاكرتي .
_ في يومٍ ما كنتُ أراها جميلة جداً .. واليوم لم تعد إلاّ ظلاً !
صمتُ برهة .. و أكملت :
_ ثقي يا روزين بأن وفاء أصبحت قصة ما أن انتهيت من سردها حتى ضاعت في ذاكرتي _ تماماً _ كما ضاعت صاحبتها من قبل بكل ما فيها وبكل ما كان لها !
_ لا تيأس ، فالأمل واحة جميلة .. ربما هي تائهة في صحراء الحياة ، لكنها موجودة !
_ و أنتِ هذه الواحة !
أغمضتُ لفترةٍ عينيّ ، وقلت :
_ لقد نظفتُ ما كان أنقاضاً ، وبدأت أُهيئه ليكون مستقبلاً !
_ 22 _
عيناي تلتفتان فرحتين بوجهٍ لم أُقابلهُ بعد . رفعت يدها بتحيةٍ ودودة لَما رأتنا داخلين من باب القاعة .. تقدمت نحونا . نظرت في عينيها الدافئتين .. ابتسامة صافية سبقت كلماتها :
_ أهلاً وسهلاً .
عرفتنا بألند وعرفتهما بمصطفى .. تصافحنا بودٍ عميق وكأننا عائلة واحدة اجتمعت بعد غياب ، وتفاجأنا بأنَ ألند ومصطفى يعرفان بعضهما .
كان أخوها شاباً وسيماً وجذاباً ، مشرق العينين مثلها . ولمحتُ في عينيها دهشة خفيفة قبل أن تنطق :
_ صورتهُ ليست غريبة عليّ ، وكأني ، وكأني أعرفه !
فجاوبها ألند قبلي :
_ انهُ .. القاص مصطفى عبد السلام .
نظرت إليّ بتساؤل مرح :
_ لماذا لم تقل لي أنهُ أخوك ؟
_ والله لم أكن أعرف بأنهُ مشهور إلى هذه الدرجة .
فضحكنا ، مدت يدها لمصطفى وكأنها تعتذر :
_ اني قرأت لك منذ زمن بعيد .. وكل ما أصدرته من كتب موجود في مكتبتنا .
والتفتت نحوي :
_ للأستاذ مصطفى عبد السلام حضور جميل على ساحة الأدب العراقي ، انهُ يستحوذ على حواسنا بسحر كلماته التي تتساقط وكأنها خرير نبع صاف ، فهو بارع في كتابة المواضيع الإنسانية الرائعة ، وليس ما يفعله بدافع الشهرة .. بل بدافع الصدق والإيمان بحياة أرقى و أفضل!
فقاطعها مصطفى :
_ يكفي .. يكفي ، إنكِ تخجليني بكلماتكِ الرقيقة .
_ لا .. إنها الحقيقة ، فليسَ في الأدب مجاملة !
_ إننا نقاتل من أجل أن يستمر الإبداع ، وتتواصل الحياة .. ليس بالسلاح .. بل بالقلم والريشة واللون والعلم .
فأردفت أنا :
_ انهُ شيء جميل أن تقام المعارض وعلى اختلاف ألوانها ومضامينها .. واحات ثقافية تنبع من قلب الخراب الذي وضعونا فيه .
فأكمل ألند :
_ إننا نحاول بلوحاتنا وقصصنا و أشعارنا أن نلملم جراح أرضنا وننفض عنها ثوب الحرب لتعود من جديد وتكمل مسيرة الزمان الذي يمضي إلى الأمام .
و أكمل من بعده مصطفى :
_ إن النهضات الحضارية الكبرى إنما قامت على أكتاف أُناسٍ مشوا عكس تيار الدمار !
فسألهُ ألند :
_ أيمكن أن تُقرأ اللوحة قراءة أدبية ؟
_ بالتأكيد .
سحبهُ من يده :
_ إذاً .. تعال معي .
مشينا أمام اللوحات وكانت تحكي لي قصة كل لوحة ، وكيفَ رسمها ، وتحت أية ظروف ، وكم يوماً استغرق برسمها . وقالت ونحن نتطلع إلى آخر لوحة :
_ مهمة الفنان استلهام قضايا وطنه . ومثال ذلك " لوحة غارنيكا " هذه اللوحة التي أصبحت مأساة كبيرة ، فلقد استطاع بيكاسو من خلالها أن يقود ثورة !
_ أتعرفين ماذا يقول جبرا ابراهيم جبرا في الفنان .. يقول : " هو قائد الذوق ومغيره ، ومحدد الرؤية بين الناس في كل مجتمع " .
وحين التفت وجدت مصطفى يراقبنا عن كثب ، فانتبهت روزين لذلك ، ولكي أداري الموقف قلت :
_ كل شيء يراه يتحول إلى قصة ، على شاكلة الملك ميداس*.. انهُ يتأملنا .. حتماً سنتحول إلى أبطال قصته القادمة !
وفي طريق عودتنا سألته :
_ ما رأيك بها ؟
---- ---------------------------------------------
* الملك ميداس : هو بطل أسطورة يونانية شهيرة .. تقول : ان الملك تمنى على الآلهة أن تمنحه هبة تحويل كل ما تمسه يداه إلى ذهب .. لكن الهبة ما لبثت أن تحولت إلى لعنة حينما مس الملك ابنته الحبيبة ، فتحولت إلى تمثال من ذهب !
هز رأسه بإعجاب :
_ إنها رائعة .. فتاة تتميز بالحيوية المتدفقة ، والنزعة الفردية ، والثقافة العامة ، والوعي الذكي .. ومن الأشياء الجميلة التي لفتت انتباهي فيها ، خجلها الطبيعي ، فالخجل غائب عن فتيات أيامنا هذه .. والخجل هو أجمل صفة في المرأة !
_ 23 _
سافرنا إلى مدينة بابل لحضور إحدى فعاليات مهرجان بابل الدولي أنا ومصطفى وراغب فقط ، فلم تحضر معنا فاتن لكونها في الشهر الأخير من حملها ، كان لها حضورها رغم غيابها ، وعلقنا عليها كثيراً في الطريق .. وقال راغب بشقاوة :
_ لو رُزقت ماما في هذا اليوم سنسميها " بابل " .
ضحكنا منه ومن تصرفاته البريئة ، فالأطفال جداول صاخبة ممتلئة بالفرح !
وسافرنا بسيارتي التي أهدت لي مبلغها أختي حنان . وصلنا قبل المساء ، فالسماء من فوقنا ما زالت زرقاء صافية كجدول يمضي بين ضفتين .
بابل مزدحمة بالناس والفرق العالمية .. كرنفال من الألوان الصاخبة ، الفرحة . وكما قرأت عنها وجدتها _ فعلاً _ مدينة أساطير وغموض وإثارة ! تمتلئ مشاعرنا بالزهو والسمو ونحن نتنفس عبق حضارة عظمى ننتمي لها .
