ما أتلفته الرفوف
بيات محمد مرعي
بعد صلوات ضارعة في ساعة متأخرة .... والرؤوس مدفونة في أغطية ثقيلة أكثر من ثقل الليل .... وقعت الأحلام لتلف دفء الأجساد المحنطة بالنوم .... وصفير الرياح يضرب الأبواب الموصدة من مناخير البرد القادم من شوارع ضيقة مسكونة بالوحشة .... خفتت اضاءة الأعمدة المتراصفة على أرصفة منقوعة بالمطر والذكريات ونياشين عجلات عربات رعناء جرت في خيال خصب للباعة البسطاء الذين لاحقتهم مطارق الريح الباردة فبعثرت حاجياتهم المتواضعة ....
لم يعد أحد يتوقع قدوم الزائرين الذين اعتادوا على مجيئهم ليملأوا حقائبهم بقلائد شهوات رطبة .... لقد لبست المدينة فروة خروف عجوز ، وسادت فترة صمت كي تغفو في رغوة احضان النسوة اللواتي افتقدن استفاقة شهوات ازواجهن طوال النهار .... سكنت المدينة بعزلة شناشيلها القديمة وأزقتها المخنوقة بمخابيء الضيق وقناطرها الملطخة بالعتاقة .... بعد أن طردت شيئا من دفء ماتبقى من بريقها نحو الشوارع الباردة .... أنهى الرجال لقاءاتهم السرية في أفرشة نسائهم وأداروا للأحلام أرواحهم اللائبة ، حينها طاف حشد كبير من أرواح تغتال الحلم بفؤوسها بين الدروب ... الدروب .... المؤدية الى المحنة التي نفضت رمادها الجمري لتنقض في صمت عميق ... المحنة التي لم ينج منها سوى ( آدم ) الشاعر المتسلل من وسط المدينة الى ضفة النهر هربا متسترا عن أنظار الغزاة الذين أحرقوا كل شيء وهم يشهدون آلاف الصور الفاجعة ، تاركين تراكم دمارهم متناثرا هنا وهناك .... توقف سفر حلم الفراش في مستنقع ساخن ، ومات الخيال الجموح في لعب الأطفال بين مساكن مهدمة لم تعد تحتضن الثرثرات ، وأمتد الزحف الوحشي الى مواشي الفلاحين وأثمار أشجارهم الكانونية ... فبدت المدينة كحطام بركان أهوج ، بعد أن مرت فيها ثلاث ساعات بطيئة تشكو زمنها وهي تعانق الموت ... كان رجالها يقاتلون ويتجملون بالصبر والصمود بكل قواهم الروحية الهاجعة كي ينقذوا مايمكن انقاذه ، لكن سرعان ماانحدر صبرهم وصمودهم للأضمحلال ليكونوا في عداد المصروعين ... لم يكن هناك معين يأتي بايقاف الملحمة الدموية لقد كان الغرباء بارعين في تقتيل العزل الغافين عن زوارقهم التي حطمها الغزاة أول قدومهم ... وهم يطوون صفحة بعد أخرى من القسوة واللامبالاة مكتسحين كل ماوقعت عليه انظارهم ... لم يتركو سياجا أو جدارا الا وكان لهم فيه اختراق وهم يسجلون كلمات لعنتهم معلنين عن تهشيم الأرض كلها فيما لو تجرأت وحاولت فتح النوافذ الآمنة على النهر العظيم بوابل من اللهب ... التحمت الأصوات والصلوات بعد ساعات طويلة مخنوقة من هلاك أصعق المعمورة ... كان (آدم ) الأسمر قد عقد حاجبيه تعبا متقدما الفارين الى آخر الزوارق المنسية عند النهر ، متلعثما بأطول القصائد الحزينة الباكية من هول ماجرى ...
كاشفا عن رعب نفسه الباحثة عن ارتواء لأشياء كثيرة وهو يهجس فيها قصص المدينة المفجوعة التي نزلت بها براثن سود نبشت أسرارها وذكرياتها وليلها المنتفخ بالحكايات وملائكة الألهام المدبرين قبل ساعات ...
