مهبط الاراجيح
رغم كهولة مصراعيه بقيت ملامح (باب جديد)* تدمدم بحكايات شفافة موزعة على اكف اطفاله الحفاة ... وألسنة
عجائزه المتكئات في أزقته العتيقة على مشهد المارة من ضيوف الابواب المجاورة .. وعلى مرمى البصر أناس تكفنوا برتابة الايام التي تشبه سابقاتها المتعشقات بأزقة الباب المتنافسة في ضيقها وارتفاعاتها او انكساراتها حتى ان نوافذ زقاق تلة ( البدن )** المرتفعة تستقبل غرباءها من بعيد وتزفر ثرثرات عذراواتها على مركز الباب المطوق بحمامات الرجال والنساء وسوق بيع اللحوم وعربات الخضر ومركز شرطة البلدة ودكاكين ( اللبانة ) والفاكهة والكرزات .. الكل في الفة متشابكة مثل اغصان ذكر التوت المتدلية من سطح بيت المختار المجاور لمنزل الحاج محمود والذي مازال نائما في حجرة زوجته الصغيرة ...
فالصباح في الباب قبل ضحكة الشمس ومن اول لحظة يفرغ الليل اكياس ضبابه على وجوه “الفعلة " المحتشدين في مقهى ( الصنف ) وحول عربة تحسين ابو العدس المطرزة بعبارات الرزق ..
_________________________________________
* باب جديد : حي شعبي في مدينة الموصل
** البدن : زقاق في حي باب جديد
وقبل مجيء الضياء الاول تتراصف الامنيات على ساتر قتالي تبحث عن دفء لها بين المعاول و (الكواريك) وأدوات البناء الاخرى فالفجر هنا طوق يخنق الامل بالذهاب الى العمل ومع بزوغه على الباب يعود "الفعلة " المتبقون والذين لم يحالفهم الحظ في اقتناص فرصة العمل الى ديارهم خائبين ... هكذا شريعة الباب المنفرجة بأذرعة طرقه الاربعة والمؤدية الى هنا ترقبها العيون بحذر دقيق حول القادم يحمل حقيبة طلب لأيادي مستميتة للعمل ....
ولكل درب حكاية ينسل منها وهج التاريخ فأولهم قامت في نهايته محطة القطار الغريبة وآخر يذكر سيرة الملك فاروق ثم ساعة الكنيسة ونواقيس برجها والثالث صوب أساطير سجن المدينة القديم ورابعهم يمد بطوله نحو النهر .. و(باب جديد) ذلك الكبد المكاني للطرق كلها ينتظر فجرا مرغما بموعد مؤجل عند جميع رجاله ( نشأت الباججي ) * والحاج ( توفيق الكبابجي ) و(دلشاد) الخباز الاصل ، وأم اللبن (حمدية) القادمة من مسافات ساعات بعمق الليل كي تفترش قدورها المحتشمة بشرف الجاموس ورائحة البقر والغنم .
__________________________________________
* الباججي:صانع آكلة شعبيةموصلية تسمى الباجة تحضرمن لحوم رأس الأغنام .
(الفعلة) البناؤون ألفوا البرد في دوي مزاحهم .. لتبقى مسالك الدروب فاتحة خير للرابضين على عتبات الرزق في مشهد يتسع ويستدعي انماطا من خلافات معتادة مرة وضحكات مستقرة مرة اخرى....
وفي ذيل ليلة ما لحظة وداع الطيور لأعشاشها ، وبينما يستذكر كل واحد من الرجال لزميله عن يوم امس الذي توارى زمنه وتعبه مسرعا ، توقفت سيارة سحبت الانظار اليها ، يظهر فيها رجل مطمئن لصباحه ويستطع الثراء على وجه سائقها ... ركض الجميع دون تردد والتفوا حولها مثل سباع جياع ، يستمعون الى حكاية فريسة تاركين مخالب البرد وقصصهم على عربة العدس او بين جدران مقهى (الصنف ) مودعة عند العم يونس (ألجايجي ) او في زوايا اخرى كانت قد احتوتهم قبل ساعات ....
وبأيماءة مفتعلة بعد ان اسدل زجاج نافذة السيارة ، حدد مبتغاه حين انتقى من بين الجمع افضل "الفعلة " الشباب الاقوياء ثم طفق بهم مسرعا الى جهة مجهولة ...
توجه حشد متبق منهم صوب درب آخر ومجموعة اخرى في طريق معاكس حتى تلاشى الجميع في وقت افرغ ( باب جديد ) جعبته من كل عماله الاقوياء .. رغم ان الأزقة المكتظة بالمنازل العتيقة تمد الباب دوما برجال جدد يزدحمون على المحلات المتراصفة يطلبون شراء فطور اطفالهم ونسائهم ...
