قصة قصيرة....... كُليزار أنور
سندباد ومنفى
البحر حب والفنار قلب.. أجوب البحار بلا هدى مثل السندباد لا يعرف لهُ مرساة.. وفي تلكَ الرحلة كانَ معي (الشاطر حسن). يؤشر لنا ضوء فنار من بعيد.. نقترب.. رباب.. جزيرة الحلم في هذا البحر المتلاطم الأمواج.. رمتْ بحجرٍ في بحيرة حياتي.. الوحيدة التي حركتها، واتسعت الدوائر!
أجمل ما في البرق الإضاءة الأولى التي يُحدثها، وأجمل ما في الحب النظرة الأولى. حينَ رفعتُ نظري.. لم أستطع أن أُقاوم ذلك العمق الذي وجدتهُ في عينيها.. أي سحرٍ تبعثان؟! ومن تلك النظرة سكنت أعماقي.. وشعرت بأنَ هناك شيئاً ما في داخلي قد تغير، وكأني كنتُ أنتظر حلمي وقد تجسد لحظتها واقعاً وكما أُريد. حياتي امتلأت بها.. وقبلها كانت خاوية لا معنى لها.. حديثها هادئ، سلس لا تصنع فيه. كلانا شعر بالارتياح تجاهها.. نبع من الأنوثة المتدفقة.. القلب يخفق وأنا أنظرها.. أُريد أن أُكلمها، وكلما هممتُ بذلك تذوب الكلمات على شفتي! شاعريتها تُنبئ عن حب.. لكن، لأيٍ منا؟!
الحزن يأتي فجأة.. هكذا يأتي! فقد كتبَ القدر في لوحهِ أن يموت صديقي هناك.. وأمام الموت يقفُ كل شيء.. دفناهُ في مرفئها.. لم يبت القلب حزيناً كما باتَ تلك الليلة.. الحزن يكبر، يثمر ألماً يسري في شراييني .. شعرتُ بأن الظلام أطبق كل نفسي.. تشع من عينيها خيوط غير مرئية تُعبر عن مشاعر غامضة، كلما نظرت فيهما وجدتُ أسىً عميقاً يكاد يقطر بالدمع. أيمكن؟ أكانت تحبهُ هو؟! ترشقني التساؤلات بسهامها ولا يجيبني إلاّ همس الشك.. والشك لا يورث سوى العذاب! وكم من الأشياء لا نستطيع أن ندلي برأينا القاطع فيها ومهما كانت قريبة من قلوبنا. علقتُ كل أحلامي على مشجب.. وغادرتها حتى دون وداع!
مضيت نحو البحر ثانيةً.. فأنا سندباد ما خلقتُ لسواه.. أجوبه هذهِ المرة لوحدي. افترقتُ عنها، لكن ملامحها البريئة ظلت متألقة في ذاكرتي لا تبارحها.. وصوتها الناعم، الرقيق يكاد يذبحني. عرفتُ دياراً كثيرة ونزلت في مرافئ أكثر وما قابلتُ امرأة تشبه رباب!
مازالَ ضوء ذلك الفنار الأخضر يومض بداخلي، فمجرد ذكراه تزرع في قلبي واحة حنين ترتوي بها صحراء نفسي للحظات.. لا أدري! إشارة غامضة تجتذب نظري بطريقة لا تُقاوم إلى تلك الزاوية.. وكم من مرةٍ حاولت الاقتراب وأعود بعدها لأُغير دفة السفينة.
* * *
ما عَلمتْ أنَ رسالتها هي التي أقلعت سفينتي من مرساتها.. وما عَلمتْ بأني بكيتها وأحرفها والحب الذي مات مع تلك الكلمات! برسالتها انفرط عقد الحب من قلبي وتناثرت لآلئهُ جراحاً أدمتني وأغرقتني في لُجةٍ من الألم. لكن، ما علمتُ بأنَ رسالتها كانت تعني حباً ووجداً ونهر صفاء!
كم من الأمور لا ندركها في وقتها ! فاليوم _فقط_ أدركتُ ما كانت تعني.. تقول:
(لم أكتب لك رسالة عزاء إلاّ لكي أقول: بأنكَ ما عُدتَ وحيداً بعدهُ.. وربما بفقدانهِ عثرت على قلبٍ آخر يحبك ويحتويك.. كتبتُ لأُواسيك، لا لأُعربَ لك عن حب إنسانٍ قد ماتَ وحفر لهُ الزمان والمكان قبراً! لم تفهم يا عزيزي.. حسبتني أُحبهُ، وما عرفت بأني ما أحببتهُ إلاّ لكونه صديقك والأقرب إليك.. ولو كنتُ أُحبهُ فعلاً _كما تظن_ لكتبتُ العزاء لذويه.. ما كتبتُ لتقرأ لي السطور.. بل بينها.. تصورتكَ ذكياً! ألم تفهم معنى أن تصلكَ من امرأةٍ رسالة، وما معنى أن لا تُدون لك عنوانها؟؟).
لم أعلم كل هذا إلاّ اليوم !
_ ماذا تقرأ ؟
_ كتاب اشتريتهُ من الميناء لكاتبةٍ لم أسمع عنها سابقاً ، لقلمها دفء خاص وقدرة فائقة على الإمساك بالنص.. تجعلك تقرأ قصتها من أول كلمةٍ دونَ أن تفصل الفكر عن المتابعة إلى آخر كلمة.
_ شوّقتني.. مَنْ هي ؟!
سحبتُ الكتاب منهُ مُمازحاً.. وقرأت الاسم :
_ مَنْ ؟!
خفقات قلبي تزداد حدة.. رعشة الدهشة تُفجر جسدي المتعب.. أخذتهُ بعيداً وبدأتُ أقرأ.. وما كدتُ أن أنتهي منهُ ، حتى أزهرَ الغصن اليابس في القلب من جديد.
ما أروع السماء.. الأزرق الرمادي والأبيض يتأرجح ويتشرب بلونٍ وردي.. الطيور تُحلّق.. يرسم لوحات تنمحي في الحال، إذ لولا الطيور لكانت السماء لوحات تجريدية. أمواج بيضاء تتدافع نحو الشاطئ.. المرفأ يموج بالبشر.. دموع حزينة تودع وأُخرى عكسها تستقبل.. ابتسمتُ لها ما أن رأيتها. اصطدمت ابتسامتي بنظرتها الحزينة.. فاجأتها.. وشعت قسماتها بالفرح.. قالت عيناها أشياء كثيرة دون كلمات.. بيدي رفعتُ وجهها نحوي.. احتويتها بينَ ذراعيّ.. قبلتُ شعرها الأسود الناعم. كل الجليد يذوب وينهمر جداول نشوة تأخذ لها طريقاً نحو أعماقي.
انتهت القصة.. وبدأت الحكاية.. ومن النهاية تكون أكثر البدايات!
www.postpoems.com/members/gulizaranwar