الطريق الى بغداد .. طريق الى القلب


(( الطريق إلى بغداد ))
طريقٌ إلى القلب


 كُليزار أنور

 

 لبغداد خصوصية جميلة في قلوب الأُدباء ، وليسَ العراقيون فقط . منحها الله شهرة تُحسد عليها . بغداد .. رمز ألف ليلة وليلة .. مدينة السحر والجمال سابقاً ، والآن .. ما هي إلاّ مدينة مزقتها الحروب . لكنها ، رغم كل هذا الخراب .. تبقى جميلة وساحرة .. تسكن القلب وتنام في حدقات العيون .
 المكان .. يا لسحرهِ .. كم يؤثر فينا ، وكم يعذبنا بذكرياتهِ .. ولبغداد في قلب كلٍ منا غصن ذكرى نابض بالخضرة الدائمة !

 من جديد أكتب عن القاصّة المبدعة بُثينة الناصري .. حباً وإعجاباً واعتزازاً .


 (( الطريق إلى بغداد )) . تسعة عشر قصة كُتبتْ مابين ( 1993 _ 1995 ) .
 بلغتها الموسيقية المعهودة . لغة هادئة ، مثيرة تجذبنا بجرأتها وتفردها . لغة رومانسية .. ذكية .. توظفها بشكل مدروس ، لها القدرة على بعث الحياة في المشاهد من خلال كلماتها .

 
(( الطريق إلى بغداد )) .
تخرج السيارة من محطة عمان نحو بغداد في ليلةٍ ماطرة من كانون ، وما أن تسدل الستارة حتى تعود بها الذاكرة إلى بغداد .. ويتراءى لها وجه ذاك الحبيب الذي كانَ يسميها " امرأة من مطر " . وتقارن بين المطر  في كل مدن الدنيا التي زارتها وبين مطر بغداد الرحيم ، الصديق التي تُشبه حباته كدموع الأطفال من صفائها .

إنها امرأة / كاتبة ولدت في كانون .. ويحلو لها أن تكتب في ليالي كانون الممطرة . وكم كانون مَرّ وهما بعيدين عن بعضهما .
 
وتتذكر قصف بغداد .. وهي بعيدة عنها _ حتى قصفها شتائي _ تتذكر ابنها "عمر " . وتتذكرهُ .. هو .. إلى أن تصل الحدود (( حتى البرد على هذا الجانب من الحدود لهُ طعمٌ آخر )) ص 17.
  
(( البحر )) .
وصفٌ حكائي . لكن ، دون حكاية !

 

(( الليلة الأخيرة )) .
عاشق وعاشقة ، هما زوج وزوجة . قررت في هذهِ الليلة أن تختار السفر كنقطةِ نهاية لحياتهما معاً .
بذاك الأسلوب الذي تعودناه من القاصّة .. ذاك الأسلوب الرومانسي ، الحساس ، الهادئ لحد الدفء . تطلب منهُ أن يطفئ الضوء .. وتوقد شمعة صفراء .. ويجلس قبالتها ليتحدثان لآخر مرة .
ويمضي الليل ، وفي الصباح تشطر الصورة الوحيدة التي كانت تجمعهما .. تضع صورتها على المنضدة القريبة من السرير وصورته في جيب الحقيبة التي حملتها (( خرجتْ إلى الشارع دون  أن تنظر إليهِ وسارت مُحاذرة أن تلتفت إلى النافذة التي تعرف جيداً انهُ يقف الآن فيها .. كما تعرف تماماً أنها لو التفتت .. لو التقت عيونهما مرة أُخرى حتى ولو للحظة خاطفة فلن تستطيع أن تبرح المكان بعد ذلك أبداً )) ص 45 .  