تجولنا في طرقاتها .. والتقطنا صوراً كثيرة .. و أكثر الصور التقطناها كانت أمام تمثال أسد بابل !
ألقى المساء ظله تماماً .. عندها دخلنا المسرح البابلي . المكان مشبع بهواء حجري رطب يقشعر له الجسد .. جلسنا في الصفوف ما قبل الأخيرة .. هكذا أراد راغب !
كقبة يتقوس الليل المزين بالنجوم من حولنا . أطفأوا الأضواء ، فأظلمت ، إلاّ المسرح فبدا كشاشةٍ ملونة تتوهج بالأضواء . وظهر أعضاء الفرقة تباعاً ، وبعد برهة ظهرت فتاة رشيقة ترتدي ثوباً أبيضَ طويلاً .. كانت أشبه بملاك من بعيد ، تحمل معها ( كيتاراً ) ذهبياً يتألق . تقدمت بهدوء وحيت الجمهور ، فاشتعل التصفيق للجمال !
تتحرك أصابعها فوق الأوتار ، بعثت أنغاماً ساحرة تمضي بنا كنهرٍ جارٍ ، أسمعتنا موسيقى ناعمة ، هادئة تبعث الجلال في النفس .. موسيقى ما سمعتُ أجمل منها وأبهى .. وعلى أنغامها نام راغب ، موسيقاها أثارت مشاعرنا كحركة ريح على سطح ماء .
تئن أوتار الكيتار تحت ضربات أناملها .. هل هي أحزان قلبها تنهمر ضرباً على أوتار الكيتار ؟ .. ربما !
أتذكر روزين ، فابتسم .. ويركض الخيال بي عبر المسافات نحو شواطئ بلا نهايات !
_ 24 _
وقع خطاها نقرات ناعمة على الأرض ، احترقت السيكارة الثانية ، وأحرقَ عقبها إصبعي .. بيدٍ مرتجفة رميت العقب .. وقبل أن تجلس سحبتُ سيكارة ثالثة من العلبة ، وبعدها صافحتها مُرحباً بها ، جلسنا .. لا أدري ! كلما رأيتها تشتعل في داخلي رغبة في التدخين أكثر !
استفزها صوت المقدحة و ومضة نارها عندما أشعلتُ السيكارة ، فباغتتني بسؤالها :
_ كلما رأيتني تُشعل سيكارة ؟!
_ ملاحظة ذكية .. ولا أدري لماذا !
_ متى ستتركها ؟
_ أتركها .. الآن .. لا أستطيع ! انها بالنسبة لي مسألة نفسية .. عند الغضب أو الحزن أو القلق خاصةً ، لابد أن أحرقَ شيئاً .. ولا أظن أن هناك أرخص من السكائر لأحرقها !
_ مبدأ غريب !
_ ولله في خلقهِ شؤون .
طيف ابتسامة ساحرة يغمر وجهها .. كنتُ أتأملها بشوق .
_ لماذا تنظر إليّ هكذا ؟
_ اني محتار .. كيفَ لي أن أصف ابتسامة هي العالم بأكمله .
_ ما هذه الرومانسية ؟
_ من ضوء وجهكِ البريء أشرق فجر حياتي . صدقيني .. رأيت حقيقتي في عينيكِ ، فبيديكِ الناعمتين _ كنتُ أتمنى لمسهما ، ولم أتجرأ _ مسحتِ غبار الألم عن جبين أحزاني .
_ الله .. ما هذا ؟ إنكَ تنطق بالشعر !
_ روزين .. أرجوكِ .. لا تسخري مني .
_ لماذا أسخر .. واللهِ لا .. بل أنا سعيدة جداً .
صمتت برهة .. وقالت :
_ في نظرتك شيء أكبر من التساؤل ؟
_ هل لي _ ولو بحكم ما بيننا _ أن أسأل سؤالاً شخصياً ؟
_ تفضل .
_ لماذا لم تتزوجي لحد الآن .. فتاة بمواصفاتكِ .. ما الذي أخرها ؟!
_ أخرني ؟
_ أعتذر لصيغة السؤال .
_ لا شيء انهُ النصيب .
_ لم أقتنع .. انهُ جوابٌ تقليدي .
_ لسؤالٍ تقليدي ، أسمعهُ _ ربما _ كل يوم .
نظرتها مهيبة ، وفي عينيها السوداوين ثمة توبيخ أو عتاب ، وهمست بحزن :
_ لو أجبت بصراحة .. لقلت عني بأني مغرورة ومتكبرة و …
فقاطعتها :
_ هل لديكِ شروط ؟
_ صدقني .. ليست شروط بقدر ما هي رغبة في اختيار . لا توجد فتاة لم يخطبها أحد .. والفتاة تشبه الزهرة يشمها الكثيرون ، ويد واحدة فقط تقطفها . هناك مَنْ عشقني ، وهناك مَنْ أحبني .. وهناك .. وهناك . ما جدوى ذلك إن لم أجد من بين كل مَنْ اقترب مني رجلاً يملأ قلبي وعينيّ !
تشاغلت بسلسلة المفاتيح التي بين أناملها .. ورفعت رأسها .. ركزت نظرها في نقطةٍ بعيدة :
_ كأيةِ فتاة لي أحلامي بالفرس النبيل ، وبدفء حبه ، وبالفستان الأبيض والبيت والأطفال .. لكني لا أُريد أن يكون هذا الفارس مجرد رَجل ! .. أتمناه إنساناً قبل كل شيء .. إنساناً واعياً ، طموحاً ، محباً .. وذا شخصيةٍ قوية .. متفتحاً ، وطيباً ، ومثقفاً ، ووسيماً ، و …
فقاطعتها مرة أخرى :
_ من المستحيل أن تجدي كل ما ذكرتِ مجتمعاً في شخصٍ واحد .
_ كنتُ متأكدة بأنهُ لابد أن يأتي .. وبهذهِ المواصفات .. في يومٍ ما .. يقفز بغتةً من نافذة صندوق دنياي .. وها قد أتى !
_ إنكِ حالمة .
_ الأحلام تساعدنا على العيش وتحمل الحياة .
_ لكن في النهاية .. الحقيقة تفوز مهما كانت قاسية .
_ ما هذا التشاؤم ؟!
_ لا .. ليسَ تشاؤماً .. لكني لا أرغب أن أتعلق بأذيال الأوهام . لذا سأسألكِ و أريد الجواب فوراً :
_ أينَ أنا من دنياكِ ؟
أشاحت بوجهها عني خجلاً :
_ يسألني ومعهُ جواب السؤال .
_ أُريد اعترافاً صريحاً ؟
_ اطمئن .. فمقامك فوق الجميع .. كل من حولي نجوم باهتة .. وأنتَ القمر الوحيد في سمائي !
