قصة قصيرة....... كُليزار أنور
فقاعة الماضي
كم كانت صديقتي سعيدة برسالتها ، كانت تضمها بين يديها وتقبلها:
_ وصلتني رسالة تكاد تحترق بين يديّ من نيران الأشواق التي بداخلها.
_ روميو جديد .
قدمتها لي.. مع ابتسامة تنتظر رأياً..
ما أن بدأتُ بقراءتها حتى شعرتُ بقطراتٍ من العرق البارد تتفصد على جبيني، فهذهِ الكلمات ذاتها قد قرأتُها سابقاً.. وكانت موجهة لي.. لم أُكملها.. قلبتُ الصفحة لأرى اسم مَن تحمل! اصطدمتُ بالواقع الأليم.. انكشفَ الزيف وظهرت الحقيقة.. تمزق القناع الملون وبرزَ الوجه الحقيقي .
كرميةٍ من غير رامٍ جاءت صدفة هذا اليوم . تجمدتُ كتمثال في مكاني.. طويتُ الخطاب، وطويتُ معهُ صفحة من حياتي.. نظرتُ إليها بحيرة. ورددتُ بصوتٍ منخفض مندهشة: - أيمكن !
_ أيمكن ماذا ؟
وكي أُداري إحراجي و ارتباكي، قلت:
_ أيمكن أن آخذها ؟
يا لسذاجتنا _ قلتها في نفسي _ تريد أن تحتفظ بها .. ولا تعلم ان كلتينا وقعتا في شركِ إنسانٍ، الحب بالنسبة إليه قناعٌ من الشمع يلبسهُ أمام الفتيات!
أتاني صوته عبر الهاتف مساءً يطلب _ من جديد _ لقاءً .. فوافقت. استغرب:
_ أيعقل.. وأخيراً تنازلتِ عن كبريائكِ ؟
_ وكيف لا أتنازل أمام إنسانٍ مثلك .
_ ماذا تقولين ؟!
_ الحقيقة !
الجبل إذا انهار تساقط حجرة حجرة.. والجليد إذا ذاب سالَ قطرة قطرة.. لكن، مالي أرى تلك العواطف الملتهبة تجاهه تنطفئ مرة واحدة.. وذاك الجبل الشامخ _ حبنا _ اختفى ومُسحَ بالأرض .. وذاك الجليد أصبح بحراً أعوم فيه نحو شواطئ الإدراك. لأن ما بيننا لم يقم إلاّ على أساسٍ خاوٍ من رمالِ الخديعة، فانتهى الماضي كله في اللحظة التي حزمتُ أمرها! وفي هذه الليلة دفنتُ ذكرياتي معهُ في أغوار النسيان!
يغرق الفكر في ضباب الحيرة والقلق . لقد استطاع بشخصيته وكلماته وتصرفاته أن يوقظ عواطفي وأن يجذبني إليه.. لم تكن هيئته تنطق بما يثير الريبة، فكل شيء فيه كان متزناً، يوحي بالثقة.. فصدقتهُ !
بكيت.. بكيت في داخلي.. ولم يكن عليه.. فالبكاء يطهر النفس.. يسمو بها نحو فضاءات صافية لا تُدرك بسهولة.. تغيرت المشاعر شيئاً فشيئاً.. ولم أجد نفسي إلاّ في حالةٍ أُخرى مختلفة كلياً عن تلك التي كانت قبل ساعات.. والحب الذي تصورتهُ عظيماً، تلاشى تماماً كما تتلاشى السحب من السماء، فرياح الغدر مزقتها!
وصلتُ قبله.. وكنتُ متعمدة بذلك، محاولة أن أنتزع أنقاض قدرة متحجرة فيّ.. قد تسعفني!
السماء تسحبُ نظراتي نحوها.. أسرابٌ من الطيور تهاجر من بعيد. ووصل.. يبدو متلهفاً ومشتاقاً لرؤيتي.. كيفَ يتصنع كل هذا ؟!
_ حضرتِ قبلي ؟!
جلس.. وبعد برهةٍ من الزمن قدمتُ لهُ الرسالة ، وضعتُها أمامهُ.. فلم يعد للكلمات حاجة. اهتزت عضلات وجهه كلها بدفعةٍ واحدة عندما رآها.. وعلا ذلك الوجه المفعم بالحيوية اصفرار وشحوب.. ارتسمت الدهشة بوضوح في عينيه الداكنتين والتمعت النظرة وسط الحدقات. أراد أن ينطق.. لكنهُ لم يستطع.. فصوتهُ بُحَ، ككمان انقطعت بعض أوتاره !
لفنا صمتٌ عميق.. ولعمقهِ أحسستُ بأن بإمكاننا أن نسمع هسيسهُ أو نراه.
بقينا صامتين، مطرقين.. وكأننا حاكم ومحكوم.. حتى لا ننظر إلى بعضنا.. هو خجلٌ مما فعل، وأنا آسفةٌ لِما حصل.. وشعرت بأن أية كلمة سننطق بها ستكون مُمسرحة. والصمت طال.. فنهضت.. حاول أن يمسك بذراعي.. فسحبتها بسرعة:
_ أرجوكِ .
_ بماذا ترجوني .. فقد انكشفت عن لا شيء .. كالسراب الخادع !
_ اغفري لي .. وسأخلص لكِ وحدكِ .
_ الذئاب لا تُدجنْ.. لأنها لا تنسى طبائعها !
وعدتُ من نفس الشارع ذي التذكارات الدافئة !