قصة قصيرة....... كُليزار أنور
صندوق الدنيا
العالم تجاوز الكومبيوتر وعصر الانترنيت ومازالت بعض قُرانا بدائية التعامل مع أطفالها.. فَدُماهم مازالت من خرق .. ومازلتُ أجوب الطرقات لأُسلي أطفال الوطن!
منذ خمسين سنة وأنا أعمل في هذهِ المهنة ، وقد تجاوزتُ السبعين . أصبح عملي متعباً لرجلٍ في مثل سني ، لكن حبي لعملي وللأطفال يهوِّن تعبي كله.. فما أروع أن نتحدث لأُناس في عملٍ نحبه!
كل متاعي من الحياة كوخ صغير ومسرح خشبي أحملهُ على ظهري في الطرقات.. أنصبُ مسرحي أينما أُريد.. وتكفي دقائق قليلة ليجتمع الأطفال حوله.. وأبدأ من الخلف بتحريك الدمى التي أصنعها بنفسي.. والحكايا.. هي بسيطة لمعارك وقصص أنا مؤلفها.. وكثيراً.. كثيراً ما أجدُ أمام مسرحي حتى الكبار!
الشتاء طرق الأبواب بسرعة هذهِ السنة، والأطفال لا يخرجون إلاّ نادراً، والطرقات مليئة بالأوحال والبرد.. آخٍ من برد هذهِ السنة ينخر العظام!
السماء في الخارج تمطر بشدّة والعاصفة تعربد. جلستُ قابعاً في كوخي أمام مدفأتي القديمة الباردة، فالنار قد خبت.. وحطبي قد نفد. الصقيع يخترق عظامي بسهام الألم، فالبرد موجع.. أحشو غليوني ببقايا تبغٍ لَعل الدخان يدفئني.. أوقدهُ وأجذبُ منه نفساً عميقاً.. وكالحسرة أُخرج الدخان من فمي!
أحضرتُ إبريق الشاي، ووضعتهُ على المدفأة الباردة.. نظرتُ إلى صندوق الدمى.. تراءوا لي.. وأولهم قائدهم بجبروتهِ.. قبلَ أيام استاء الأطفال منه.. كانَ سفاحاً.. كم قتل ؟! لقد أثار ذعرهم.. إننا نفعل كل هذا ، نصنع الدمى ونؤلف الحكايا لنسعد الأطفال لا لنحزنهم.. سأحرقهُ.. فخوف الأطفال أقسى من أن يتحملهُ ضمير إنسان!
سحبتهُ ووضعتهُ في المدفأة.. احترق بسرعة.. كانَ قائداً من خرق! باحتراقه تصاعدت ألسنة النار.. التمعتْ أمام وجهي.. أدفأتني قليلاً.. عدتُ إلى الصندوق وخاطبتهم:
_ قوموا فأنتم أحرار.. ما عدتم جنوداً.. لقد انتهت الحرب، فقد مات القائد.. انتهت الجولة.. قلنا له (كش ملك)! بفضلي أصبحتم أسياداً.. أُمراء وجنوداً ولكم أسماء مهيبة. لكنني قررت _قلتها بعظمة_ أن أحرقكم! سأصنع لكم هذهِ المرة قائداً رحيماً ، عادلاً _أضحكُ في سري.. هل أخدع الحياة أم أخدع نفسي_ فقد يوجد قائدٌ رحيم على وجه الأرض! ستتحولون إلى زُراع وعمال.. وسنبدأ بحكايا دافئة، رومانسية، حالمة لبلدٍ حالم.
رميتُ بالجنود واحداً تلو الآخر.. ألسنة النار تتصاعد أكثر.. وبدأت رائحة الشاي تغزو رأسي.. رائحة الشاي أعذب وأطيب من مذاقهِ.. صببتُ لي قدحاً، إن الشاي والتبغ ثنائي لا يمكن الاستغناء عنهما.. عمّرتُ غليوني ثانيةً وسحبتُ منه نفساً طويلاً ونفثتُ دخانه ببطء لأتأمل حلقات السحب المتكونة والصاعدة إلى فوق!
انبثق من الظلام صوت موسيقا مجسم.. أصغي إليه بصمت.. وامتلأ المكان فجأةً بفراشاتٍ صغيرة لامعة تحوم حولي بأجنحةٍ ذهبية مضيئة تتراقص في حلقاتٍ دائرية وكأنها في مهرجانٍ سحري.. أُراقبها وأصغي إليها بكل إحساسي الطفولي نحوها.. أصغي إلى فردوسي! ونمتُ مرهقاً.. وعندما استيقظت في الصباح وجدتُ كل شيء هادئاً وبارداً!
رحل الشتاء وهو يلملم أيامه بكل ما فيها من برد وأمطار وأوحال. صنعتُ دمىً جديدة.. جعلتُ منهم عمالاً ومزارعين وصبايا وشباباً.. وصبغتُ مسرحي بألوان منشرحة، وألفتُ حكايا جديدة لها حسّ إنساني!
تأخذني الدروب الترابية عبر حقول تحيط بدربي الضيق.. بيوت صغيرة سقوفها قرميدية.. دجاجات وإوزات تتسابق معي وكأنها تدلني على الطريق نحو قريتهم.
نصبتُ مسرحي، وتدفق الأطفال من كل صوب نحوي وجلسوا متراصفين.. وبدأ العرض.. كانت الحكاية (قصة حب)!
في السابق كان الصمت يسود الجميع، ويُزرع الخوف في تلك الوجوه البريئة وهم يتابعون الأحداث.. لكن في هذهِ المرة لحظتُ شيئاً غريباً .. نبرة المياعة والتهاون سادت جمهوري الصغير.. الاستهزاء ، والتصفير أسمعهُ بشكلٍ واضح، سادَ الهرج والمرج بينهم، وشمل حتى الفتيات الصغيرات اللواتي تجذبهن مثل هذهِ الحكايا!
عدتُ إلى كوخي في المساء مُستاءً، حزيناً، صنعتُ دميةً جديدةً وملأتها خرقاً كثيرة لتكون أكثر قوةً وصلابةً.. وألبستُها ملابس (خاكية)! تأملتُها بإمعان: - تبدو قائداً جسوراً. ووضعتُ في يدها سوطاً غليظاً وطويلاً.
توقفتُ برهة، ونظرتُ من خلال النافذة نحو القرية :
_ صنعتُ لكم قائداً أكثر شراً.. فهذا يكفي لأن تكونوا كلكم هادئين مطيعين!
www.postpoems.com/members/gulizaranwar