قالتها بخطابية ضاحكة .. وضحكتها كانت أشبه بعنقود أجراسٍ دافئ . وأكملت بهدوء :
_ ربما لن تصدقني لو قلت لك أني لم أرتبط في حياتي كلها بعلاقةِ حب . انشغلت بأهلي وقراءاتي وعملي .. وبقد ما تزرع تحصد ، وبقدر ما تعطي تأخذ ! أخذت من أهلي المحبة والثقة التي بلا حدود .. والقراءة منعتني من الانحراف .. في هذا الزمن المنحرف .. ومن عملي : العبادة .. أصبح الكومبيوتر كل حياتي ، وها أنا أُحلق وحيدة وبخفة في عالمي .. عالم حقيقي ونقي بالنسبة لي . كنتُ حالمة .. ومستعدة أن أبقى أحلم بذاك الأمل الذي معهُ وحده ستأتي بشائر المستقبل الذي حلمتُ به يوماً .
تبدو واضحة رنة الثقة في صوتها وهي تتحدث . وهذا النجاح الذي تذكره يغدق عليها فيضاً رائعاً من الحيوية والجمال .
_ ثقْ .. أنتَ أول إنسان أخرج معهُ ولا أشعر بأي حرج .. بل برغبتي ، وكأني حفظتُ نفسي كل هذه السنين من أجلك .. انتظرتك دون وعيٍ مني ! راغب .. أحسستُ بك مثلاً رفيعاً لكل القيم التي أبحثُ عنها و أحلم بها .
_ و أنا أيضاً يا روزين .. أشعر بأن الله عوض خسارة عمري بكِ .
وتمنيت لو كان بمقدوري أن آخذها بين ذراعيّ !
_ 25 _
لا أدري لماذا تكون أغلب حالات الولادة في منتصف الليالي ! استيقظت على طرقات مصطفى على باب غرفتي .. فتحتهُ .. كان يحمل راغباً نائماً بين ذراعيه .. وضعهُ على سريري :
_ الحمد لله لم يستيقظ .. انهُ يغط في نومٍ عميق .
_ أتحتاج أية مساعدة ؟
_ لا . لقد اتصلت بوالدتها وسنأخذها معنا ونحن في طريقنا إلى المستشفى .
قال كلامه بسرعة وخرج . لم أستطع النوم .. وفكرت ان أفضل شيء أفعلهُ أن أتوضأ وأُصلي ركعتين من أجلِ سلامة فاتن .
وبعدها جلست على كرسي قرب النافذة .. ورحت أُراقب السماء من خلالها .. تبدو واسعة ترصعها النجوم .. جعلها ضوء القمر تبدو بيضاء !
مرت ثلاث ساعات أو أكثر . دق جرس الدار .. نزلت بسرعة .. فتحتُ الباب على مصراعيه لتدخل السيارة ، وفي عيوني سؤال صامت . وجاءني الرد من والدة فاتن :
_ صبية كأنها القمر .
سلمتني إياها ، فسميت بسم الله وأنا آخذها ، هذه أول مرة أحمل طفلاً عمرهُ لا يتجاوز الساعات . وبدا وجه الصغيرة _ فعلاً _ كالقمر يتلألأ بالنور تحت ضوء المصباح . كانت تحرك لسانها الصغير بين شفتيها الصغيرتين .. لابد انها جائعة !
دخلت قبلهم .. جلست على الأريكة في صدر الصالة سعيداً جداً بها وهي نائمة بين ذراعيّ ، أتأملها متعجباً وكأن صرة ملأى باللآلئ هبطت فجأةً بين يديّ !
وبعد أن وضعوا فاتن في سريرها .. طلب مني مصطفى أن أدخل . رأيتُ في وجه فاتن تلك الطيبة التي لا حدود لها .. وكأنها قادمة من الجنة !
هنأتها بسلامتها والمولودة . كنا جميعاً سعداء بقدوم هذه الضيفة الجديدة ، فقالت والدتها:
_ ماذا ستسمونها ؟
فردت فاتن لتسبقنا ، وقد اغرورقت عيناها بالدموع :
_ زينب .
الاسم باغتنا باللوعة . شعاعان من الفرح والحزن التمعا معاً في قلبي ! تجمعت الغصة في حلقي ، فالدموع عسيرة كأنها هربت وتجمعت في حلقي . ولا ندري كم من الوقت مضى قبل أن نتمالك أنفسنا من جديد .. تقدمت نحوها _ حتى _ قبل مصطفى .. وقبلتها في جبينها على حُسن صنيع هذه المرأة العظيمة . هو أيضاً تفاجأ بالاسم ، وشعرتهُ فخوراً جداً بها .. وكان لابد أن يصنع لها شيئاً يوازي هذا الفخر .. فانحنيت نحو وجه الطفلة ، أُقبلهُ بهدوء وأنا أتماسك محاولاً أن أكون رفيقاً بها !
تقابلت عيوننا عندما رفعتُ رأسي .. وجدتهُ يحاول أن يمسح دموعه .. انحنى نحوي ، فنهضت .. حضنني بقوة .. تمتمت لا إرادياً :
_ اليوم عادت أُمي !
_ 26 _
الغرفة مضاءة بشعاع الشفق المتسرب عبر النافذة . غاص المكان في ذلك الضوء الهادئ ، فبدت كقارب يبحر في الأُفق !
دخل مصطفى فجأةً وباغتني :
_ ألا تمل من هذه الغرفة ؟!
_ إنها جزء جميل من عالمي .
_ لكنهُ عالم ضيق .
_ بالنسبةِ لي .. لا !
_ ماذا تفعل ، وما هذه الأوراق ؟؟
_ لا أُريد أن تحرق مفاجأتي لك .
_ مفاجأة ! .. قلها أرجوك ، فكم أنا بحاجة لشيء يفرحني منك !
_ إني أحاول أن أستعيد معلوماتي السابقة .. وبدأت فعلاً بترجمة البعض من قصصك .
_ رائع .. رائع .. يا راغب ، لماذا لا تفتح مكتباً للترجمة ؟
_ هذا ما سأفعلهُ بالضبط إن شاء الله .
_ إلى أين وصل الأمر بك مع روزين ؟
_ يا أخي .. استطاعت هذه الفتاة بلباقة وذكاء أن تنتزع مني كلمات الحب .
_ لا تنسَ فضلها .. حبها فجر في أعماقك معنى الحياة !
_ كلما رأيتها انجلى الظلام عن نفسي ، فيكفي أن تكون معي تتنفس وتتكلم لأشعر بالارتياح .
_ عجيبة هذه المرأة .. لها اسلوب في الحديث يغري سامعها بالإصغاء لها حتى النهاية !
_ أول ما جذبني إليها .. صوتها الساحر .. تمتلك صوتاً هادئاً ، ناعماً ، ناضجاً ، واثقاً ، حساساً ، يختلج بدفء التعبير .
_ وهل صارحتها ؟
_ كان ردها ابتسامة دافئة !
_ إذاً .. على بركة الله .
نهض وسحبني من يدي :
_ دعنا نخرج .
_ إلى أين ؟
_ إلى أي مكان تريد .