طاله التعب بيد شيطان فأسقط جسده على صخور الارض موشومة بأقدام الغرباء التي رسم وهجها بعد أن دهس أعشابها الرطبة على طول الساحل ، ثم غطى وجهه بكفيه ليحجب شيئا من مرارة الحقيقة التي تجرعها على مضض ، وفي رأسه أصوات نكرة ترعش قامته الطويلة محاولة ايقاظ نسيانه المعتاد ،تصطحب ترداد ضحكة الغازين في وجوهم الملفوحة العالقة على صيوان أذنه، تمزق آخر القصائد المرتبكة المتدفقة بالألم .... بينما لعلعة الرصاص تشق بأشعاعها الأخاذ حجاب الصمت وهي تتنزه بين أجساد أبناء النهر الممتدة مياهه بلون غامق مائل للأحمرار .... ما زالت نوافذ المدينة تترك أنينها للذين تنز نظراتهم خلالها .... نزلت عيناه مع انحناءة الوقت والأنتظار المميت ليبقى الأفق مسرحا ساخنا لراقصات اللهب في قلب المدينة الطائرة على بساط الأدخنة والرماد .........
يتقرح السؤال في جرح الذهن باحثا عن ضماد جواب يتيم
أنجوت لوحدي ..... ؟ ..... أم ....
تنهد مزيحا الخوف عن صدره ، ثم تدرج نحو خط النهر ليملأ كفيه برائحة السمك ودوائر المياه تصطدم بأصابعه القلقة ، تشغله ضياع أكبر الدوائر التي ولدت قبل لحظات ثم ماتت قوامها أنتحارا .... يقطع شروده ذلك الظن من أن وقع أقدام متعثرة تقترب من خلفه ..... استفز لها كأن وحشا جاء مداهما له ....
أخذ يدور كنحلة بجناح واحد ، وعيناه تجولان يمينا وشمالا تحاول شق ستار الليل ... حتى تعلق بنظراته في دروب خلت من الأشياء كلها ، سوى نسمات بارود قادمة من مجزرة المدينة المبتلاة بدمائها وأوجاعها ...
نشطت في ذهنه حكاية جده الخرافية وهو يروي سيرة الليالي السبع الحرجة حين فرت الأرض وبقيت الطيور تبحث عن محط لأقدامها ... دون جدوى ، حتى جفت عروق أجنحتها فسقطت ميته ... قطع الحكاية ولملم توارداته الباردة في اغماءة أثلجت الحواس ، ثم أسرع نحو صخرة تبدو كناب تمساح عجوز يحدق في المسافات البعيدة مشغولا بأفكاره المضطربة لعوالم المدينة التي تركها محترقة ... سحب رأسه المدبب الى الأعلى حرصا منه على مراقبة المشهد بدقة متناهية .... كانت الريح تعصف بثيابه الممزقة المشبعة برائحة غبار القتال ، ثم أرجع دولاب ذكرياته في لحظة حنين وتحسر على أشياء عديدة ....
رفوفه المقوسه/ دراجته الهوائية / مكتبة التراث / سلالم أسوار المدينة العملاقة / معبد الأيتام والتائهين / مخازن الزيوت النباتية / مجمع القطن الطبيعي / محارق الفحامين والحدادين / وأشياء عديدة لفتها محارق المدينة التي تشوي عرابيدها السود الأن ...
يمر الوقت بطيئا ممزوجا بحبر الفاجعة ، ومازال (آدم ) يرقب الطريق الملبد بالويلات مخنوقا بحسراته ... استل دعواته من دفء صدره النابض مسرعا ، حط برثائه على توابيت لفها زئير الصولة .... يطرد مخاوفه ويردد تعاويذه بصوت مسموع رغم أن وصايا كاهنه العتيق ما تزال تحفر في ذاكرته سلطة المقاومة والصبر .... تذكر تلك الأيام التي مرت على اعتصامه في معبد أسرار الرفوف قبل عشرين عاما ، حينذاك عندما أدرك فيها شعائر الطقوس الألهية ومفاتيح اخماد هجمات الأرواح الشريرة على مملكة سكونه وصمته العميق ... انفجر مدويا وهو يصيح ... اهمدي ايتها الأرواح الشريرة اهمدي ايتها الأرواح الصفراء .... وخذي دربك الى الرميم لقد أمطر الأرض ببذور دعواته وتعاويذه حتى تفرقعت في رأسه فكرة الهروب بعيدا كي يتحاشى الخطوات النازية الزاحفة اليه .....
ترجل ( آدم ) نحو آخر الزوارق ليعده للرحيل ....
بدأ يعقد في حباله المتقطعة قوة وصبرا عسى أن يطوف نحو جزيرة سمع عنها بفعل أجترار الذكريات والحكايات القديمة ....
