قصة قصيرة....... كُليزار أنور
نوافذ للذكرى
ليل كانوني ينسكب في فجوات الوجود، ونثارة من الثلج تنسكب معهُ في سواد ليلٍ معتم مسربلاً الكون بغلالةٍ من الريش الأبيض لتبدد ظلمة ليل شتائي فتضيف عليه سحراً.
هدوء الليل وثلج كانون وذكريات تدق على جدار الصمت.. كل هذهِ الشواهد توقظ الجراح في نفسي لتزرع ليلتي بالأرق.. بدأتُ أتأمل خيوط الظلام عبر نافذتي فتنصهر أشتات الذكرى بالوجود.. تهبُ نسمات الماضي وأُحاول أن أغلق نافذة الذكرى.. لكن دون جدوى!
ألجأ إلى المذياع، وهو خير ما نلجأ إليه حين يغادرنا النوم ليأخذنا عبر أثيره حيثما يشاء _انهُ نوع من الهرب_ أدير إبرة المذياع يميناً وشمالاً كي أرسو على شاطئ برنامج أو حديث أو أُغنية قد تبدد أرقي هذهِ الليلة.. لقد قالوها قديماً: "مَن يهرب من الواقع يقع في المحظور". ووقعتُ في المحظور.. إذْ يصعقني صوت فيروز في أعماقي ويهوي بعيداً.. إنها تغني لصبي الثلج "شادي". رفقاً بالجرح النائم يا فيروز!
يداهمني فيض من الألم والعذاب.. وأخذت يدي تتحسس جسد ابني شادي الذي يرقد بهدوء قربي.. انغمرت أناملي في أمواج شعره الناعم.. انحنيت نحوه وطبعت قبلات حارة تناثرت في وجهه الملائكي البريء.. انهُ البرعم الوحيد الذي زرعهُ لي القدر ليشد عمري للوجود ثانيةً.. برعماً ينبض دفئاً ومواساةً.
يحملني صوتها الشجي إلى أعوام مغرقة في البعد.. وبالرغم مني تشق الذكريات دروباً إلى أيام قد مضت إلى الأبد.. أيام بعيدة إلاّ أنها مازالت محفورة بعمق على جدار الذاكرة بكل لحظاتها.. فُتحت لي أبواب الماضي وبدأت أتسلل طريق العودة.. وأصل إلى أيام قد ابتسمت لي آخر مرة.
في آخر يوم من إجازته الدورية من نهارٍ كانوني وقد نشر الشتاء طرحة زفاف بيضاء على كل القمم.. فالثلج قد احتضن المدينة والطرقات.. في ذلك اليوم أصر مروان أن نرحل بنزهةٍ قصيرة لخد الجبل المواجه لمدينتنا.. قد يكون قراره غريباً للكل.. لكني لم أستغرب من قراره المفاجئ هذا لِما أعرفهُ فيه من حبه للثلج والجبل.
أخذتنا دروب الجبل ممسكاً بيدي.. شعرنا بالدفء رغم الجليد الذي يغمرنا.. لعبنا كثيراً وتضاربنا بكرات الثلج.. تذكرتُ قول نيتشه: "في كل إنسان حقيقي يختبئ طفل يرغب باللعب". ضحكات وشهقات فرح طفولية وعيناه بالقرب مني تغمرني بطيب دفئه.
هالة من النور الذهبي الهادئ غطت ثوب الجبل الأبيض .. أغرقتنا بفيضان من السعادة ..
صنعنا رجلاً ثلجياً.. كان بدون ملامح ، وأصرّ مروان أن تكون لهُ ملامح.. فتشتُ في جيوب معطفي قد أجد ملامحاً لهذا الرجل الذي صنعناه بأيدينا.. لكني لم أجد سوى قلم أحمر غرستهُ في وسط وجهه ليكون أنفاً له.. قلت مازحة:
_ هذا الرجل كذاب.
فرد مروان ضاحكاً:
_ ما الذي يدعوكِ للتهكم عليه؟
_ يقولون بأن أنوف الكذابين طويلة.. ألم تسمع بحكاية الصبي الخشبي الذي طال أنفهُ لكثرة ما كان يكذب.
ودفعَ مروان بقبضة كفه القلم، فانغمر في وجهه:
_ لا يهمكِ.. جعلناه من الصادقين.. أنفهُ قصير جداً.
وبدأ يفتش في جيوبه لعلهُ يجد ملامح منسية نكمل بها وجهه.. وغرسَ (بندقتين) مكان عينيه وعلبة كبريت استقرت فماً له في أسفل وجهه.. غمرتنا سعادة لم تعرف لها حدود.. كُنا نضحك.. نضحك ملء أعماقنا إلى أن أخذَ التعب منا مأخذاً.. فجلسنا تحت شجرة سنديان عالية مثقلة أغصانها بالثلوج، ننظر من بعيد إلى مدينتنا الصغيرة الغافية في حضن الجبل.. كنتُ مصغية له وبكل جوارحي وهو يحدثني بهدوء عن الحرب.. الوطن.. الحب. يحدثني عن هذا الثالوث الذي يجعل حياة الناس أساطير وأفعالهم بطولات.. واستغربت حينَ قال:
_ لو رُزقنا بصبي سأُسميه "شادي".
_ شادي.. ولماذا شادي؟ ما الذي يدعوك لاختيار هذا الاسم بالذات؟
_ لا أدري! يعجبني كثيراً.. يذكرني بالحرب التي أصبحت جزءً من حياتنا وبالشتاء والثلج الذي أعشقهُ وأشياء كثيرة لا أُدرك معانيها الآن.
كان النهار يحاول أن ينحدر نحو المغيب والشمس تسحب أشعتها، فيتكسر الضوء على الجليد ليخلق ألواناً لم نعرف لها مُسميات بعد.. وحينَ ذكرني بموعد مغادرته في ذلك اليوم.. غلفتني شرنقة من الحزن.. وللمرة الأولى اجتمعت في داخلي كل الأحاسيس المتناقضة بين فرح الحب وحزن الفراق.. ودارينا دموعنا بعناقٍ طويل.
كل شيء مر بسرعة البرق.. وما كان يومنا ذاك إلاّ يوماً سرقناه من عمر الزمان.. وفي المساء غادرنا مروان إلى الجبهة في قطار الساعة التاسعة.. نعم.. قطار الساعة التاسعة!
www.postpoems.com/members/gulizaranwar