_ إلى المسرح .
_ لا .. أي مكان .. إلاّ المسرح .
_ لماذا ؟ .. كنت تحبه في السابق .
_ المسرح تغير ، وانتهت قدسيته !
_ وما الذي غيره ؟
_ أشياء كثيرة .. والمسرحيات الآن مجرد كلام بذيء ، ونكات ساذجة ، وغناء ورقص.
_ مسرح استعراضي ؟
_ استعراض غجر .. مع احترامي الشديد لإنسانية مضاربهم !
_ لم أكن أعلم ان السنوات العشر هذهِ عملت كل ما عملت .
_ ليسَ الزمن يا أخي .. بل الحرب !
وشدد على كلمة " الحرب " . لم يطرأ على وجهه أي تغيير .. بل ظل جامداً دون تعابير .. أما نظرته ففيها الكثير من اليأس .. اليأس من أن يوصل لي كل ما حصل !
وكي أخرجهُ من جو الكآبة الذي وضعنا أنفسنا فيه ، قلت :
_ دعنا نسهر وعلى مزاجك .
خرجنا بسيارتي . هواء بغداد المسائي .. ناعم جداً .. منحنا الكثير من الدفء !
_ 27 _
فتحت فاتن الباب عندما دق الجرس .. نظرتُ من نافذة المطبخ .. مَنْ يكون القادم في هذا الصباح ؟ انهُ ساعي البريد .. فرحت .. لابد انها رسالة من حنان .. أغلقتْ الباب .. لوحت بالرسالة من مكانها .. تركتُ فطوري .. وخرجت ، فكم أنا مشتاقٌ لحنان ولكلماتها الطيبة الحنونة :
_ جاءت في وقتها .
_ ليستْ من حنان .
خُيبَ ظني _ قلت في نفسي _ هي لمصطفى إذاً ، أطرقتُ لأعود أدراجي .. فجاءني صوتها :
_ هي لك .. ومن بغداد .
_ لي ؟!
ناولتني ظرفاً ناصع البياض .. تفحصتهُ غير مصدق .. نعم .. وعليه اسمي .. قلبتهُ باحثاً عن عنوان المرسل .. لم أجد ! فضضت الظرف على عجل .. قلتُ مندهشاً :
_ إنها بطاقة لعيد الميلاد !
شَعرتْ فاتن بأنها رسالة خاصة بي .. ابتسمت .. ودخلت دون أن تسألني عن المرسل ؟ ياه .. كم هي حساسة ورائعة هذه الإنسانة . تسمرتُ في مكاني وقرأت :
العزيز راغب ..
تذوب شمعة يوم الأحد الحادي والثلاثين من ك1 / 1995 . فلا تبقى منها
سوى ذبالة .. وتدق الساعة اثنتي عشرة دقة . حين ذاك ستنطفئ شموع عام كامل..
ولثوان تسود عتمة حنون لا تكاد تتسع لمجرد لفتة .. ثم يضاء العمر من جديد.. فإذا
بعام 1995 قد اختفى ، وخلفَ مكانه لعام جديد .. عام 1996 .
تلك هي الحياة يا راغب ..
فبين نبضة فراق ونبضة لقاء يتواصل العمر !
كل عام و أنتَ بألف خير
أتمنى أن يكون عام 1996 عاماً سعيداً يحمل لك بين طياته كـل النجاح
والسعادة والحب ..
و دمت سالماً ..
روزين محمد
المفاجأة ألهبتني بالفرح والحماس والنشاط ، فنزلت إلى الحديقة مبتهجاً ، وكأنما أُريد أن أُخبر الشمس والهواء وشُجيرات الورد بمدى سعادتي !
صعدت إلى غرفتي .. بدلت ملابسي .. ووضعت الرسالة في جيبي . ركبت سيارتي ، وخرجت قاصداً شارع المتنبي . مكتبة تقودني إلى أخرى بحثاً عن بطاقةٍ توازي مستوى بطاقتها الجميلة جداً . اخترتُ بطاقة تعزف موسيقى هادئة .. أعجبتني كثيراً .. فعلاً تليق بها . وكما وصلتني بالبريد ، فسأُرسلها بالبريد !
أخذت عجلات السيارة تنهب الطرقات لتأخذني إلى هناك .. إلى مَنْ جعلته شاهداً على حبي !
أوقفتُ السيارة على شاطئ دجلة .. دونَ أن أنزل ، فقد كان الجو بارداً ، رذاذ من المطر الناعم يتساقط . كتبتُ لها :
الحبيبة روزين ..
بحثتُ عن أجمل بطاقة تهنئة ، فلم أجد أعز من نبضات قلبٍ يفيض بحبك ..
" كل عام و أنتِ بألفِ خير "
ألفها بشريطٍ ملون و أُقدمها بينَ يديكِ ، ولتوقد كل كلمـات الكـون
الجميلة والرقيقة والأنيقة شموعاً لليلة الميلاد .
دمتِ .. وأتمنى لكِ التوفيق في كل ذرات العالم .. مع أن تكون السـعادة
ظلكِ الدائم ..
مع محبتي …
راغب عبد السلام
بغداد
وضعتُها في مغلفها .. ورميتها في أقرب صندوق بريد .
_ 28 _
قاد السيارة عبر هواء المساء الأزرق متحدثاً بهدوء وعلى نحوٍ يبعث الأمان والاسترخاء . بدأ اللون الأزرق يتعمق شيئاً فشيئاً باستثناء شريطٍ من اللون الذهبي في البعد يومض !
وصلنا في السادسة تقريباً .. كل شيء في البيت يشي بالفرح ! عندما وقع نظرنا عليها قرصني مصطفى من ذراعي وتمتم بهدوء :
_ ما شاء الله كأنها ملكة !
كانت ترتدي فستاناً طويلاً " سواريه " بلون الذهب .. تبدو كحورية تلمع على شاطئ بحر ! تسريحتها متناسقة وبذوق مع مكياجها ، مع لون فستانها ، مع العقد الذي يطوق جيدها الأبيض .. مع هذا التاج الذهبي المرصع بماساتٍ صغيرة وكبيرة توجها فعلاً كملكة !
وأخيراً التقيت بالمرأة التي خُلقَتْ لأجلي و خُلقْت لأجلها ! عندما جلستُ بجانبها تنفست ملء أعماقي .. لا إرادياً قلت :
_ عطركِ لا يقاوم !
ابتسمتْ ، ولم ترد .. بقيت صامتة .. حتى صمتها يهمس بأشياء جميلة غامضة .. بلا لغة!
تعلقت نظراتي في ملامحها الفاتنة ، الصافية ، الهادئة .. وقلت مع نفسي .. أَكل هذا الجمال لي ؟!
في جوٍ أُسري مفعم بالحب تمت خطوبتنا .. الحفلة كانت مقتصرة على العائلتين وبعض الأصدقاء . واتفقنا على أن نقيم حفلة الزفاف في قاعة كبيرة ندعو إليها كل مَنْ نعرف ويعرفون .