التي تقول أن طيورها تضرب أجنحتها لأنها لاتحتمل الضيوف المفاجئين .... هناك حيث اخضرار الأرض المرصعة بصخور ملساء وسواقي عيون عذبة تركت عشقها لجذور أشجار مكتنزة ثمارها أملا ولذة ، ليمتزج الحلم بالحقيقة فيها مثل ماء البحر المالح ، ويبقى الأمل أثيرا تخترقه سحابة من الوقت ، والمدينة تفتح جروحا وتهيء قرابين لاتعدها أو تحسبها أصابع الكفين ، كثور يركع ذليلا أمام متحديه .. لم تعد عجلة الأخبار تدور في مسلك واضح .. الا ما شهده (آدم ) أول هروبه عن / موت عازف الناي / وصاحب مطحنة القمح / وبائعة الورد المدللة في ضجة المقاهي / .... المقاهي ... المزدحمة بجنود الشطرنج وأرقام الدومينو فيما مضى .... لابد أنهم كانوا علامة رهان للموت ...
أنقطع الخطاب .... والتكهنات كلها تقول أن أسوار المدينة تهشمت وسقطت قناديلها العتيقة خجلا من أرواح الذين سقطوا .... تلك الأسوار التي شهدت فيضان النهر العظيم قبل خمس وعشرين سنة ، وأزدحمت بواباتها بفصائل الجنود في عيد تتويج الملك قبل عام الفيضان ، ومنذ ذلك الوقت كان لها الفضل في صد هجوم المتسللين في أنصاف الليالي ، لتمسي الساعة مجرد أطلال لاتستطيع الأعلان عن تاريخها المزدهر بالبطولات ... وما زال (آدم ) يخدش ذهنه حال المدينة وجحيم عواصفها ... كانت أصابعه تسمع فرقعاتها في فناء فسيح وتنشد أنشودة ارتباكه ، لكن فكرة ماكرة تطارده ... يحاول أن يتحاشى صور الفاجعة قليلا كي يشد أمواج الرحلة ويسمو بألفة روحين في ذاكرته التي نصبت له صورة صديقه المحارب (ترتانو) لصلابته وشدة بأسه .....
والذي لم يقدر على الفرار لاستماتة روحه للدفاع ، كان يخترق الحشود بقوة قلّ تواجدها في جعب محاربين آخرين ، يشق صفوف الغزاة وعيناه تتركا وميض غضب مهول .... صاح به (آدم ) حين رآه هناك وطوق الدهشة بلقائه تفك عنقه من شفرة السيف .... استعصت حسرة في صدره وتمنى أن يكون بقربه الأن ليدون ثورته فوق أحد رفوفه ، أو ليأخذ منه مابقي من صلابة قلبه حتى لايتركه صريع النمل الأسود .... في لحظة البكر للقتال كان قد التقاه فأندفع اليه كرمح صياد جائع يستمع اليه عن فصول صولاته ساعة زحف النيران فوق رمال الدروب المنتشرة .... كان يصف له اللعنة التي جاءت بشوق كبير نحو المدينة فأحالت المساءات الى جمر وبكاء ... محكما بدروب جاءت به اليه مخترقا سواتر الأجساد ، مقتولا بحواسه الملامسة جذور أظافره الخشنة والتي خدشت مقلتيه وهي تمسح دموع محارب مهزوم .... حاول أن يحتكم للموت كي يتوضأ بدماء رجاله المبتلين ... رغم أنه ينحدر من فناء فسيح مزدحم بحكايات الموت .... لكن خطابه المقطوع من شفتين متيبسين ، لم تبق من رثاء ( الترتانو )* شيئا يذكر حتى شوهد جسده الممتليء بالطعنات في حفلة كلاب جائعة ...
لملم (أدم ) أوراق ذكرياته الحزينة وهم بالرحيل ، وتحاملت قدماه بأتجاه زورقه الصغير عند خط النهر يبغي سفرا نحو أمل اليباس .
ومع قامة الليل انطلق فارا بالحلم والنجاة صوب جزيرة الخلاص المدفونة في حفرة الأفق المستترة ويداه تحملان أبواق المحنة ....