 

(( الليلة الأولى )) .
ربما هي الجزء الثاني من قصة " الليلة الأخيرة " أو تكملة لها . هل هي نفس البطلة ؟! أكيد .. رغم ان القاصّة لم تقل ذلك !!
إنها الليلة الأولى لزواجها الثاني . أصبحت امرأة في منتصف العمر وهو رجل تقترب أعوامه من الستين . وقررا أن تكون ليلتهما الأولى في فندق ! وتكتشف من طريقة تصرفه مع النادل بأنهُ بخيل .. والبخل أكره صفة في الرجل !  
 تغيب اللهفة في الزواج الثاني لذا يتنقلان ما بين الحديقة وبهو الفندق والغرفة ((وما أن ساد الظلام حتى أحستْ بفورة الشوق فالتصقت بهِ وفيما كان .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. وقد تقطعت أنفـاسها ( انتظر يا أحمد ) . )) ص 74 .

 وتدعو الله في سرها أن لا يكون قد سمعها . لكنهُ ، سمعها .. ولم يكن ( أحمد ) سوى زوجها الأول ! 

 

(( سبق صحفي )) .
قصة جميلة تجذبنا غرابة اسلوبها وصياغتها الدقيقة . قصة صحفي فُصلَ من عملهِ .. يقصد حانـة ليسهر فيها ، ويجد لهُ رفيقاً يحكي لهُ حكاية غريبة عن منزلهِ . رغم ملله إلاّ أن غرابة القصة تجعلهُ يطلب منـهُ  أن يرافقهُ  إلى منزلهِ لبضع دقائق  ، فقد وجد في حكاية هذا الرجل فرصة رائعة لكتابة تحقيق صحفي مشـوق ربما يعود بهِ إلى عملهِ في الجريدة . ويرافقهُ .. ويدخل .. ويصل إلى الشرفة (( في الصحيفة المسائية لليوم التالي ظهر الخبر مقتضباً :

 ( انتحر ليلة أمس صحفي شاب بسبب فصله من عملهِ في صحيفةٍ معروفة ، بأن ألقى بنفسهِ من شرفةٍ في الطابق الثاني لمنزلٍ مهجور . وقد تبينَ من إفادة البستاني الذي عثر على الجثة صباح هذا اليوم بأن المنزل لم يدخلهُ أحد منذ وفاة صاحبه بسقوطهِ من نفس الشرفة قبل خمس سنوات ) . )) ص105 .


(( القطار المسافر )) .
قرأتُ هذهِ القصة قبلَ سنوات بعيدة منشورة في إحدى المجلات العراقية . قرأتُها كقارئة .. وأُعجبتُ بها كثيراً .. ولم أكن يومها قد دخلت عالم الكتابة أصلاً !
زوج وزوجة يدخلان مقصورة قطار ، وإذا بزوجين آخرين يدخلان نفس المقصورة .  ويتسمر الرجل مذهولاً عندما يلقي التحية عليهما .. وتُحدق فيه _ هي أيضاً _ مذعورة ويكاد اسمه يفلت من بين شفتيهـا(( واسترقت النظر إلى كف الفتاة الأيسر " زوجته " وصعدت عينيها تنظر إليها بفضول" النوع الذي كان يستهويه .. هل تراه سعيداً " ؟
وفحص الشاب بدورهِ الرجل ذا المعطف المطري الأسود " لم تكن تحب هذا النوع من الرجال .. هل تراها سعيدة " ؟ التقت عيونهما للحظة ، ثم أشاح أحدهما عن الآخر . )) ص 134 . 
 المفاجأة الجميلة والرائعة في القصة أن هذا القطار الذي يسافر غرباً هو نفسهُ الذي سافر بهما ذات يوم ، ولم يكن في المقصورة سواهما . واليوم يجلسُ أمامها عاقلاً ، هادئاً برفقةِ امرأةٍ اخرى يصنع معها ذكريات جديدة !
 ومن محاسن الصدف أن ينام زوجها وتنام زوجتهُ .. ينظران إلى بعضهما ويبتسمان بمرارة (( يقف على باب المقصورة .. ينظر إليها " لا كبرياء لي معكِ .. ها أنا أقفُ أمامكِ مهزوماً .. أشتهي أن ألمس ظهر كفكِ .. أُمرر عليهِ أصابعي .. لا أُريد أكثر من ذلك .. لو ترضين .. تعالي مدّي يديكِ.. ليذهب كل شيء إلى الجحيم ".. " ألمح الجنون في عينيك .. دعني .. لا تراود جنوني .. أية عاصفةٍ ملعونةٍ طوحت بكَ هنا ؟ " )) ص 138 .
 جاءت معهُ إلى هنا صيفاً .. كانت فيروز تغني يومها " حبيتك في الصيف " . وصل القطار وهبطت إلى الرصيف برفقةِ رجلٍ آخر وهو برفقةِ امرأةٍ اخرى .. وصوت فيروز يضيع وسط الزحام والريح والبـرد" حبيتك في الشتي " !!