تبادلنا خواتم الخطوبة . والمراسيم الباقية أخذت مجراها الطبيعي وبشكل جميل وباذخ . على خدها الناعم التفت خصلة شعر صغيرة فدفعتها بأناملها الرقيقة خلف أذنها .
صُورت حفلتنا بالفيديو لنرسل شريطاً لأختي حنان . رقصوا كثيراً من أجلنا .. وكنا نرقبهم صامتين وبفرحٍ غامر .. يدها في يدي .. أشرق القلب والوجه معاً .. والعالم من حولنا !
_ 29 _
رذاذ خفيف .. بدأت قطرات المطر تتساقط فتكوّن فوهات من التراب . تفوح رائحة الأرض .. تُنعشني .. تملأ أعماقي بالحنين لكل شيء !
_ إن لهذه الرائحة تأثيراً على كل البشر تقريباً ، وأنا واحد منهم .. قطرات المطر هذه هي مجرد تذكير أولي بتغيير الفصل ، لكن بالنسبة للإنسان هي تذكيره بالأرض ، بالتراب الذي عُجنَ منه ! ربما هكذا ! .. لا أدري !
_ ما هذه الفلسفة يا راغب ؟
ضحكت ملء تقاطيعها وروحها .. وبدت في عينيها السوداوين التماعة فرح و براءة .. وغادرت الغرفة .. وبقي في الجو من ضحكتها تلك ألق ألف نجمة غير مرئية أسكرت روحي وكياني .. فتبعتها .. تظاهرتُ بعدم الاهتمام بتعليقها ، فأكملت لأني أردتُ أن أُكمل .. واستنشقتُ ملء أنفاسي :
_ هذه رسالة الطبيعة لنا تنقلها بكل صدق !
رائحة الأرض بعد المطر تتعبق بها أنفاسي ، أُراقب الشجرة التي أمامنا وكيف يتساقط المطر الناعم على أوراقها ، فتنزلق القطرات ببطء .. تأملتها برجاء كي ترد .
بدأت الكلمات تنبت على شفتيها ، بذلك الهدوء العذب الذي يُشعرك بلذةِ الإنصات لِما ستقول أو تنطق به :
_ هطلَ المطر أخيراً بعد أن طال انتظاره .. هطل بالخير . إن المطر يوقظ فينا أشياء كثيرة كما توقظ في الأرض النشوة !
بدأنا نراقبهُ .. ثم أخرجنا أيدينا من النافذة لنشعر بوجوده ، فنطقنا سوية :
_ حقاً انهُ مطر !
بفرحٍ طفولي سحبتُ يدها وخرجنا من الغرفة إلى الخارج وتركنا المطر ينصب مثل البلسم على رؤوسنا !
المطر المنهمر تحول _ ثانيةً _ إلى رذاذ .. وما لبثَ أن انقطع تماماً !
_ 30 _
بدأ هطول المطر في الخارج .. اتجهتُ إلى النافذة .. سيول المطر تسري على زجاج النافذة .. وهاجت الذكريات في أعماق النفس . الباب يُطرق ثلاث طرقات ناعمة .. أفتحهُ .. انهُ أمامي وجهاً لوجه .. أنظر إليه بتساؤل .. عينان قلقتان في وجهٍ أبيضٍ شاحب .. دخل دون سلام أو كلام .. جلس على سريري .
الريح تصفع زجاج النافذة بقسوة ، فنحن في كانون ! يطل في عينيه الرماديتين حزن موجع فسألني بأسى :
_ تابعت التلفاز ؟
أجبت بأسى أيضاً :
_ نعم . ما أبشع ما رأيته .. ربما لا تتصور كم زرع في النفس الألم . وكأن الدنيا أمطرت عليكم شظاياً ودماراً !
_ هذا جزء من المصور ، وما خفيَ كان أعظم ، كجبل الثلج في البحر !
ألقى الصمت بأحماله على تلك اللحظات ، ثم أردف وقد اكتسى وجهه بغمامة كدرة :
_ وقع حبات المتواصلة الرتيبة على بلور نافذتي أثار في نفسي أحاسيس أليمة لليلةٍ بعيدة. تهزني ذكراها من الأعماق ، تهزني بقوة وتنقلني عبر أثيرها إلى ما قبل خمس سنوات .
النار مزقت أحشاء ذلك الليل .. الخوف تملكنا ، فنحنُ بشر ! هجوم الدمار بدأ ولم يعرف التوقف .. بل استمر . صفارات الإنذار تعوي منذرة بالموت . انتظار مرعب .. دوي البارود يملأ الفضاء ويصمّ الآذان ، ويولد رعباً حقيقياً !
حفرت هذه الليلة القاسية في جدار الذاكرة إلى الأبد ، وما زال طيفها إلى الآن يلمع في ذاكرتي وهي تقول لي :
_ خذ زوجتك وابنك .. ودعني لوحدي في البيت .. لن يحصل لي أي شيء يا ابني . ( قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا ) .
كانت تئن أنيناً هادئاً :
_ كيفَ يا أمي ؟
ظلت صامتة .. وبقايا دموع في عينيها .. فرجوتها .. لأن منطقتنا خطرة . نظرت إلى صورتك :
_ كيف أترك بيتي ، قد يعود أخوك .. ولا يجد أحداً . ألم يقل الطبيب : " ربما يستفيق في أية لحظة " !
كانت فاتن تسمع حوارنا .. فتقدمت نحو أُمي .. حضنتها بقوة ووجهت كلامها لي :
_ سنبقى كلنا في البيت .. نموت سوية أو نعيش !
وبقينا . هذه الحرب بالذات علمتنا الشجاعة .. كنتُ في السابق أخاف _ حتى _ الظلال والظلام ! وكلما سقط صاروخ .. يسري ارتياح غريب في شعاب الروح .. يتسلل إلى فجوات القلب .. وأتنهد .. الحمد لله .. يا نصيب الدمار لم يختر بيتنا !
التفت نحو النافذة وقد تقطب جبينه :
_ انتهت الحرب .. خرج العراق من بين أنقاض الخراب والدمار نافضاً عنه غبار الحرب .. لكن بقي ما هو ألعن !
فتح النافذة .. تنفسَ بحسرة :
_ الحصار .. الحصار ظلام طويل .. والمصباح في آخر الليل !
اقتربتُ منه .. وبقينا نرقب بصمتٍ حزين انهمار المطر !
(( الجزء الثاني ))
_ 1 _
استيقظت لتوي ، الساعة تشير إلى السابعة صباحاً .. نظرتُ إلى راغب ، انهُ مستغرق في نومٍ عميق ، ووجدتها فرصة أن أُمعن النظر فيه جيداً _ فالخجل يمنعني دائماً _ بدأتُ أُراقبه كما يراقب الطفل أجيج اللهب ! وجه رائق خمري اللون .. شفتان ورديتان يعلوهما شارب كث أسود ينم عن شهامة ورجولة كريمة . تناولتُ يده المنبسطة على صدره ببطء _ كي لا يستيقظ _ سحبتها إلى فمي .. قبلتها ! ووجدتهُ خير زوج يمكن أن تحلم به امرأة !