كانت الريح تداعب زورقه الذي حمل أمنية متأججة للوصول ... وقناعة مضطربة من أنه لايملك الآن شيئا لذلك لن يخسر شيئا حين يرحل من مدينة عقم جسدها وزمنها الى بقعة اقتطعها قرش عملاق من كبد النهر ... لم يعد اللهب الراقص في امتداد أفق نظراته ، فلقد ابتعد الزورق كثيرا شاقا تياره الجارف بعد أن لف عشرات المسافات الطويلة ، واطمأن المجذاف لمطبات النهر ....
__________________________________________
* الترتانو :- Turtanu لقب قائد جيش برتبة عالية .... أو محارب كبير ... كما جاء في اللغة الأشورية ..... في عهد الملك سنحاريب 705-681 ق.م .
بينما عيونه تتحسس اختراقات جرف منحدر فوق سيل عارم في تلك الظلمة المشقوقة بمشرط ضياء القمر المراوغ لغيمات السماء المتبعثرة .... وبين لحظة وأخرى يلمح أشياء تمرق بقوة مخلفة خطا من الأمواج المرتبة بعضها البعض .... أدرك أن النهر قد تخلى عن أعماقه البعيدة وأن أحجار القعر تضرب هيكل زورقه ... أخذ يهمس في نفسه ...
شردت الأرواح الشريرة كلها ، وتسللت رائحة أوراق الشجر الدائمة الخضرة ، ربما تحملها خطوات خفاقة بطيئة أشرقت أملا بالامساك بجوهرة النهر .
- مهما طال الأمد .... سيعلو الضحى حتما ....
هكذا كان يقول له كبير الكهنة في معبد أسرار الرفوف ، حين ينتظر نبأ ما ... بدت عيناه تحدقا بالعمق كثيرا في ظلال التنبؤ الذي أحدث وقعا كبيرا ، أسر قلقه نحو واحة مطمئنة ، واعتلى حلمه ظهر حصان أبيض ... رغم أن دماء نسوة المدينة الراحلة وشم مناحات في شقوق ثيابه المفروشة فوق نعش الحلم ذاته .... لم تهدأ الريح بعد فما زالت تهز سكينة ليل بارد كأنها ترغب في ولادة جبل من الثلج ، ونثيث المطر يرشق وجهه المتعب ... أعلن (آدم ) عن قصيدة تعب المجاذيف بعد أن أدمت يداه حركتها طويلا ، فالرحلة لم تنته بعد ولابد من مواصلة الجري في طريق الحلم فأناط مهمته المتعبة الى روح (الترتانو ) التي بدأت تطارده في كل لحظة .... ثم أرتكن الى زاوية اكثر صلابة تحت مجسات المطر ... لقد أصبحت روح (الترتانو) شراعا قويا تجر زورقه نحو بصيص الجزيرة ....
دام هطول المطر كثيرا حتى أثقل جوف زورق الرحلة التي بدأت أكثر قلقا مثل مخمور ساعة الغسق ، ومتسخ وجهه مثل جثث القطبين البعيدة ....
حتى تجيء آخر الساعات التي انحنت فيها رحلة النهر عند جزيرة الأعشاب المستيقظة توا في أول اطلالة للفجر ... كانت رائحة طين الأرض الأحمر تزهو انتعاشا وتفتح نفقا في جبل اليأس بعد أن امتزجت بالنعناع والنرجس ، لتظهر الجزيرة مثل كوكب يتلالأ بالذهب ، ينفذ الضوء منها صافيا كاشفا عن الفة عجيبة وجميلة بين الاشجار ونقارها ....
تلاشت محنة المدينة شيئا فشيئا في خفايا المسافات البعيدة وحطت أقدام (آدم ) الحالم في اهتزازات الأعشاب المخضرة ، فتناثرت كلمات شعره وطافت في رأسه مثل فراشات الصباح الأول ...
كان التعب قد مر على جسده كله ، افترش (آدم ) ملايين الأوراق المتساقطة من صراع ريح الليلة الماضية وأسقط جسده على فراش أعده للتأمل ... كانت روح ( الترتانو ) تنط في ذاكرته بين الحين والآخر ، ودون أن يسترجع ذكريات المدينة أو يرتبها غفا مثل غصن اثقله ارتواءه... لكنه سرعان ما نهض مفزوعا من شيء ما وأخذ يستطلع الأرض التي قضمت عظم المحنة ... أخذ يتجول متوجساً كأن أصابعه تسير فوق الرفوف ، وعيناه تلاحقا أسراب الطيور المحلقة عاليا ... ثم عاد يطرق مشاهداته على وحدته التي تقف بقامتها وهو يحدث نفسه .....