 

(( مانيكان )) .
ما يدهش في اسلوب القاصّة بثينة الناصري طريقة بنائها للحكاية ومعالجتها الدرامية الشفافة .. وهذهِ الرقة التي تنثرها بين السطور .. إنها تُدخل الدفء إلى رؤوس الأنامل لتمتد كلما امتدت بنا القراءة لتصل إلى القلب !

 

(( انتظار السيدة )) .
كتابة الرسائل فن بحدِ ذاتهِ . وهي لا تختلف عن القصة والرواية والشعر ، وربما توازيها كإبداع حقيقي . والأديب أكثر الناس دراية بكتابة هذا النوع من الفن الجميل .
قصة حب تولد _ من خلال الرسائل _ بين قاصّة تعيش في القاهرة ورئيس تحرير مجلة يعيش في بغداد. (( عندما مضت بالرسالة إلى مكتب البريد شعرت وهي تلصق الطوابع وتكتب عنوانهُ تذيلهُ باسم وطنها الذي غادرتهُ منذ سنوات .. بأنها تعود بشكلٍ ما إلى وطنها .. وأنها لم تعد وحيدة في غربتها بعد وفاة زوجها .)) ص 152 .
 وذات يوم يبعث لها ببرقية مفادها بأنهُ سيصل إلى القاهرة بعد يومين لحضور ندوة ثقافية .  وتنتظر .. يمر يومان ويليهما شهران .. وسنتان .. لم يحضر ، ولم يرد على الرسائل التي كانت مستمرة بإرسالها له .
  وتمر الأيام .. حتى ان ساعي البريد أُحيل على التقاعد واستلم محله أحد الشبان . بعدها لم تقترب منضدة الكتابة . وكل سلواها في حياتها الرتيبة قراءة تلك الرسائل _ التي حولت أيامها إلى حلم _ كل يوم .

 وبعد سنين يُطرق بابها .. وعندما تفتحهُ يقابلها رجل أبيض الشعر يقاربها سناً .. تصفْقْ الباب بحركة لا إرادية (( تلفتت حولها بارتباك .. فكرت لو كان عندها فسحة من الوقت .. فيما راحت أصابعها المرتجفة تسوي خصلات شعرها المتناثرة .. قبلَ أن تتشبث بالآكرة لتفتح الباب . )) ص 165 .


 (( الطريق إلى بغداد )) . قصص تضج بالمعاناة والألم الحقيقي والنشاط المتقد والحيوية والضوضاء . انساب إلينا اسلوبها انسياب الأنهار الحزينة بكل ما تحملهُ من ذكريات على ضفافها! 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* " الطريق إلى بغداد " . مجموعة قصصية للقاصّة بثينة الناصري .. صدرت عن دار عشتار للنشر / القاهرة / 1999 / الطبعة الثانية .

www.postpoems.com/members/gulizaranwar
 

 


 

View gulizaranwar's Full Portfolio