زقزقة عصفور أسمعها بوضوح _ قلت في نفسي _ إنها فأل حسن . نهضت واتجهت نحو النافذة .. فتحتُ الستارة والحاجز الزجاجي .. وفتحتُ شبابيك الشرفة الخشبية .. وتوقفت لأنظر عبر نافذة الغرفة ( 518 ) لفندق " عشتار شيراتون . أشجار النخيل المثقلة بعذوق التمر الذهبية في الأسفل .. كانت لا تتحرك وكأنها لوحة زيتية رُسمت في الحال .
بعد فترة خطوبة رائعة .. تزوجنا . وعليَّ منذ الآن أن أتعايش مع رَجلٍ سرقت الحرب من عمره عشر سنوات .. ياه .. عقد من الزمان !
و أحسستُ بيدين تطوقاني وصوتٍ دافئ يهمس في أذني :
_ صباح الخير لأجمل عروس في الدنيا !
التفت نحوه .. عينان صافيتان ، نديتان برقتا بفرحٍ خفي .. وعلى شفتيه بسمة مشرقة كلها أمل وانتصار مستقبل ، فقلت بدلال :
_ متى استيقظت ؟
_ حينَ سحبتِ يدي . لماذا قبلتها ؟
_ لأنها هي التي خطت قدري !
وفي هذه الأثناء .. رن جرس الهاتف ، فقال :
_ أكيد مصطفى .
اتجه نحوه .. رفع السماعة .. وفعلاً كانَ مصطفى على الطرف الآخر ، تبادلا الحديث بشقاوة مرحة ، وبعدها ناولني السماعة ، هنأني بطيبة وفرح غامر .. وتكلمت فاتن معي أيضاً على أن يأتيا بعد قليل لاصطحابنا إلى البيت .
في فترة الخطوبة .. اقترح عليّ راغب أن نقضي شهر العسل في الشمال .. استغربت من اقتراحه في البداية .. وسألته في حينها :
_ من أجلِ إرضائي ؟
_ لا .. صدقيني .. إنها أُمنية قديمة مازالت تتقد بين جوانحي .. قبل الحرب ، وقبل الحادثة ، وحتى قبل أن أراكِ .
أيدهُ أبي وقال له :
_ افعل ما يحلو لك .. فالشمال مازال شمال العراق . وأظن ان المسائل طبيعية .. وما هذا الظرف سوى حالة مؤقتة ستنتهي في يومٍ ما .
وبينما كنت أهيئ الحقائب ، سمعنا طرقات خفيفة على الباب . فتح لهما راغب . تعانقا طويلاً .. وقبلتني فاتن مهنئة بالأماني الطيبة . وبعدها قبلني مصطفة من رأسي متمنياً لنا حياة زاخرة بالمحبة والهناء .
تبدو عليه امارات سعادة لا توصف . وفي طريقنا إلى البيت طلب راغب من مصطفى أن يتجه أولاً إلى المقبرة . نظر إليه باندهاش :
_ بالله عليك ، أهذا هو وقت المقبرة ؟
رد راغب بهدوء :
_ أرجوك ، خمس دقائق فقط !
وغير الاتجاه . وقفنا أمام شاهدة قبر والدته .. قرأنا الفاتحة على روحها . ظل راغب واقفاً لبضع دقائق مغمض العينين وهو يتمتم بشيء . يا ترى ماذا يقول لها ؟! وبعد أن انتهى توجهنا إلى قبر والدتي . وقرأنا سورة الفاتحة على روحها . وعدنا إلى البيت .
بعد الغداء أوصلنا مصطفى إلى محطة القطار لنمضي إلى الموصل .. أول محطة في شهر العسل !
القطار متجه نحو الموصل .. شق طريقه في المغادرة ببطء مثل عاشق تركَ حبيبتهُ في محطةٍ مهجورة . القطار توقف في عدة محطات .. في كل محطةٍ يتقيأ حشداً ويبتلع آخر . ألصقتُ وجهي بزجاج النافذة ، أنظر في ذلك المغيب إلى مر بساتين النخيل البهية . تتغير المناظر .. تتغير الوجوه .. والقطار .. هو .. هو .. يمضي على نفس السكة منذ عشرات السنين !
وصلنا إلى الموصل ليلاً . محطات القطار في كل المدن جميلة ، إلاّ أنها هنا أجمل ! البناية قديمة ، لكن تصميم واجهتها يدل على فنٍ وذوقٍ راقٍ يسكن هذه المدينة . كنا نحاول أن نستمتع بكل ما حولنا رغم جهد الطريق الذي أتعبنا . وما أن خرجنا لننزل الدرج المؤدي إلى الشارع ، واجهنا تمثال " الملا عثمان الموصلي " وقد أدار لنا ظهره بعباءته الواسعة وطربوشه المعمم .
وأخذتنا سيارة أجرة إلى الفندق . وبعد تناولنا العشاء وأخذ كل منا حمّامه . جلسنا في الشرفة . صفحة السماء مستضاءة بالنجوم .. والموصل واحة أضواء تتلألأ !
بدأ يتحدث وكأنهُ مطر منهمر .. وتتراءى لي الصور خلف تلك العينين الصادقتين .. في صوته قوة الحقيقة وقدرة الاقتناع ، وتوقف فجأةً .. أدار وجهي نحوه وأضاف :
_ تكلمي ؟
_ معك لا أشعر بالحاجة إلى الكلام ، يكفي وجودك معي حتى يشع في نفسي الرضا والأمان ، صدقني بك اتضح لي معنى الحياة ، وأشرقَ النور في قلبي !
بسمة طفيفة ارتسمت على شفتيه وأضاءت وجهه :
_ ثقي يا روزين .. كان حبك ميلادي .. ومن يومها اتضحت أمامي ملامح دربي !
عندما فتحتُ أجفاني كانت أشعة الشمس قد تسللت إلى غرفتنا .. لم أجد راغباً .. نهضت ، واتجهت نحو الشرفة .. كان منهمكاً كلياً في قراءة جريدة بين يديه ، في تلك اللحظة شعرت بالغيرة .. وتمنيت لحظتها أن أكون تلك الجريدة ! لم أحتمل أكثر .. قلت :
_ ماذا تقرأ ؟
_ قصة لأخي منشورة في جريدة اليوم !
تبددت الغيرة . ناولني إياها بعد أن انتهى منها . قرأتها بكل جوارحي . كانت قصتهُ هذه رائعة .. بل أكثر من ذلك ، فقد انسابت أفكاره على الورق انسياباً هادئاً ، بهياً يشبه إلى حدٍ كبير حركة الموسيقى في السمفونيات القديمة !