- كأنها أرض الهبوط ... أنها كبد عاشق أرض لاتملك انتسابا لأي شيء ...
- وبعد استراحة محملة بالظنون في كشف أسرار المكان زحف الجوع اليه مثل سيل في منحدر شديد ... اندفع (آدم ) بحثا عن شيء يملأ فيه خواءه الذي شعر به متأخرا ، أخذ يعد خطوات مثمرة ومتحذرة في امبراطوريته الجديدة .... التي اشتد فيها لدغ البرد ولطمات الريح المسرعة التي أحالت شرائط ثيابه الممزقة لأشرعة رحلة مضت ...
التجأ الى كهف صغير صادفه عند الشمال ، ليرتب فيه تساؤلاته المشتبكة مع ساعات الليل القادم ....
- هل سأبقى هنا وحيدا .... ؟
- والى متى .... ؟ ماذا ينتظرني بعد … ؟
كأن يسأل نفسه مرارا وهو يتلمس تلك الصخور المتراصة في جدران الكهف متذكراً رفوفه المقوسة العنيده والتي شهدت أولى البصمات ولربما سالت عليها دماء الخطيئة الأولى ...
أدرك (آدم) أن لامفر وبقاءه في الجزيرة سيدوم طويلا فلا بد من التفكير مليا في وضع قوانين حياته الجديدة ... يتطلع الى فجر وليد .
بدأ بالساعات المترعة بالعمل والسهر لتطعن كفيه بدن الجهد سبعة أيام بلياليها ... رفعت أحجار وأشجار تراصت غصونها في بناء مسكن أدمي متواضع ... توزعت حقول خضراء من حوله وشقت سواق ترقرقت مياهها بسحر عجيب .... وحلقت ارادته بجناحي طائر أبيض توقا الى حياة جديدة .... حتى أنه جاء بالنصر على الأخطاء ... وأخذت الساعات بقراراتها الثابتة تحرث حقولا للشعر ، وتعالت أناشيد أزيز النحل في خلايا عامرة بالشهوة ... توزع الفجر على الأماني وفراش (آدم) النباتي يثير غفوة تحت عباءة سلطان شعره الجديد الذي مهد لنسمات طيبة يعانق فيه أزهارا برية .... تذكر حلم الليلة الماضية مد تطلعه في رفوف سرابه وأنتشل صورة فتاة لفت عنقها بوشاح الخوف والأرتباك حدق فيها مليا فألهمت في رأسه التماعا غريبا ، أراد أن يدجنها بين كفيه المتعبتا ، لكنها ولت هاربة نحو دغله الشعري ، تبعها بحذر وشغف غامر باللذة مأخوذا بالدهشة وهي تحمل سر اختفائها وظهورها المفاجيء كأنها فراشة ملونة في حقل مزدحم بالزهور ...
استفزها مظهره المتبعثر ، واتساخ ثياب رحلته الممزقة ، أخذ يجري خلفها في حلمه الثقيل ... فتاة حسناء نحيفة القوام ، متسخة الأطراف تشبه عاملات مزرعة القطن اللاتي كان يراهن ، وهن يجمعن أكوام قطن المدينة ، أو لربما كانت احداهن التي أحبها كثيرا .... نهض مسرعا مستبشرا أن الطريق بوحدة الذكور قد ينتهي فأرتسمت على وجهه فصول الفرح ... حاول أن يستعيد شيئا من قواه ، ثم أعتق في خياله طيرا مراوغا شالت جناحاه نحو ذكرى حسنائه ، بشفتيها الذابلتين وهو يلقيها على فراشه النباتي المزدحم بأوراق الشجر المتساقط فوق كوكب ملتهب بالرجوله ، تسربت الى ذاكرته شيئا من رائحة المدينة ، تحسر ثم أدار مسالك حديثة مع طيف حسنائه فتبعثرت قوافيه الشعرية بعيدا وعميقا في أرض رخوة ، تجذر حلمه فيها مثل زهرة فصلية .... كان يحدث نفسه المهزومة من شواطيء الحلم ، لكن قاطفة القطن التي فارقها بقدر مشؤوم عند دارها المجاور لمخازن الزيوت أول المدينة يلاحقه كل لحظة حتى أخذت تطرق بوابة غفوته وحلمه الذي لم يستطع أن ينجيها من أكفان المحنة التي تركت فيه تحسراته المؤلمة ... فما زال يذكرها تقرض أظافرها بأسنانها الناعمة كلما أحست بالخجل والخوف بلسان مختوم بالصمت دائما .... سيدة الحلم التي أفصحت عن سر فرسها الخرافية التي شهدت جموحها ففرت نحو أختراق حلمه بكتفي كبريائها ، خشية أن تذلها المحنة ذاتها والتي شدت خناقها عليه في تلك اللحظة الشيطانية ، لكن ليالي عدة والسيدة هي الضيفة الوحيدة للأحلام كلها ، رغم ذلك كله ومع كل صباح تزداد أوتاد كوخه الصغير الذي بدأ يهيأه ليصد عنه زفرات السماء المليئة بالغيوم ورشقات الأسرار والرياح الباردة ... ويحشد الجهد والتعب يوما بعد آخر مثل قطرة ماء دائمة السقوط تاركة الأثر البليغ على صخرة صماء ....