ولم يبق من " الفعلة " سوى ذلك الرجل العجوز قصير القامة جار المختار الحاج محمود ، كبير البنائين الاول والاقدم في معجم الباب ، خليله العتيق ، منذ ان كان ( لباب جديد ) حارس يتقاضى مرتبه من القنصلية البريطانية ....
يمر الوقت ليصبح الفجر متأهبا على عتبة الزمن ....
شيخ المسجد يصفق باب جامع العمرية بعد انتهاء صلاة الفجر وتحرك جناحي الليل هروبا من مطرقة الشمس .. لتركب الحسرة صدر الحاج محمود تفر به نحو ذاكرة السنين اللزجة بمواقف شتى على عجلة خياله البطيء ....
تذكر الفصول الاولى للرحلة .. اصحابه الذين تسللوا الى مدفنهم الكبير جنوب مدينة الطوفان ... اخذ يقتفي من أثر الصور صورة ابو (نشأت الباججي) وأبو الحاج (توفيق الكبابجي) والعريف حمودي الذي هوى عليه جدار بيت السقا فمات منذ سنين بعيدة . (ببح العربنجي) حين كان يمر بعربة الخيل بعد ان يجلب ابن البك ليوصله الى القشلة كل صباح ....
تزاحمت الاواصر والخواطر في احد جيوب ذاكرة الحاج ولم يعد من يداري تنهدات تحسره لتلك الأيام التائهة في انفاق الزمن ...
الحاج محمود : كل شيء قسمة ...
ثم ماتت جملته هذه في مقبرة صمته ولجمت لسانه الذي ترك سؤالا مخنوقا ....
- اين الزائرون القدامى للباب .....؟
اجاب نفسه الحائرة ، كأنه يرثي عزاءها ، ثم تحسس الفجر الذي ادرك فيه منذ سنين طوال ان خطوات الاثرياء الباحثين عن ايد قوية من العمال تنتهي في هذه اللحظة ...
اراد ان يغادر يأسه ، علق حاله على صمت اطول شغل نفسه في تصنيع لفافة تبغه بعد ان مد يده في كيس التبغ وطلب قدح شاي جديد ، وهو يتطلع الى شوارع الباب وهي تفيض زحمة وحركة شيئا فشيئا مع يوم يولد ...
احرق لفافة تبغه ، كأنه يوهم نفسه بأن في الوقت متسعا وأن لصمته وأنتظاره مخرجا خرافيا ...
فجأة طرق زائر مضطرب حلبة صمت الحاج محمود يسأله ....
مرحبا ياعم ... ألا يوجد عمال شباب هذا اليوم .....؟
الحاج محمود :- أرسل لفافة تبغه مسرعا تحت قدمه وهم بالوقوف امام سائلة ثم تمهل قليلا ...
وهو يجيب ....
يابني لقد ذهب الجميع الى اعمالهم منذ ساعات ومازلت انتظر قدومهم ....
تندى الخجل في عقدة جبين الحاج محمود من ان يستعرض مكانته على الرجل ، عسى ان يحل بديلا لاولئك الذين رحلوا عبر دروب اعمالهم .....
نشطت الحسرة والذكريات من جديد مثل نزف جرح دافيء وانتصبت راية لعنة مستترة في صدره المتصدي من أثر شقوق الرحلة على زمنه الذي مكر لقوته فأحرقها في
( كور ) اسراره المظلمة ....
ادرك ان ( باب جديد ) لم يبق من رمق شفتي القه سوى اسمه المحفور على حجر ذكرياته .... وأن عمره لم يبق منه سوى عمر العصافير او ربما ساعات منها ... لم يعد في ساحة الباب من كانوا صبيان زمان ولم يبق من الذين عملوا تحت يده المجندة بالجهد طويلا ، اولئك الذين اتعب اكتافهم في مامضى ....
انزوى صوت سيد ( احمد بن الكفر ) وسيد ( اسماعيل الفحام ) و (محمد حسين مرعي) (بلبل الحدباء) القبانجي مطربوا زمان في فراش الحمى ولم يعد يملأ فضاء مقهى الصنف ....بقي يرقب الطريق منذ ساعات وعربة الخيل لم تأت فهي في حداد على حصانها ... تورم الهم واطبق معجم الذكريات ورحل الضباب خلسة دون ان يترك اثرا واعتلى الفجر السماء ....ترجل الاطفال عن الباب عند * ( تلة ريمه ) مهبط أراجيح العيد يجددون لعبهم المجنونة بعبق الطفولة .....
وعشرات المارة يلقون التحية على الحاج محمود المتكيء في احدى زوايا مقهى الباب لايجيب ينتظر من ينتبه اليه ميتا .....
__________________________________________
* تلة ريمه : تلة مندرسة تجتمع فيها الأراجيح ايام العيد .