_ 2 _
في صباح اليوم التالي قصدنا محافظة دهوك . أول ما فعلناه هناك ، أَنْ دخلنا مكتباً للصيرفة .. وحولَ مبلغاً من المال _ من الطبع إلى الأصلي _ لا أعرف كم كان .. ولم أسألهُ .. ولم يقل لي هو ! لأني قررت مع نفسي ومن البداية بألاّ أتدخل بشيء لا يريد هو أن يطلعني عليه . وسألَ الصراف عن مكاتب تأجير السيارات .. كانَ تجاوب الصراف معه في غاية الكرم ، إذْ ترك ابنه في المحل ، ومشى معنا إلى أحد المكاتب القريبة .. رغم اني أُتقن لغة أهلي إلاّ اني كنتُ أدعهُ يتكلم معهم بالعربية دون تدخلٍ مني !
تجولنا لبعض الوقت في المدينة . الإعلانات والعلامات كلها _ تقريباً _ بالكُردية . لم ينطقها .. لكني شعرت بغربته واستغرابه !
_ أنا مثلك أشعر بالغربة .. لأني أُميةٌ بلغة أهلي .. صحيح اني أجيد الكلام بها ، لكني لا أعرف كتابتها !
_ كل شيء في هذه المدينة يثير دهشتي ! دهوك تغيرت ، انها لا تشبه نفسها !
شارع يقودنا إلى آخر ، وكلانا يتفرج بصمت . بنايات فخمة ، وقصور شاسعة لها أبواب حديدية مزخرفة بأشكال غريبة ، وأغلب البيوت الحديثة مبنية على الطراز الفارسي ، فكل الخرائط الجديدة قادمة من إيران !
آخر مرة زرتُ فيها دهوك كانت قبل سبع سنوات .. ولم تكن هكذا .. كان كل ما فيها يُثبت هويتها الكُردية ! أما الآن ، فالطراز فارسي ، واللبس سوري ، والتغذية تركية ، والذوق أوربي ! حزنتُ كثيراً رغم كل مظاهر حضارتها وتقدمها .. لأني شعرت بأنها فقدت هويتها ، وأنا أُدرك ما معنى أن تفقد المدن هويتها ؟!
ثمة أغنية تنبعث من المذياع .. أرفع الصوت .. أسمعها بوضوحٍ وصفاءٍ وهدوءٍ وجمال .
عزاز والله عزاز …
لا إرادياً قلت :
_ الله .. كم تعجبني هذه الأغنية !
فعلق على كلامي :
_ إنها بعكس أغاني اليوم ؟ " عزاز " أغنية رائعة لـ " ياس خضر " . لن تمت أبداً ! هادئة ، مريحة ، ناعمة ، وناضجة .. ذهبية كشمسٍ من خلال فجوةٍ من الغيوم .
قاد السيارة نحو الطريق الخارجي للمدينة ، وأردف :
_ غداؤنا سيكون في سرسنك . ما رأيكِ ؟
_ كما تريد .
_ لا . كما تريدين أنتِ أيضاً .
_ لن أختلف معك ، فأي مكان أنتَ فيه هو جنتي .
معهُ حق ، فهو لا يعلم بأني على استعداد لأن أتبعهُ إلى آخر العالم !
وظهرت " سرسنك " وظهر " قصر الملك " أحد أبرز معالم هذه المدينة الصغيرة جداً ، في هذا القصر الجميل كانت العائلة المالكة _ أيام الملكية _ تقضي فيه أيام الصيف !
أوقف السيارة عند أحد المطاعم . كان أشبه بواحةِ ظل .. تفيأنا تحت شجرة سنديان . تقدم عامل الخدمة نحو طاولتنا ما أن جلسنا .. وقال :
_ بخير هاتن * .
فهمها راغب و رّد عليه بالعربية . اعتذر الرجل و رحبَ بنا للمرة الثانية :
_ أهلاً و سهلاً .
هذه المرة كانت بالعربية . وبترحاب كريم سألنا ما نطلب ، فأجابه راغب :
_ ما لديكم من مشويات .
يبدو المكان مسحوراً بسكون مطلق .. لا نهائي ! شمس تتوهج بالنور .. جبال تلتمع .. أشجار عالية واقفة بعناد .. طيور تغني بفرح .. تعبر عن السرمدية !
أكلنا بشهية ، وغادرنا " سرسنك " قاصدين " اينشكي : . كنتُ أصغي إليه وهو يحدثني عن اينشكي وعن كازينو الكهف وعن سفرة كليتهم إليها وعن إعجابه الشديد بمصايف وطبيعة الشمال الخلابة . كنتُ أصغي بشغف لتلكَ البحة التي أحبها في صوته وكأنها صدى في غابةٍ صامتة !
الطريق إليها صعوداً . وتفاجأنا ما أن وصلنا ، فكازينو الكهف قد تحول هذه الأيام إلى إسطبل !
غادرنا اينشكي بحزن و ألم لنتجه نحو العمادية ، فقد باغتتنا المفاجأة بمرارتها !
أجرَ لنا راغب أحد البيوت السياحية في مصيف سولاف . استرحنا قليلاً و أخذتنا الدروب نحو الجبل مُمسكاً بيدي . الهدوء يغمرنا بصحبته ولا صوت يعكر هذا السكون سوى سمفونية الطبيعة من حولنا . زقزقة العصافير وخرير الشلال المتدفق من الجبال الذي تآلف مع حفيف أوراق الشجر .
* بخير هاتن : وتعني بالكُردية أهلاً و سهلاً .
ويشع الذهب حين تعكس شمس الغروب أشعتها على شفافية المياه ، فغدا الشلال من ذهب ! .. قلت له :
_ انظر !
وما أن نظر .. أجاب :
_ اللّـــــــه !
_ 3 _
وفي صباحٍ مشعٍ ، زاهٍ ، صافٍ كقطرةِ ندى مشينا أنا وراغب في غابةٍ مكتظةٍ بالفيء .. فقط أعالي الأشجار تغوص في بحرٍ من الضوء ، وقد جعلت الشمس أوراق الشجر وكأنها شبكات مخرومة ! اختلطت همساتنا بوشوشةِ الشلال الذي كان كذَوبِ الفضة ، وعندما يستقر الماء في الجدول يصبح شفافاً كالمرآة . وخلف شجرة التين يختبئ ينبوع صغير تحرسهُ أحجار كبيرة .. جلستُ على أكبر حجر .. مددتُ بكفي إلى الينبوع وشعرتُ بتلك اللحظة انهُ باح لي بكثيرٍ من الأسرار .. فالينابيع تبكي بصمت !
رشقني بالماء قبل أن أرشقه .. هربت ، وجرى خلفي ليمسك بي . كان حنوناً معي .. طيباً وإلى أبعد حد ، مرحاً ، جذاباً ، ورقيقاً .. ينظر إليّ مبتسماً بعينيه السوداوين ، ووجدت من الصعب أن نتعامل مع الأطفال بجدية !