تزينت الأرض بأصناف عديدة من الغزلان والأرانب وأقفاص للطيور وأحواض للأسماك واكوار الفحم ودهان الخشب .... أزاح شيئا من قلق نفسه وامتلأت أرضه أمنا وسكينه ، حتى أنهى فصل البرد حكايته الحديدية ، فاستحكمت الأشياء كلها وجاءت بموعدها لتطفح المساءات بطيف حلم بزوغ الشمس ... لقد حفر (آدم ) حقيقة البراري البريئة الآمنة بعد أن مسته لوعة الزمن الغاضب .....
لم يعد في الجزيرة جذع مرمي الا وأخذ مكانه في ذلك الهدوء الساحر ... الذي أعاد الطيور المهاجرة الى رحم أعشاشها ، تتغازل مناقيرها على هدير مياه السواقي العذبة ... وتنفست الحقول الخضراء انعطافاتها على السفوح المتدرجة مثل نسيج دقيق ...
والسيدة ذاتها تحط بقدمها في رياض الحلم كاشفة أكوام الغرائز الدفينة ... يشد (آدم ) الحلم بكفيه التي طوقتا ثدييها المتيبستين .. ثم يعريها في ليل ساخن ، يحاول سرقتها من حلمه نحو فراشه المتيبس بالأمنيات والتعب ... لكن طرقات أبواب رجولته الوحيدة تخمد بين لحظة وأخرى يائسة مثل جمرات تحت المطر ، كلما تذكر المدينة ، يعيد الكرة مرارا ، تكبر جنبات الحلم في رأسه ... أستضاف حلمه صورتي رحيل محاربه المجروح في شجاعته وكاهنه الملفوف بأوراق تصوفه ، حينها تعكز الحلم ليدير وجهه عن جمرات نزواتها .... مع بدء يوم جديد .... تمر عجلة الأيام بساعات تقليدية ... خرجت صغار الطيور من دفء بيوضها ، كان القمر يلفلف خيوط ضيائه في حفرة ليل ما فأمسى مرآة تحفظ صورة حسناء ... سار معها (آدم) في دروب حالمة نحو وثبة سرية بعيدة ... أخذا يخيطان ما مزقته الرحلة في حضرة القمر ذاته لتشهد النجوم المبرقة واقعة وخزة الأبرة في ساعة خجولة ....
تتوغل الأيام في كهف زمن طويل ، أصبحت الأرض كوجنة مراهق تتوهج أحمرار وكمالا ... أنهى (آدم ) تحصيناته الدفاعية على طول الساحل تحسبا لما تخفيه الأيام القادمة .. بعد أن شيد معبده المتواضع وراصف طرقه بمشاعل زيت الشجر ...
أصبح لـ (آدم ) في أرضه قصة يحكيها هدير الماء ونشيد عهد جديد لزمن لاتحاصره الطعنات ، لكن قفزت الموت قدر محتوم هشم مخبأ الروح … لتطوي السنين أوراقها وتخفي أدراجها ما أتلفته الرفوف …
وأحفاد حلم (آدم ) يستقبلون المتعبدين الحفاة أفواجا من كل صوب وهم يتلون عليهم حكاية الأرواح ...
وعلى وثبة خضراء لوحة صخرية سوداء عتيقة قيل أن يد سيدة حسناء قد لمستها مازالت تحتفظ بكلمات شاعرها تعتلي البوابة العظيمة للجزيرة .... تقول ... أنا الذي شهدت مطحنة الماء… مني يبدأ العالم .