وقفنا أمام شجرة جوزٍ كبيرة .. نشرت أغصانها فيما حولها بهيبة وجلال وكأنها سيدة أشجار هذا المكان .. أو ربما هي أقدمهم .. ويبدو ذلك من جذعها الداكن الذي يحمل أخاديد الزمن ما يحملهُ وجه شيخٍ مُسن !
جلسنا تحت ظلها ، اني أُمجد الطبيعة وأنا جالسةٌ بين الجبال .. بل أُقدسها في روحي ! برودة مخملية تغطي المكان . هديل الحمام يذكرني بالماضي . أسندتُ رأسي على كتفه ، فطوق ظهري بذراعه .
_ أتعرفين ما الذي يعجبني فيكِ ؟
_ ماذا ؟!
_ إنكِ تتكلمين بهدوء و أنتِ ترسلين نظراتكِ فيما حولكِ وكأنكِ تقرأين في كتاب !
كانت أمامنا " العمادية " .. أو كما تسمى " إمارة بهدينان " . المدينة الجميلة التي ولدتُ فيها . بيوتات صغيرة تبدو من بعيد على قمةِ جبل في وسطها تشمخ منارتها الشهيرة بطولها . بناها عماد الدين الزنكي ، لذا سميت المدينة باسمهِ .. وهو أخو نور الدين الزنكي والي الموصل حينذاك .. الذي بنى جامع النوري .. واشتهرت الموصل بمنارتها الحدباء .
مددتُ رجليّ واضعة اليمنى على اليسرى ، استلقى على العشب واضعاً رأسه على ساقيّ محدقاً بسحر الوجود الذي أمامه ، أخذت أناملي تتخلل شعره الأسود .. تسرحهُ بهدوء . أدار وجهه ببطء نحوي .. أغمض عينيه وقال بمزاح :
_ احكي لي يا شهرزاد !
ضحكتُ من كلامه .. تصورتُ تلك الحكاية القديمة في مخيلتي ، والتي سمعتها مراراً من جدتي .. وحين أغمضتُ عينيّ ، انسابت الكلمات تلقائياً على لساني :
_ يُحكى أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد أن قوماً هجموا على العمادية ليستولوا عليها ، وبما أنها على قمة جبل وحصونها منيعة على الغرباء .. بقوا حولها ليحاصروها .. لا يسمحون لأحد بالدخول إليها أو الخروج منها ، استوطنوا هناك .. مرت سنة و أُعقبت بأخرى .. ومازالوا مستوطنين حولها . وفي بداية السنة الثالثة .. اهتدوا إلى طريقةٍ لاختراقها ! حفروا خنادق من سفوحها ليفاجئوهم من تحت ! .. مرت أيام وأشهر حتى قال حكيم من بينهم :
_ هم ليسوا بالأغبياء ، فالظلم ذكي في كثير من الأحيان ، وحتماً هم قد اهتدوا إلى طريقةٍ يباغتوننا بها !
فكروا بكل شيء ، ولم يتبينوا الأمر ، إلى أن قدحت الفكرة في ذهن الحكيم كشهابٍ من نور ! قال لهم :
_ هاتوا لي دفاً !
فأتوا به .. وضعَ ضمةً من حبوب " الدخن " فيه ، استغربوا من تصرفه .. لكنهُ حكيمهم ، وما يعلمه هو ، لا يعلمونه ! يمشي بضع خطوات ويضع الدف ، الدخن ساكن . كرر العمل في كل أطراف المدينة ، تهامسوا فيما بينهم : _ ماذا يفعل حكيمنا ؟!
إلى أن وصلَ إلى منطقة الميدان .. ما أن وضع الدف حتى تقافزت وتنافضت حبوب الدخن . قال :
_ إنهم يحفرون .. ومن هنا سيدخلون إلينا .. من تحتنا !!
يومها .. الكل أدرك حجم الكارثة !
في نهار اليوم التالي .. خرجت أرملة من البوابة _ مغامرة بحياتها من أجلِ مدينتها _ حاملةً على رأسها منسفاً مغطى بخامٍ أبيض . نزلت إليهم .. وطلبت من الحراس أن يوصلوها إلى سيدهم ، فأخبروه بأن هناك امرأة من القلعة تطلب مواجهته ، فأمر أن تدخل . سلمت عليه ، و رّد سلامها .. وضعتْ ما كانت تحملهُ أمامه .. وقالت :
_ أنا أرملة من هذه المدينة .. ولي أيتام .. مع هذا غذاؤك اليوم مني !
رفع الغطاء .. اندهش ! طبقان من الأرز .. وقد وضعت على كل منهما دجاجة مقلية ، وطبقان من المرق وقد وضعت بينهم صحون صغيرة مليئة بالمخللات والخضار ، وأخرجت من عليقةٍ كانت تحملها أرغفة من الخبز الحار .. ووضعتها أمامه .. فقال باستغراب :
_ مضت ثلاث سنوات وأنا أُحاصركم ولديكم القدرة على إعداد وليمة لي .. ومن أرملة لها أيتام ! امضِ يا امرأة فقد قبلتها منكِ .. وأنا أشكركِ عليها !
وحين استيقظوا في الصباح لم يجدوا منهم سوى الآثار .. آثار تدل على أن قوماً كانوا هنا مستوطنين !
و أدرك شهريار الصباح !
_ انتهت الحكاية .. هل أعجبتك ؟
لم يرد :
_ راغب .. راغب .
كان يغط في نومٍ عميق !
الجبال تخشع أيضاً للمغيب .. وكذلك الشجر والزهور .. ويظهر القمر بجلاله المهيب .
عدنا إلى البيت في المساء .. وقبل أن ننام .. أدركتُ من دفء سلوكهِ ، انهُ يريد أ يقول لي شيئاً ما .
_ أهناك شيء ؟
سألتهُ ولم يرد .. فقط هز رأسه بالإيجاب ، فأضفت :
_ وقلبي وافق على كل ما طلبت حين تحدثت عيناك لقلبي !
_ أُحب أن نرحل غداً .
وأضاف بعد صمتٍ قصير :
_ رغم هذه الجنة التي حولي .. إلاّ اني بحاجة إلى جحيمِ بغداد !
(( الجزء الثالث ))
تنفست ملء صدري مـا أن دخلـنا بوابة بغـداد . دمعـت عينـاي
بالشوق … بغـداد .. القلـب ! رغـم الحــرب ، و رغـم الحصـار ..
إلاّ ان الحيـاة هنــا .. في بغـداد .. أغنى و أدفـــأ و أكثـر سحـراً !
7 / 2 / 2000
30 / 1 / 2001
الكاتبة في سطور
كُليزار أنور :
مواليد 18 / 12 / 1965 م .
نشرت أول قصة في جريدة " بابل " عام 1995 .
تنشر في الصحف والمجلات العراقية والعربية .
" بئر البنفسج " . أول مجموعة قصصية صدرت عام 1999. عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد .
عضو في الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق .